مكان الجنّة والنّار

فأما الجنّة فهي فوق السماوات السبع، ليس فوقها شيء سوى عرش الرحمن عز وجل.

عن أبي هريرة قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن في الجنة مائة درجة أعدها الله للمجاهدين في سبيل الله, ما بين الدرجتين كما بين السماء والأرض، فإذا سألتم الله فاسألوه الفردوس فإنه أوسط الجنة, وأعلى الجنة, وفوقه عرش الرحمن, ومنه تفجر أنهار الجنة".

رواه البخاري.

وقوله: "وفوقه عرش الرحمن" أي: أنه ليس فوق الجنّة شيء من خلق الله تعالى، إلّا عرش الرحمن عز وجل، وليس المراد بأن العرش فقط هو الذي فوق الجنّة، بل المراد بأن الحضرة الإلهيّة جميعها فوق الجنّة، وهي العرش والماء والدار والفحص، وإنما ورد الخبر بتخصيص العرش، لأنه أعظمها.

وأما النار، فقد اختلف في موضعها اليوم على عدّة أقوال:

فقيل إنها فوق السماوات.

وقيل: إنها في أسفل الأرض.

وقيل: إنها في ناحية من الأرض.

والصواب، أن النّار اليوم، فوق السماوات.

والدليل على ذلك:

عن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "يؤتى بجهنم يومئذ لها سبعون ألف زمام مع كل زمام سبعون ألف ملك يجرونها".

رواه مسلم.

وقوله: "يومئذ" أي: يوم القيامة.

وعن أبي سعيد الخدري، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في حديث المحشر: "ثم يضرب الجسر على جهنم".

رواه البخاري ومسلم.

فدل حديث أبي سعيد، أن النّار تسحب يوم القيامة حتى توضع تحت السراط والسراط مضروب من الظلمة بعد الأرض إلى القنطرة التي دون الجنّة.

وهذا يعني أن النار توضع في ذلك الوقت تحت الأرض والظلمة والجسر، مما يدل على أن النّار اليوم ليست تحت الأرض.

وهذا من أقوى الأدلة في الرد على من زعم أن النار اليوم تحت الأرض، أو ما يسمونه بالأرض السفلى.

ويعضد ذلك، ما روي عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "رأيت ليلة أسري بي الجنة والنار في السماء فقرأت هذه الآية: (وَفِي السَّمَاَءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ) [الذاريات] فكأني لم أقرأها قط".

رواه أحمد.

وفي وراية أخرى عن حذيفة، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أُتِيتُ بالبُراق، فلم نزايل طرفه أنا وجبريل، حتى أتيت بيت المقدس، وفتح لنا أبواب السماء، ورأيت الجنة والنار".

رواه أحمد والترمذي.

وقوله: "أتيت بالبراق فلم نزايل طرفه أنا وجبريل حتى أتيت بيت المقدس" خلط من الراوي، فإن ركوب النبي للبراق، ومسراه إلى بيت المقدس، لا علاقة له بمسرى النبي إلى السماء، على أصح الأقوال، وإنما رأى النبي الجنة والنار في السماء، ليلة أُسري به إلى السماء.

ومما يجدر التنبيه عليه، أن بعض الباحثين، يخلط بين سجين، في قوله تعالى: (كَلاَّ إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ) وفي قول النبي صلى الله عليه وسلم، في حديث البراء بن عازب: "اكتبوا كتابه في سجين في الأرض السفلى". رواه أبو دواد. وبين النار، فيظن أن سجين الوارد ذكرها في القرآن والسنة، هي النار، وهذا قول باطل، فسجين، هو كل شيء محمّى، وقد ذكر في القرآن والسنة، بأنه كتاب تدون فيه أسماء أهل النار، بعد موتهم، فقال تعالى في سورة المطففين: (وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ كِتَابٌ مَّرْقُومٌ) إذاً سجين في الآية والحديث ليس النّار.

واستدل بعض الباحثين، على أن النار اليوم، ليست فوق السماوات، بقوله تعالى في سورة الأعراف: (إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُواْ عَنْهَا لاَ تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاء) وبقوله تعالى في سورة غافر: (وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ) فذكر الله تعالى في الآية الأولى، أن الكفار لا تفتح لهم أبواب السماء في حياة البرزخ، وذكر في الآية الثانية، أن آل فرعون، وهم من الكفار، يعرضون على النار في حياتهم البرزخية، غدوّاً وعشيّا، فاستظهروا من ذلك أن النار ليست فوق السماوات، لأنها لو كانت فوق السماوات، لفتحت أبوابها لآل فرعون، ولغيرهم من الكفار، ليعرضوا عليها.

وهذا فهم خاطئ، وليس في الآيات، ما يدل على أن النار في أسفل الأرض، أو أنها ليست فوق السماوات، فقد روى البراء بن عازب في حديثه الطويل، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "فيُنادي مُنادٍ من السماءِ أنْ: كذبَ، فأفرشوا له من النارِ، وافتحُوا له باباً إلى النار، فيأتيهِ مِنْ حرِّها وسمُومِها". رواه أبو داود. فالعرض على النار للكفار، إنما يكون وهم في قبورهم، بحيث يفتح لهم باب إلى النار، فيأتيهم من حرّها وسمومها.

ثم إذا دخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار، وألغى الله هذا الكون، لا يكون بين الجنّة والنار، سوى سور له باب، جهته مما يلي الجنة، منظره حسن يسر الناظرين، وجهته مما يلي النار، منظره قبيح يسوء الناظرين.

ويكون موضع النار في ذلك الزمان إما على يسار الجنّة، بعيدة عنها، بحيث لا تكون قريبة من عرش الرحمن، أو تكون تحتها، بعيدة عنها، ذلك أن القرب من عرش الرحمن عز وجل، كرامة لا يستحقها أهل النّار.

قال تعالى في سورة الحديد: (فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ لَّهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِن قِبَلِهِ الْعَذَابُ)

والله أعلم وأحكم.