عن عمران بن حصين رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "كان الله ولم يكن شيء غيره وكان عرشه على الماء" .. الحديث.
رواه البخاري.
فأثبت في الخبر أن لله عرشاً، وأن عرش الله تعالى على الماء.
والماء، هو بحر يعوم في الفضاء، لا يعلم حدّه إلّا الله تعالى، ثابت في محلِّه من العدم.
والعرش في اللغة، له معانٍ، والمراد به هنا، هو سرير الملك، الذي يجلس عليه.
وعن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تخيِّروني من بين الأنبياء، فإن الناس يصعقون يوم القيامة، فأكون أول من يُفِيق، فإذا أنا بموسى آخذ بقائمة من قوائم العرش، فلا أدري أفاق قبلي، أم جوزي بصعقة الطور".
رواه البخاري.
وهذا المتن، أصحّ متن لحديث أبي سعيد الخدري.
فدلّ هذا الحديث أن للعرش قوائم.
وللعرش حملة يحملونه، وهؤلاء الحملة من الملائكة.
قال تعالى في سورة غافر: ﴿ٱلَّذِینَ یَحۡمِلُونَ ٱلۡعَرۡشَ وَمَنۡ حَوۡلَهُۥ یُسَبِّحُونَ بِحَمۡدِ رَبِّهِمۡ وَیُؤۡمِنُونَ بِهِۦ وَیَسۡتَغۡفِرُونَ لِلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ۖ رَبَّنَا وَسِعۡتَ كُلَّ شَیۡء رَّحۡمَة وَعِلۡما فَٱغۡفِرۡ لِلَّذِینَ تَابُوا۟ وَٱتَّبَعُوا۟ سَبِیلَكَ وَقِهِمۡ عَذَابَ ٱلۡجَحِیمِ﴾
وعن جابر بن عبدالله رضي الله عنه قال: قال رسول الله صىل الله عليه وسلم: "أذن لي أن أحدث عن ملك من ملائكة الله، من حملة العرش، إن ما بين شحمة أذنه إلى عاتقه، مسيرة سبعمائة عام" اهـ
رواه أبو داود.
وهو حديث حسن.
وفي رواية عند الطبراني في المعجم الأوسط: "مسيرة سبعين عاما".
وفي رواية أخرى عند الطبراني في المعجم الأوسط: "مسيرة أربعمائة عام". وهو وهم من الرواي.
وقد زاد الرواة في هذا الخبر زيادات منكرة، كقولهم بأن رِجْلا هذا الملك في الأرض السفلى، وكأن هناك أرضاً سفلى! وأن العرش على قرنه! وكقولهم أن هذا الملك على صورة ديك، إلى غير ذلك من الهذيان.
ولم يصحّ حديث في عدد حملة العرش، وكل الأخبار المروية في عددهم معلولة.
وأشهرها حديث حملة العرش الأربعة، ملك على صورة إنسان، وملك على صورة نسر، وملك على صورة أسد، وملك على صورة ثور، وهذا الحديث خرافة، منقول من كتب اليهود، وهي من وضع قصّاصهم.
فقد صحّ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إن الله جميل يحب الجمال".
رواه مسلم.
وحملة العرش من أقرب الملائكة لله تعالى، فالمقطوع به أن يكونوا من أجمل الملائكة صورة وأبهاهم طلعة.
وليس هناك أقبح من مسوخ على صورة نسر وأسد وثور. أو على صورة ديك كما ورد في الحديث السابق، فكيف يكون أمثال هذه الصور هم حملة العرش!
وكذلك من الأحاديث الموضوعة في حملة العرش، حديث الأوعال الثمانية، وهذا متنه يكفي في الحكم بوضعه، ذلك أن الله تعالى نصّ على أن حملة العرش ملائكة، وهذا الحديث ينصّ على أن حملة العرش ثمانية أوعال، وشتّان بين الملائكة والأوعال!
وقد حاول البعض أن يجمع بين الأخبار، فزعم أنهم ملائكة في صورة أوعال، وهذا باطل، لأن الحديث نصّ على أنهم أوعال، والأوعال خلق له صفته وهيئته، والملائكة خلق لهم صفتهم وهيئتهم.
إلّا أن حملة العرش يوم القيامة، يكونون ثمانية.
قال تعالى في سورة الحاقة: ﴿وَٱلۡمَلَكُ عَلَىٰۤ أَرۡجَاۤىِٕهَاۚ وَیَحۡمِلُ عَرۡشَ رَبِّكَ فَوۡقَهُمۡ یَوۡمَىِٕذ ثَمَـٰنِیَة﴾
لكن لا يدرى ما المُراد بثمانية، هل هم ثمانية أفراد أم ثمانية صفوف.
عن عبدالله بن عباس رضي الله عنه أنه قال: "ثمانية صفوف من الملائكة لا يعلم عدتهم إلا الله عز وجل".
رواه الطبري.
وبما أنه عرش له قوائم، وله حملة يحملونه من الملائكة، فهو عرش أُعِدّ للجلوس عليه، مما يدلّ دلالة قطعيّة، أن الله تعالى لم يخلق العرش، إلّا ليصطفيه ليكون مكاناً له، ليجلس ويقعد عليه.
قال تعالى في سورة طه: (الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى)
والعرب لا تقول للشيء بأنه استوى على الشيء؛ إلّا إذا كان مستقرّاً عليه، متمكناً عليه، وهذا لا يكون إلّا بمماساة.
ومعنى استوى على العرش، أي: اعتدل في ارتفاعه وعلوّه وصعوده واستقراره على العرش، جالساً وقاعداً.
قال عبدالله بن أحمد بن حنبل، حدثني أبي رحمه الله قال: حدثنا عبد الرحمن، عن سفيان، عن أبي إسحاق، عن عبد الله بن خليفة، عن عمر بن الخطاب قال: "إذا جلس تبارك وتعالى على الكرسي سمع له أطيط كأطيط الرحل الجديد".
وقال عبدالله: حدثني أبي، حدثنا وكيع بحديث إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن عبد الله بن خليفة، عن عمر بن الخطاب قال: "إذا جلس الرب عز وجل على الكرسي". قال: فاقشعر رجل سمّاه أبي عند وكيع، فغضب وكيع وقال: أدركنا الأعمش وسفيان يحدثون بهذه الأحاديث لا ينكرونها".
رواه عبدالله بن حنبل في كتابه السنة.
قلت: وحديث عمر بن الخطاب حديث حسن.
وعمر بن الخطّاب صحابي جليل.
وعبدالله بن خليفة، تابعيٌّ أدرك النبي ولم يره.
وأبو إسحاق وسفيان بن عيينة وعبدالرحمن بن مهدي وإسرائيل ووكيع بن الجرّاح - شيخ الإمام الشافعي - وأحمد بن حنبل من أئمة السنة، وكبار علماء المسلمين.
وعن الشعبي، عن عبد الله بن مسعود أنه قال: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى}، فقال: جالس. اهــ
رواه الحكم بن معبد في كتابه الرؤية، ونقله عنه الإمام الدشتي في كتابه إثبات الحد لله عز وجل.
وإسناده صحيح، إلا أن الشعبي لم يسمع من عبدالله بن مسعود، ولكنه سمع كبار أصحابه، والشعبي ثقة ثبت.
وعبدالله بن مسعود صحابي جليل.
والشعبي تابعي جليل.
وعن عباد بن منصور، قال: سألت الحسن وعكرمة، عن قوله {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} قالا: جلس. اهـ
رواه الحكم بن معبد في كتابه الرؤية، ونقله عنه الإمام الدشتي في كتابه إثبات الحد لله عز وجل.
وإسناده حسن.
والحسن، هو الحسن البصري، وهو تابعي جليل.
وعكرمة، هو مولى عبدالله بن عباس، وعكرمة تابعي جليل.
وكلاهما من كبار علماء المسلمين.
فدلّت هذه الأخبار على أن الله تعالى، خلق العرش ليكون مكاناً له، ليجلس ويقعد عليه.
ثم خلق الله تعالى الكُرسيّ، وهو موضع قدمي الربّ عز وجل.
عن أبي موسى الأشعري، الصحابي، قال: "الكرسي موضع القدمين، وله أطيط كأطيط الرَحْل".
أخرجه الطبري في تفسيره بسند صحيح، موقوفاً.
وعن عبدالله بن عباس، الصحابي، قال: "الكرسيّ موضع القدمين، والعرش لا يقدر أحد قدره".
رواه محمد بن خزيمة في كتاب التوحيد، بسند صحيح، موقوفاً.
فدلّت هذه الأحاديث، على أن الكرسي غير العرش، وأن الكرسي موضع قدمي الرب سبحانه وتعالى، وأن للعرش أطيط كأطيط الرحل من ثقل قدمي الرب سبحانه وتعالى.
ولكون الكرسي له علاقة بخلق العرش، فالمرجّح أنه خلق مع العرش أو بعده مباشرة.
وبعض الرواة وهموا فجعلوا العرش والكرسي شيئا واحدا، فيسمون العرش كُرسيّاً!
كما جاء في حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه في قوله: "إذا جلس تبارك وتعالى على الكرسي سُمع له أطيط كأطيط الرحل الجديد".
فإذا عرضناه على ما رُوي عن أبي موسى الأشعري وعبدالله بن عباس رضي الله عنهم جميعاً، تبيّن لنا أن العرش خلق مستقل، وأن الكرسيّ خلق مستقل، وأن الله إنما يجلس على العرش وليس على الكرسي، ويضع قدميه على الكرسيّ.
مما يدل على أن حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه وقع فيه حذف تقديره: "إذا جلس تبارك وتعالى على العرش ووضع قدميه على الكرسي، سُمع له أطيط كأطيط الرحل الجديد".
وقد يكون الرواة وهموا في متن حديث عمر بن الخطاب، وأن الصواب: "إذا جلس تبارك وتعالى على العرش سُمع له أطيط كأطيط الرحل الجديد".
أي: أن الرواة استبدلوا كلمة العرش بكلمة الكرسيّ، ظنّاً منهم أن العرش والكرسيّ شيء واحد، ومعنىً واحد.
ولكن أيهما الذي يئط العرش أم الكرسي؟
في حديث عمر بن الخطاب إشارة إلى أن الاطيط صادر من الكرسيّ
بينما يصرّح أبو موسى الأشعري بأن الأطيط صادر من الكرسيّ.
ولكن إذا قلنا بأن الرواة وهموا في حديث عمر بن الخطاب، وأن الصواب هو قوله: "إذا جلس تبارك وتعالى على العرش سُمع له أطيط كأطيط الرحل الجديد".
أي: استبدلنا كلمة الكرسيّ، بكلمة العرش، فهذا يعني أن الأطيط صادر من العرش وليس من الكرسي.
ويؤيد ذلك، ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال: "إن الله فوق عرشه، وعرشه فوق سماواته لهكذا - وقال بأصابعه مثل القبة عليه - وإنه ليئط به أطيط الرحل بالراكب".
رواه أبو داود بسند ضعيف.
وفي رواية عند محمد بن خزيمة في صحيحه أنه قال: "إن الله على عرشه، وعرشه على سماواته، وسماواته على أرضه، هكذا - وقال بأصابعه مثل القبة - وإنه ليئط به مثل أطيط الرحل بالراكب".
رواه محمد بن خزيمة بسند ضعيف أيضاً.
وقوله بأن العرش على السماوات مثل القبّة، لا يراد به أنه ليس بينه وبينها شيء، ففوق السماوات الجنّة وفوق الجنّة الماء الأعلى، وفوق الماء العرش، ولكنه مثل أسفل العرش مثل القبّة، بحيث لو ولم يكن بينه وبين السماوات شيء، لكن على السماوات مثل القبّة ومحيط بها.
وهذا مثل ما ورد في الحديث الصحيح، من أن العرش فوق الفردوس الأعلى من الجنّة، ولا يراد به أنه سقف لها، بل يراد أنه ليس فوق الفردوس الأعلى سوى الماء الأعلى وفوق الماء العرش.
ففي هذا الحديث، تصريح بأن الأطيط صادر من العرش وليس من الكرسيّ.
فإن صحّ هذا، فهذا يعني، أن الرواة وهموا في حديث أبي موسى الأشعري، فجعلوا الأطيط صادر من الكرسيّ، الذي هو موضع القدمين!
وقد يكون الأطيط صادر من العرش والكرسيّ معاً.
والله أعلم.