خلق الجِنّ

سمّي الجنّ بهذا الاسم، لأنهم استتروا عن أعين الإنس، فالجن في اللغة، هو الستر.

وكما أن الله تعالى اختصّ الملائكة بهذا الاسم، مع اشتراك غيرهم معهم في الوصف الذي يدل عليه اسمهم، فكذلك اختصّ الجنّ بهذا الاسم، مع اشتراك غيرهم معهم في الوصف الذي يدل عليه اسمهم.

وأما صفاتهم الخَلقية.

فقد خُلِق الجن من نار السموم، وهو مارج النار، وهو اللهب المتصاعد من النار عند توهجها.

قال تعالى في سورة الحجر: (وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ مِن نَّارِ السَّمُومِ)

وقال تعالى في سورة الرحمن: (وَخَلَقَ الْجَانَّ مِن مَّارِجٍ مِّن نَّارٍ)

وسُمّيت نار السموم، لأن لهب النار تصدر ريحا ساخنة، والعرب تسمي الريح الساخنة: سموم. 

وسُمّيت مارج النار، لأن لهبها يمرج مرجا، أي: يتحرك بلا ضابط، كما تقول العرب: مرجت الدابة، أي: ذهبت بلا راعي. 

وسُمي لهب النار بهذا الاسم، لأنها تلهب بحرارتها من يمسُّها.

والنار، هو ما يحترق من الأشياء، ويصدر الحرارة.

وإبليس هو أبو الجنّ، قال تعالى في سورة الأعراف، مخبرا عما قاله له إبليس: (خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ)

فأخبر عدو الله تعالى، بأن الله ابتدأ خلقه من نار، كما ابتدأ خلق آدم عليه السلام من طين.

وقال محمد بن شهاب الزهري: "إبليس أبو الجن كما أن آدم أبو الإنس وآدم من الإنس وهو أبوهم وإبليس من الجن وهو أبوهم وقد تبين للناس ذلك حين قال الله: (أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاء مِن دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلا) [الكهف]".

رواه ابن أبي حاتم في تفسيره.

وما قاله الإمام الزهري، هو الحق في هذه المسألة إن شاء الله تعالى.

وعن أبي ثعلبة الخشني قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الجن ثلاثة أصناف، صنف لهم أجنحة يطيرون في الهواء، وصنف حيات وكلاب، وصنف يحلون ويظعنون".

رواه البخاري ومسلم.

قلت: وقول النبي صلى الله عليه وسلم "وصنف حيّات وكلاب" يحتمل معنيان:

الأول: أن هذا خلق الله لهم، فهم في خلقتهم على صور الحيّات والكلاب، ومع ذلك هم ليسوا بهائم، بل خلق مُكلَّف، مثل سائر أصناف الجن الأخرى.

والثاني: أن الخبر لا يعني أنهم يخلقون على هذه الخِلقة، وإنما مراده أنهم يتحولون في صور هذه الحيوانات، عندما يرغبون في الظهور للناس، لكيلا يتعرضوا للأذى منهم، كما أن هذا لا يعني اقتصار ظهورهم في صور هذه الحيوانات، بل قد يظهرون في صور حيوانات أخرى، وإنما اقتصر النبي على هذين النوعين، لأنها أكثر الأنواع التي يظهر فيها الجن، وللدلالة على أن للجن القدرة في الظهور في صور الحيوانات عامة.

وهذا يعني أمران:

إما أنه يدل على أن الجن عندهم القدرة على التشكل في أي صورة شاءوا، فمنذ أن ينوي الجني التشكل في صورة ما، يقوم دماغه بإعطاء الأمر لسائر جسده، بالتشكل على الصفة التي أرادها الجني.

أو أن الجني، عنده القدرة على صنع صورة يجعلها حجابا بين صورته الحقيقية وبين الناس، فيبدو لهم في صورة غير صورته التي خلقه الله عليها.

وأحب الحيوانات للجنّ: من الدوابّ: الأسود، والكلاب، والقطط، والقردة، والحيَّات، والماعز، والثيران، وربما تصوّروا في صور مطايا الإبل والحمير. 

ومن الطيور: البوم والغربان.

وأعجب الألوان إليهم السواد، لذلك يظهرون على هيئة ظلال سوداء.

عن عبدالله بن عمر قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا غزا أو سافر، فأدركه الليل قال: "يا أرض ربي وربّكِ الله، أعوذ بالله من شرّك وشرّ ما فيك وشرّ ما خُلِق فيك وشرّ ما دبّ عليك، أعوذ بالله من شر كل أسد وأسود وحية وعقرب، ومن شرّ ساكن البلد، ومن شرّ والد وما ولد".

رواه أحمد.

والشاهد من الحديث هو قوله: "وأعوذ بالله من شر كل أسد وأسود"، لذلك تظهر الجنّ في المنامات في صورة أسود أو بشر يرتدون السواد، كما تتغوّل للمسافرين في البراري على هيئة سوداء.

كما يعجبهم اللون الأحمر والأخضر والأزرق، ولا أعلم لماذا يحبّون هذه الأولان، إلّا أنه لا شك أن لها دلالة معيَّنة عندهم.

وصور الجن الحقيقيّة قبيحة، وقد ضرب الله تعالى المثل بقبح وجوههم في قوله تعالى في سورة الصافات: (طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُؤُوسُ الشَّيَاطِينِ)

وقد اقتصر الله تعالى على ذكر شياطينهم دون مسلميهم، ولعل ذلك إكراماً لمسلميهم.

وأجساد الجنّ، أجساد لطيفة، حيث أعطاهم الله تعالى القدرة على الدخول في أجساد الإنس، والامتزاج بها، إلا أنهم لا يستطيعون أن يمزجوا أرواحهم بأرواح الإنس، إلّا أن لهم قدرة على تعطيلها عن التحكم بجسدها، ويقال للإنسي، الذي وقع تحت تحكُّم الجنّ: مجنون.

والجن يأكلون ويشربون.

عن عامر، قال: سألت علقمة هل كان ابن مسعود شهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الجن؟ قال: فقال علقمة، أنا سألت ابن مسعود فقلت: هل شهد أحد منكم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الجن؟ قال: لا ولكنا كنا مع رسول الله ذات ليلة ففقدناه فالتمسناه في الأودية والشعاب. فقلنا: استطير أو اغتيل. قال: فبتنا بشر ليلة بات بها قوم فلما أصبحنا إذا هو جاء من قبل حراء. قال: فقلنا يا رسول الله فقدناك فطلبناك فلم نجدك فبتنا بشر ليلة بات بها قوم. فقال: "أتاني داعي الجن فذهبت معه فقرأت عليهم القرآن". قال: فانطلق بنا فأرانا آثارهم وآثار نيرانهم وسألوه الزاد فقال: "لكم كل عظم ذكر اسم الله عليه يقع في أيديكم أوفر ما يكون لحما وكل بعرة علف لدوابكم". فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فلا تستنجوا بهما فإنهما طعام إخوانكم".

رواه مسلم.

وعن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما: أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا أكل فليأكل بيمينه، وإذا شرب فليشرب بيمينه، فإن الشيطان يأكل بشماله، ويشرب بشماله".

رواه مسلم.

ولكنهم لا يستطيعون أن يتناولوا شيئاً من طعام الإنس، ما لم يُمكِّنُهم الإنس من ذلك.

وعن جابر بن عبدالله، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا دخل الرجل بيته فذكر الله عند دخوله وعند طعامه، قال الشيطان: لا مبيت لكم ولا عشاء، وإذا دخل فلم يذكر الله عند دخوله، قال الشيطان: أدركتم المبيت، وإذا لم يذكر الله عند طعامه، قال: أدركتم المبيت والعشاء".

وعن حذيفة بن اليمان قال: كنا إذا حضرنا مع النبي صلى الله عليه وسلم طعاما لم نضع أيدينا حتى يبدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم فيضع يده، وإنا حضرنا معه مرة طعاما، فجاءت جارية كأنها تدفع، فذهبت لتضع يدها في الطعام، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدها، ثم جاء أعرابي كأنما يدفع فأخذ بيده، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الشيطان يستحل الطعام أن لا يذكر اسم الله عليه، وإنه جاء بهذه الجارية ليستحل بها فأخذت بيدها، فجاء بهذا الأعرابي ليستحل به فأخذت بيده، والذي نفسي بيده، إن يده في يدي مع يدها".

رواه مسلم.

ولكن لا يدرى هل هم يتنفسون أم لا.

هذا في شان الجنّ عامة، أما إبليس، فلا يدرى هل يأكل ويشرب ويتنفس أم لا.

إلا أن إبليس وسائر الجنّ يشتمون الروائح، وشياطينهم يحبون الروائح الكريهة ويستطيبونها، وينفرون من الروائح الطيّبة، ويستقبحونها، وخصوصا العنبر والمسك الأسود.

ولا شك أن لهم لباسا، ولكن لا يدرى هل لباسهم يخلق معهم، أم أنهم ينسجون ألبستهم كالإنس ويلبسونها.

والجن كالإنس، فيهم الجبان والشجاع، وإذا بلغ الجني الغاية في قوة القلب والبدن، قيل له: عفريت.

وأما مساكن الجنّ، فمنهم من يسكنون الكهوف والجحور وفي بيوت الإنس، حتى إن منهم من يسكن في المراحيض والحمامات.

عن أنس بن مالك قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا دخل الخلاء قال: "اللهم إني أعوذ بك من الخُبُث والخَبَائث".

رواه البخاري ومسلم.

وعن زيد بن أرقم قال: "إن هذه الحشوش محتضرة، فإذا أتى أحدكم الخلاء فليقل: أعوذ بالله من الخبث والخبائث".

رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه والنسائي.

وقوله: "الحشوش" أي: المراحيض.

كما أنهم يأوون إلى مبارك الإبل.

عن البراء بن عازب، أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن الصلاة في مبارك الإبل، فقال: "لا تصلوا في مبارك الإبل فإنَّها مأوى الشياطين".

رواه أبو داود.

وقد يبنون بيوتهم الخاصة بهم، إلا أننا لا نراها، كما أننا لا نراهم بأنفسهم.

ولذلك فإن إبليس لعنه الله، قد اتخذ لنفسه عرشاً، ووضعه على البحر، يتشبه في ذلك بالله تعالى، فإن عرش الله تعالى على البحر.

ذكر الشيخ حامد آدم موسى، من أهل بلاد السودان، وكان كاهناً من كهنة الصوفية، ثم من الله عليه بالإسلام، أنه سأل تابعه من الجنّ: هل رأيت إبليس؟ فقال: نعم. فقال: أين هو؟ فقال: على البحر، في موقع في البحر، وعنده مملكة كبيرة جداً على البحر. قال الشيخ حامد: وأشار بيده إلى جهة الغرب، أي: إلى ناحية بحر الظلمات، وهو المحيط الأطلسي. وذكر الشيخ حامد: أنه حتى تلك اللحظة، لم يكن يعلم أنه ورد في الحديث أن عرش إبليس على البحر.

فعن جابر بن عبدالله رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن إبليس يضع عرشه على الماء، ثم يبعث سراياه، فأدناهم منه منزلة أعظمهم فتنة".

رواه مسلم.

ولا اختلاف بين أهل العلم أن الجن فيهم ذكور وإناث وأنهم يتناكحون ويتناسلون مثل الإنس. 

والدليل قوله تعالى في سورة الرحمن: (لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ)

وهذا يدل على أنه يتأتى منهم الطمث، وهو الجماع والافتضاض.

ولا يدرى، هل هم يتوالدون كما يتوالد بنو آدم، أم أنه يبيضون كما تبيض الطيور والسحالي!

وأما إبليس نفسه، فلا يدرى كيف أنجب ذريّته من الجن، وكل ما يقال عن كيفية إنجاب إبليس لذريّته محض تخرّص، إلا أن ذريّته فيهم ذكور وإناث، وأنهم ذكورهم يتزاوجون مع إناثهم، فيتوالدون ويتكاثرون.

وأما صفاتهم الخُلُقية.

فالجن كالإنس، مجبولون على الخير والشر والحق والباطل والطاعة والمعصية.

قال تعالى في سورة الكهف: (وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاء مِن دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلا)

فقوله تعالى: (كَانَ مِنَ الْجِنِّ) يبين لنا أن الجن يقع منهم الشر والباطل والمعصية، كما يقع منهم الخير والحق والطاعة.

وقال تعالى في سورة الجن: (وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا)

وقال في سورة الجن أيضا: (وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا)

لذلك فالجن كالإنس، فيهم شياطين ومَرَدة.

وقد تم خلق إبليس أبو الجنّ، بعد خلق الجنّة والنار، وأسكنه الله الجنّة، وضمّه إلى ملائكتها، ومن هنا قيل بأن إبليس من الملائكة، إلا أنه وبخلاف الملائكة، مخلوق من لهب النار، كما أنه مجبول على الخير والشر، والحق والباطل، والطاعة والمعصية، بخلاف الملائكة، الذين خلقوا من نور، وجبلوا على الخير والحق والطاعة فقط.

وما نقلته هنا عن أوصاف الجن مأخوذ من القرآن والسنة، ومن بعض من كان له علاقة بهذه الكائنات، من الكهّان.

والله أعلم وأحكم.