قال تعالى في سورة الأنبياء: (وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا)
عن عبدالله بن مسعود قال: كرم قد أنبتت عناقيده فأفسدته الغنم، فقضى داود بالغنم لصاحب الكرم فقال سليمان: غير هذا يا نبي الله. قال: وما ذاك؟ قال: تدفع الكرم إلى صاحب الغنم، فيقوم عليه حتى يعود كما كان، وتدفع الغنم إلى صاحب الكرم، فيصيب منها، حتى إذا عاد الكرم كما كان دفعت الكرم إلى صاحبه ودفعت الغنم إلى صاحبها.
رواه الطبري.
وعن عبدالله بن عباس قال: كنا لما حكما شاهدين، وذلك أن رجلين دخلا على داود: أحدهما صاحب حرث، والآخر صاحب غنم، فقال صاحب الحرث: إن هذا أرسل غنمه في حرثي، فلم تبق من حرثي شيئًا، فقال له داود: اذهب فإن الغنم كلها لك، فقضى بذلك داود، ومر صاحب الغنم بسليمان فأخبره بالذي قضى به داود، فدخل سليمان على داود فقال: يا نبي الله إن القضاء سوى الذي قضيت، فقال: كيف؟ قال سليمان: إن الحرث لا يخفى على صاحبه ما يخرج منه في كل عام، فله من صاحب الغنم أن ينتفع من أولادها وأصوافها وأشعارها حتى يستوفي ثمن الحرث، فإن الغنم لها نسل كل عام، فقال داود: قد أصبت القضاء كما قضيت، ففهمها الله سليمان.
رواه الطبري.
ومما يروى من حكمة سليمان أيضاً، ما روي عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "كانت امرأتان معهما ابناهم، جاء الذئب فذهب بابن إحداهم، فقالت لصاحبتها إنما ذهب بابنك، وقالت الأخرى إنما ذهب بابنك، فتحاكمتا إلى داود عليه السلام فقضى به للكبرى، فخرجتا على سليمان بن داود عليهما السلام فأخبرتاه، فقال: ائتوني بالسكين أشقه بينهم، فقالت الصغرى: لا تفعل يرحمك الله هو ابنه، فقضى به للصغرى".
قال أبو هريرة: والله إن سمعت بالسكين قط، إلا يومئذ، وما كنا نقول إلا المُدْيَة.
رواه البخاري ومسلم.
وقوله: "الْمُدْيَة" بِضَمِّ الْمِيم وَكَسْرهَا وَفَتْحهَ، سُمِّيَتْ بِهِ لِأَنَّهَا تَقْطَع مَدَى حَيَاة الْحَيَوَان.
وقوله: "السِّكِّين" تُذَكَّر وَتُؤَنَّث لُغَتَانِ، وَيُقَال أَيْضًا: سِكِّينَة لِأَنَّهَا تُسَكِّن حَرَكَة الْحَيَوَان.
وقال تعالى في سورة الأنبياء أيضاً: (وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ وَمِنَ الشَّيَاطِينِ مَن يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلا دُونَ ذَلِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ)
قوله: (وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ) أي: سخّر الله لسليمان الريح، فهي طوع أمره، فكان إذا أراد المسير، أمر الريح فاحتملته إلى حيث يشاء.
وسُليمان، صيغة مبالغة لسُلَيْم، وهو تصغير: سالِم، وسالم مشتقٌ من السَلامة، وهي: النجاة، والألف والنون للمبالغة في الوصف.
وقوله: (إِلَى الأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا) وكل أرض فيها خير للمخلوق، فهي مما بارك الله عز وجل، فليس المراد به هنا موضعاً بعينه، بل تجري به الريح إلى أيِّ أرضٍ لسليمان فيها خير.
وقوله: (مَن يَغُوصُونَ لَهُ) أي: يستخرجون له من كنوز البحر، فيغوصون إلى أعماقه، ويعملون أعمالاً هي دون الغوص، أي: أهون.
وقوله: (وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ) أي: حفظهم الله تعالى من أن يخرجوا عن أمر سليمان.
وقال تعالى في سورة النمل: (وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا وَقَالا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِّنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِن كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِي النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِّن قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ إِنِّي وَجَدتُّ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ وَجَدتُّهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِن دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ أَلاَّ يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ قَالَ سَنَنظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ اذْهَب بِّكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ إِنَّهُ مِن سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ أَلاَّ تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِ قَالُوا نَحْنُ أُوْلُوا قُوَّةٍ وَأُوْلُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالأَمْرُ إِلَيْكِ فَانظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِم بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ فَلَمَّا جَاءَ سُلَيْمَانَ قَالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِّمَّا آتَاكُم بَلْ أَنتُم بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لّا قِبَلَ لَهُم بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُم مِّنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ قَالَ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَن يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ قَالَ عِفْريتٌ مِّنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن تَقُومَ مِن مَّقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ قَالَ الَّذِي عِندَهُ عِلْمٌ مِّنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِندَهُ قَالَ هَذَا مِن فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَن شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ قَالَ نَكِّرُوا لَهَا عَرْشَهَا نَنظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لا يَهْتَدُونَ فَلَمَّا جَاءَتْ قِيلَ أَهَكَذَا عَرْشُكِ قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِن قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ وَصَدَّهَا مَا كَانَت تَّعْبُدُ مِن دُونِ اللَّهِ إِنَّهَا كَانَتْ مِن قَوْمٍ كَافِرِينَ قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَن سَاقَيْهَا قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُّمَرَّدٌ مِّن قَوَارِيرَ قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)
قوله: (عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطَّيْرِ) أي: كيف يتحدث الطير، فكان يفهم كلامها، وليس المراد أن الله تعالى لم يعلّمه سوى لغة الطيور، بل علّمه لغة سائر الدواب، ولذلك نجده يفهم كلام النمل.
وقوله: (وَادِي النَّمْلِ) أي: وادٍ كان فيه جحر للنمل، وليس المراد به موضعاً بعينه، إذ قد ذهب بعض المفسرين، إلى أن المراد بوادي النمل، وادٍ مشهور بمدينة الطائف.
وقوله: (وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِم بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ) أي: أرادت أن تجد طريقاً للمصالحة.
وقوله: (قَبْلَ أَن تَقُومَ مِن مَّقَامِكَ) أي: قبل أن تنهي مجلسك، وتدخل إلى دارك.
وقوله: (قَالَ الَّذِي عِندَهُ عِلْمٌ مِّنَ الْكِتَابِ) كان رجلاً صالحاً، عنده علم من كتاب التوراة والزبور.
وقوله: (أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ) أي: قبل أن ترمش بعينك.
أي: أنه في الوقت الذي يسرح فيه طرفك إلى أقصى أمدٍ له ثم تكفه عن النظر، أكون قد أحضرت لك عرش ملكة سبأ، فأمره بذلك، فما هي سوى لحظات، حتى وجد عرشها ماثلاً أمامه!
ولا أحد يعلم حال الذي عنده علم من الكتاب، وهل هو بشر أو ملك، وإذا كان بشراً، فأي علم عنده منحه القدرة على إحضار العرش إلى سليمان من اليمن بهذه السرعة! ولا يُدرى ما هي الطريقة والكيفية التي من خلالها استطاع هذا الرجل إحضار العرش!
فأما الرواة فيتخبطون في تأويل ذلك تخبطهم المعتاد، وأما الحقيقة فإنه لا يعلم ذلك إلا الله تعالى، إلا أنني أرجح، أن هذا الرجل كان مستجاب الدعوة، قد علم كتاب التوراة والزبور، وعمل بما فيها، فأدى فرائض الله، واجتنب ما نهى عنه، وتقرب إليه بالنوافل، وأطاب مطعمه، فلا يطعم حراماً، فكان مجاب الدعوة، فدعا الله تعالى أن يحضر عرش ملك سبأ إلى سليمان، فأمر الله العرش أن يطير من موضعه، حتى مثُل أمام سليمان.
ولعل قائلاً يقول: لو كان هذا هكذا لكان نبي الله سليمان أولى منه بذلك؟ والجواب: لا شك أن نبي الله أولى منه بذلك، ولكن نبي الله ذُهِل ولم ينتبه لهذه الوسيلة العظيمة، فهو بشر، يسهو وينسى، فذكّر الله تعالى بها هذا الرجل الصالح، فلما أخبر نبي الله بأنه قادر على أن يأتي بعرش ملكة سبأ قبل أن يرتد إليه طرفه، تعجّب نبي الله منه، وأراد أن يعرف ما هي الوسيلة التي سوف يعملها ليحضر عرش ملكة سبأ بهذه السرعة، وعندما رأى الوسيلة، تفطّن لما كان قد ذُهِل عنه سابقاً.
وقد استغل مشعوذوا الصوفية والرافضة هذه الآية، لتشريع شعوذتهم، متذرعين بأنهم أولياء صالحين، وأن عندهم من القدرة، مثل ما عند الذي عنده علم من الكتاب، وأن العلم الذي أعطيه ذاك الرجل، هي رموزهم وطلاسمهم الشركية، التي يستدعون بها الجنّ، ويستخدمونهم بها في طاعتهم، وقضاء حوائجهم، وحوائج الناس، فيما لا يرضي الله تعالى.
وهذا مردود من الآيات، فلو كان ما زعموه حقاً، لما احتاج سليمان إلى عون ذلك الرجل، فسليمان أصلاً يستخدم الجن دون الحاجة إلى رموزهم وطلاسمهم الشركية، فتبين بذلك، أن الرجل الذي عنده علم من الكتاب، استخدم شيئاً أخر، غير الجنّ.
وقوله: (قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ) أي: أراد أن تدخل قصره، وتتفرّج في زينته.
وقوله: (فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَن سَاقَيْهَا قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُّمَرَّدٌ مِّن قَوَارِيرَ) أي: لما أرادت دخول القصر، وجدت أن الماء يغطي أرضيّته، فكشفت عن ساقيها، فأخبرها سليمان، بأن هذا الصرّح ممرّد، أي: مبلّط بالقوارير، وهي الزجاج، والماء تحت الزجاج.
وقال تعالى في سورة سبأ: (وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَن يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَن يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاء مِن مَّحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَّاسِيَاتٍ اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلاَّ دَابَّةُ الأَرْضِ تَأْكُلُ مِنسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَن لَّوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ)
قوله: (غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ) أي: تقطع مسيرة شهر على الدواب في غداة واحدة، وتقطع مسيرة شهر في رواحٍ واحد.
وقوله: (وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ) أي: أذبنا له عين النحاس، والقِطر هو النحاس، وأجريناها له، وسهّلنا له ذلك.
وقوله: (مَّحَارِيبَ) أي: محاريب المساجد.
وقوله: (وَتَمَاثِيلَ) أي: مجسمات من النحاس والزجاج والطين وغير ذلك.
وقوله: (وَجِفَانٍ) أي: أوانٍ للقدور، واسعة من الأسفل، وضيقة من الأعلى.
وقوله: (كَالْجَوَابِ) وهي جمع جابية والجابية: الحوض الكبير الذي يجبى فيه الماء.
وقوله: (وَقُدُورٍ رَّاسِيَاتٍ) أي: قدور كبار، راسية لا تتحرك من ضخامتها، يوقد تحتها.
وقوله: ( دَابَّةُ الأَرْضِ) أي: نوع من النمل، يأكل الخشب، حتى يجعله نخراً هشّاً سهل الانكسار والتحكم.
وقوله: (تَأْكُلُ مِنسَأَتَهُ) أي: تأكل عصاه التي يتوكأ عليها.
وقوله: (فَلَمَّا خَرَّ) أي: وقع.
وقوله: (تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَن لَّوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ) أي: أن الجنّ كانت تدعي معرفة كل شيء، وأنهم يعلمون الغيب، بما يسترقونه بالسمع من السماء الدنيا، فبيّن الله لهم أنهم أعجز من ذلك، وأن ما يقع لهم من علم الغيب، إنما هو بإذنٍ من الله تعالى وتقديره.
وقال تعالى في سورة ص: (وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَن ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ رُدُّوهَا عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالأَعْنَاقِ وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لّا يَنبَغِي لِأَحَدٍ مِّنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاء وَغَوَّاصٍ وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الأَصْفَادِ هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ وَإِنَّ لَهُ عِندَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ)
قوله: (وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ) أي: أن سليمان كان ابن داود، ولا يعرف عن نسب سليمان على وجه اليقين، إلّا أنه ابن داود، وهم من سبط يهوذا، كما ذكرت في نسب أبيه داود.
وقوله: (بِالْعَشِيِّ) وقتان، الأول: من زوال الشمس وقت الظهيرة، إلى غروب الشمس، والوقت الثاني، من أخر النهار قبل غروب الشمس.
وقوله: (الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ) أي: الخيول الأصايل، الجيّدة في سرعتها وجمالها.
قال مجاهد بن جبر: صُفُون الفرس: رَفْع إحدى يديه حتى يكون على طرف الحافر.
رواه الطبري.
وهذا النوع من الوقوف، لا تفعله إلّا أصايل الخيل.
وقوله: (أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَن ذِكْرِ رَبِّي) أي: أنها أشغلته عن ذكر الله تعالى، كأن الصلاة التي فاتته هي صلاة العصر، لأن الله تعالى قال: (حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ) أي: الشمس، ذهبت تحت الأُفُق، مما يعني بداية صلاة المغرب، وعلى هذا، فالصلاة التي فاتته هي صلاة العصر، أو أنه كان يذكر الله تعالى وقت العشيّ ففاته ذلك بسبب انشغاله بمطالعة الخيل،
وقوله: (فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالأَعْنَاقِ) أي: يمسح سوقها وأعناقها إكراماً لها. وقيل: أنه قتلها، بحيث أنه قطع سيقانها، ثم قطع أعناقها، وهذا تأويل مرجوح، لأن العرب لا تسمّي قطع السيقان والأعناق بالسيف مسحاً، بل تسميه: ضرباً، فلو كان ما تأولوه صحيحاً، لكانت الآية تقول: "فطفق ضرباً". ثم كيف يقتلها، بغير جريرة وقعت منها، وكيف يقتلها، وهو في حاجتها للحرب، كلّ هذه الشواهد، تدل على بطلان هذا التأويل.
وقوله: (وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ) أي: ابتلاه الله، كأنه وقع في ذنب من الذنوب.
وقوله: (وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَاب) أي: أنه بسبب هذا الذنب، عاقبه الله تعالى بأن ألقى على كرسيِّه، وهو عرشه، جسداً، بمعنى، أن الله تعالى سلّط عليه ملكاً من ملوك الأطراف، هجم عليه وتغلب على بلاده وجلس على كرسيّه.
وقوله: (ثُمَّ أَنَاَب) أي: أن نبي الله تعالى، انحاز بعد هزيمته إلى ناحية من الأرض، وعلم أن ما أصابه إنما وقع بسبب خطيئته، فتاب إلى الله تعالى.
وقوله: (قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لّا يَنبَغِي لِأَحَدٍ مِّنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاء وَغَوَّاصٍ وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الأَصْفَادِ هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ) أي: أن الله تعالى لم يسخر له الريح والجنّ والدواب والطيور، إلّا بعد أن تاب من خطيئته، وهذا فيه دليل على بطلان الروايات التي تزعم أن سليمان كان يتحكم في الجن قبل أن يُفتن، وبطلان الروايات التي ورد فيها أن الجسد الذي ألقي على كرسي سليمان، كان جنيّاً يخدمه واستولى على خاتمه الذي كان يتحكم بواسطته بالجنّ، وما تلا ذلك من روايات، وكل هذا كذب، فسليمان لم يتحكم في الجن إلّا بعد توبته من الخطيئة، ولم يكن يتحكم في الجن بواسطة خاتم، بل بقدرة الله الذي مكنه من رؤيتهم، والسيطرة عليهم، وأما الخاتم، فهو أكذوبة روّج لها شياطين الجنّ، ليخدعوا بها شياطين الإنس، ليوهموهم أن سليمان كان ساحراً، وأنه يتحكم في الجنّ بواسطة هذه الخواتم! لأن الكهنة والمشعوذين، عادة ما يستخدون خواتم خاصّة بهم، لاستحضار الجن، الذين يخدمونهم، فجعلوا سبيل سليمان في سيطرته على الجن، سبيل الكهنة والمشعوذين.
الجن وتعليم اليهود السحر
قال تعالى في سورة البقرة: (وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَىٰ مُلْكِ سُلَيْمَانَ ۖ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَٰكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ ۚ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّىٰ يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ ۖ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ ۚ وَمَا هُم بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ ۚ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنفَعُهُمْ ۚ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ ۚ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنفُسَهُمْ ۚ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ)
قلت: وظاهر الآية يفيد، أن الشياطين تلت على ملك سليمان السحر، بمعنى، أنها علّمت اليهود السحر، وقالت: هذا السحر كان يعلمه سليمان ويعمل به، وبه كان يتحكّم في الجنّ.
فأكذبهم الله تعالى، وبيّن أن هذا السحر الذي جاءت به الشياطين، هي مما علّمه هاروت وماروت الناس من قبل، في بابل.
ولم أجد رواية صحيحة في تأويل هذه الآية، وكل الأخبار المرويّة فيها باطلة سنداً ومتناً، فأسانيدها ضعيفة، ومتونها مخالفة لما ورد في الآيات مخالفة بيّنة، تقضي ببطلان تلك الأخبار.
والذي يظهر لي: أن شياطين الجنّ، لمّا هلك سليمان، تمثل أحدها أو بعضها، في صورة بشر، وقال لليهود وقد اجتمع ثلّة من كبارهم: ألا أخبركم بكيف كان يتحكم سليمان في الجنّ؟ فقالوا: بلا. فقال: اكتبوا. فأملى عليهم طلاسم السحر.
وقولي: أنه طلب منهم أن يكتبوا ذلك، لأن الجنّ لا تكتب، ولا تستطيع أن تتناول القلم والكتاب، إلّا في ظروف معيّنة، وليس هذا الظرف منها.
وكذلك هي لا تستطيع أن تحمل الشيء، أو تضعه، أو تحفر، أو تدفن، أو تتناول أي شيء مادّيٍّ، إلا في تلك الظروف، والتي كان نبي الله سليمان، يهيئه لها، مما علمه الله تعالى إيّاه، ليتحكم في الجنّ، ولتتمكن من خدمته، وأما ما عدا ذلك، فهم لا يستطيع فعل أي شيء.
فلما ألقى عليهم الشيطان ما ألقى من السحر، انقسم بنو إسرائيل في شأن نبي الله سليمان ثلاثة أقسام:
فقسم ظن أن سليمان ساحر مع إقراره بأنه نبي من الله، فأجازوا السحر وتعلموه وعملوا به، وهم أكثر بني إسرائيل، لذلك انتشر تعلم السحر والعمل به بينهم.
وقسم ظن أن سليمان ساحر، وأن الأنبياء لا يمكن أن يكونوا سحرة، فظنوا أن سليمان ليس نبياً بل مشعوذاً ودجالاً من الدجاجلة، فتبرأوا منه.
وقسم أنكروا السحر وأنكروا أن يكون سليمان ساحرا، وأن سليمان إنما سخر الله له الجن، وأعطاه من القدرة والقوة ما يقهر به الجن، فالجن تطيعه خوفا منه، وأنه نبي الله حقا، وهم أهل الحق، وهم أقل تلك الفرق.