ثم قال تعالى في سورة القصص: (وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِّنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ هَذَا مِن شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِن شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُّضِلٌّ مُّبِينٌ قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِّلْمُجْرِمِينَ فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفًا يَتَرَقَّبُ فَإِذَا الَّذِي اسْتَنصَرَهُ بِالأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قَالَ لَهُ مُوسَى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُّبِينٌ فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَن يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَّهُمَا قَالَ يَا مُوسَى أَتُرِيدُ أَن تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالأَمْسِ إِن تُرِيدُ إِلاَّ أَن تَكُونَ جَبَّارًا فِي الأَرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَن تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ وَجَاءَ رَجُلٌ مِّنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاء مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّي أَن يَهْدِيَنِي سَوَاء السَّبِيلِ وَلَمَّا وَرَدَ مَاء مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِّنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِن دُونِهِمُ امْرَأتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاء وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاء قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَن تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِندِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ قَالَ ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلا عُدْوَانَ عَلَيَّ وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ)
قوله: (وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِّنْ أَهْلِهَا) كان ذلك وقت القائلة، في الظهيرة، منتصف النهار، والناس غافلون في بيوتهم، أي: قائلون. لأن حركة الناس وانتشارهم في المدينة عادة يقع بعد الصبح إلى وقت الظهيرة، ووقت العصر إلى قريب المغرب، وليس صحيحاً ما روي أن ذلك كان بين المغرب والعشاء.
قوله: (هَذَا مِن شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ) أي: هذا من قومه بني إسرائيل، وهذا من أعدائهم المصريين.
قوله: (فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ) أي: ضربه بجمع يده على صدره من ناحية قلبه ضربة أوقفت قلبه فمات لوقته.
عن مجاهد بن جبر قال: بجمع كفه.
رواه الطبري وابن أبي حاتم.
قوله: (ظَهِيرًا لِّلْمُجْرِمِينَ) أي: لن أكون معيناً للمجرمين، ربما المراد بذلك، أنه لن يكون معيناً لمصريين، فيعترف بأنه قاتل المصريّ، وربما كان المراد بذلك، أنه نذر أن لا يكون معيناً لأحد في قتل نفسٍ لم يؤمر بقتلها.
وقوله: (لَغَوِيٌّ مُّبِينٌ) أي: ضال، بيّنُ الضلالة.
قوله: (قَالَ يَا مُوسَى أَتُرِيدُ أَن تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالأَمْسِ) .. الآية. قال الإسرائيلي ذلك وقد غضب غضبة الخوف.
وقول الإسرائيلي: (بِالأَمس) دليل على ما قدمنا، أن ذلك كان منتصف النهار، والناس قائلون، لأنه لو كان هذا الحدث وقع بين المغرب والعشاء، أو بعد العشاء، لقال: "البارحة".
قوله: (وَجَاءَ رَجُلٌ مِّنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى) .. الآية. كان رجلاً صالحاً من المصريين، صديقٌ لموسى.
قوله: (وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاء مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّي أَن يَهْدِيَنِي سَوَاء السَّبِيلِ) لم يكن نبي الله موسى يدري أين سوف يتوجه، إنما أشار الله تعالى إلى الجهة التي توجه إليها، وهي تلقاء مدين، لأنه سوف ينتهي به المسير إليهم، ولذلك دعا بتلك الدعوات، فهداه الله تعالى إلى مدين.
قوله: (قَالَتَا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاء وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ) أي: لعفافهن وحشمتهن، لم يكنّ يردن أن يزاحمن الرعاة، واعتذرن لأبيهن، بأنه شيخ كبير لا يستطيع سقيا الغنم، وهذا فيه دليل على أنه لم يكن لهن إخوة يقومون بسقيا الغنم عنهن.
والسؤال هنا: كيف استطاع موسى عليه السلام التحدث إلى الفتاتين المديانيتين، وهما عربيّتان، وهو عبراني؟
والجواب على ذلك: أن اللغة العبرية، كانت قريبة من اللغة العربيّة، والفروق بينها يسيرة، بحيث يستطيع العربي أن يفهم كلام العبراني، ويستطيع العبراني أن يفهم كلام العربي، إذ أن العبرانيّة متولّدة أصلاُ من اللغة العربيّة، لذلك استطاع موسى أن يتكلّم معهما، دون أن يحاج إلى مترجم يترجم بينهم.
قوله: (عَلَى أَن تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِندِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ) أي: أنه زوجه إحدى بناته وكان المهر أن يعمل عنده في رعي الأغنام ثمان سنين، فإن أتمها عشر سنين، فله أن يعود إلى قومه في مصر.