قال تعالى: ﴿وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَىٰ مُلْكِ سُلَيْمَانَ ۖ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَٰكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ ۚ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّىٰ يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ ۖ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ ۚ وَمَا هُم بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ ۚ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنفَعُهُمْ ۚ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ ۚ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنفُسَهُمْ ۚ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ﴾ [البقرة]
لما كثر بنو نوح بسفح جبل الجودي، أخذوا يتفرقون في البلاد شيئاً فشيئاً، فمنهم من اتجه شمالاً، ومنهم من اتجه شرقاً، ومنهم من اتجه غرباً، ومنهم من اتجه جنوباً.
فنزلت طائفة من بني نوح عليه السلام بالعراق، وبنو لهم مدينة اسمها بابل.
وبابل اختصار لكلمة: باب إيل، أي: باب الله. فاختصر الاسم إلى: بابل، كما نقول في جبرائيل: جبريل، وفي ميكائيل، ميكال، ونحو ذلك.
ومن تسميتها يظهر وبجلاء، أن من قام ببنائها هم طائفة من المؤمنين بالله تعالى، وأنهم كانوا على دين أبيهم نوح عليه السلام.
وهي أوّل بلد تعلّم وعَلّم السحر، وكان السبب في ذلك، أن الله تعالى أنزل ملكين كريمين، أحدهما اسمه: هاروت، والأخر اسمه: ماروت. وأمرهما أن يعلما الناس السحر، فتنة وابتلاء من الله لخلقه، كما يبتليهم بصنوف من البلايا، ويفتنهم بصنوف من الفتن، والدليل على ذلك قوله تعالى: (وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّىٰ يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ) أي: إنما أنزلنا لنعلّم الناس السحر.
وأمرهما أن يعظا الناس قبل أن يعلموهم السحر، فيقولا لكل من قدم عليهما ليتعلم السحر: إنما نحن فتنة، أي: أنزلنا الله فتنة للناس، وأن هذا العلم لا يتعلمه أحد إلا كفر الكفر الأكبر، وخرج من الإسلام، فلا تكفر ولا تخرج من الإسلام، فإن أبى وأصر علّماه.
فهبطا في صورة بشر من بني آدم، واتخذا لهما منزلاً في بابل، والدليل على ذلك قوله تعالى: ﴿وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَّجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِم مَّا يَلْبِسُونَ﴾ [الأنعام] أي: أن الله تعالى لا ينزل ملكاً للبشر، لأيّ أمرِ كان، إلّا وهو في صورة بشر، ويعيش كما يعيش البشر، في الظاهر.
وأظهرا أن عندهما علمٌ ليس يعرفه إلّا هما، فتقاطر الناس عليهما، يتعلمون منهما السحر، فكان لا يأتيهما أحد إلا وعظاه وحذّراه، كما أمرهما ربهما، فإن أبى وأصرّ، علّماه، فهلك بسببهما أُمَّةٌ من الناس، وأقام هاروت وماروت في بابل ما شاء الله أن يقيما، ثم ارتفعا إلى السماء من حيث جاءا.
فما لبثوا زماناً، حتى صارت بابل جحراً للسحرة والمشعوذين والكهنة والمنجمين والعرافين والفلاسفة؛ الذين لم يكونوا سوى حفنة من الدجالين، الذين يمتهنون السحر والكهانة والتنجيم، ويسمونها: المعرفة والحكمة!
وقد انتقلت الفلسفة من بابل إلى مصر، ومن مصر إلى اليونان، حيث كان اليونان أوّل من دونها، وحرّرها في الكُتُب.
يقول المؤرخ الفرنسي غوستاف لوبون: "وهكذا كان الإغريق الراسخون في المدنيّة، يقولون بأعلى صوتهم، أنهم أخذوا مدنيّتهم عن مدارس العِلم القديمة، التي أزهرت فوق مجرى الفرات الأدنى، في العصور القديمة". اهـ
ويقول: "ولذلك كان يقول ديودوروس وهيرودوتس وسترابون وأرسطو وآخرون – وهؤلاء من كبار فلاسفة اليونان - أن نمو العقل البشري، كان مترعرعاً وكاهلاً فوق ضفاف الفرات، قبل أن يولد ويظهر على ضفاف النيل". اهـ
قلت: ولا شك أن من أبرز هذه العلوم، العلوم الفلسفية، وما تحتويه من شعوذة ودجل.
وكان ذلك قضاء قضاه الله تعالى، ليميز الخبيث من الطيّب، والمصلح من المفسد، والصادق من الكاذب، ومن يريد الأخرة ومن يريد الدنيا.
وأما الروايات المذكورة في كتب التاريخ والسِيَر عن هاروت وماروت، فهي روايات موضوعة مختلقة.