قال تعالى في سورة الصافات: (وَإِنَّ إِلْيَاسَ لَمِنْ الْمُرْسَلِينَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَلا تَتَّقُونَ أَتَدْعُونَ بَعْلا وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبَائِكُمُ الأَوَّلِينَ فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ إِلاَّ عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخِرِينَ سَلامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ)
قوله: (لَمِنْ الْمُرْسَلِينَ) أي: أنه كان نبيّاً رسولا.
وقوله: (بَعْلا) البعل صنم كان يعبد بالشام، ومعنى البعل: السيّد والملك، ولذلك تقول الزوجة لزوجها: بعل. أي: سيّد، ومالك.
وذلك أن كثيراً من بني إسرائيل عبدوا البعل، فبعث الله تعالى إليهم نبيّه إلياس، ليدعوهم لعبادة الله الواحد الأحد، وينهاهم عن عبادة الأوثان، ويصبر على دعوتهم وأذاهم له، فتبعه منهم من أراد الله تعالى به خيرا، وأعرض عن الحق من علم الله أنه لا خير فيه، وبقي على ذلك حتى وافاه أجله، غير مبدل ولا مغير .
وقوله: (فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ) أي: محضرون للعذاب.
وقوله: (وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخِرِينَ) أي: أبقينا عليه ذكراً حسناً في الأجيال التالية، جيلاً بعد جيل.
وقوله: (إِلْ يَاسِينَ) والأصل أن تكتب: إلياسين. ولكن الناسخ كتبها هكذا فاستمر النسّاخ في كتابتها على هذا الرسم، وإلياسين، المراد به: إلياس، والياء والنون زائدة، كما سمّى الله تعالى سيناء: سينين، في قوله تعالى: (وَطُورِ سِينِينَ) وإنما يريد: طور سيناء.
وفي كتب اليهود، أن إلياس من بني إسرائيل، وهم يسمونه: إيْلِيَّا، وهذا من تخليطهم وتحريفهم لأسماء الأنبياء، ويظهر أن وقوعهم في هذا الوهم، هو بسبب تقارب لفظ اسم إلياس بإيلياء، وشهرة إيلياء، فيقال: بأن إيلياء من الأسماء الرومانيّة، والتي كانت مستخدمة في ذلك الوقت بكثرة، بحيث لا يمكن نسيان لفظ الاسم، بخلاف إلياس، حيث من النادر أن يعرف شخص بهذا الاسم، ومن هنا وهم الراوي، فظن أن اسم النبي: إيلياء، والصواب ما نصّ عليه القرآن.
ويزعمون أنه من مدينة تشبه، وهي مدينة تقع في شمال شرق مدينة الموصل، وتبعد عنها قرابة مائة وأربعين ميلاً. وأنه انتقل ليستوطن في أرض جلعاد، وهو موضع يقع بين نهر اليرموك شمالا، ونهر الزرقاء جنوبا، ونهر الأردن غربا.
ولا يمكن الوثوق بما قاله رواة اليهود حول الموطن الأوّل لإلياس، ولا بانتقاله إلى أرض جلعاد، ولكن إن صحّ هذا، فهذا يعني أن ملك سليمان عليه السلام شمل أجزاء من بلاد إرمينيا، كون مدينة تشبه تقع في بلادهم، وأن جزءاً من بني إسرائيل، انتقل إلى العيش في بلدة تشبه.
ويمكن تفسير انتقال إلياس من بلده تشبه إلى أرض جلعاد، بأن بني إسرائيل في تلك المدينة تعرّضوا لضغوط من الشعوب المتاخمة لهم، بعد ضعف دولة بني إسرائيل، بموت الملك سليمان، ومما زاد الأمر سوءاً بالنسبة لبني إسرائيل المقيمين في مدينة تشبه، هو بعد مدينتهم عن قلب بلاد بني إسرائيل، والتي كانت تتمركز في ذلك الوقت في الجزء الغربي من الشام.
ولا يذكر رواة اليهود شيئاً عن نسب إلياس، ولا من أيّ أسباط بني إسرائيل هو، والنسب المذكور لإلياس في كتب التاريخ الإسلامي، من وضع قصاص المسلمين وأكاذيبهم.
وإلياس اسم عربيّ، مشتق من الإلياس، وهي القوة، لذلك سمّي الأسد والجمل: الأليس. وربما يكون مشتقاً من الإلياس، وهو: الإقامة، لذلك سمّي الرجل الذي لا يبرح بيته أليس. وربما يكون مشتقاً من اللوس وهو الذوق، وهذا الاسم قد سُمّي به إلياس بن مضر بن نزار بن معدّ بن عدنان.
ويزعم بعض المؤرخين، أن إلياس هي الصيغة اليونانية لاسم إيلياء، يذهب في ذلك، إلى أن اليونانيين، إذا أرادوا تعظيم شخص، الحقوا السين في أخر اسمه عند نطقه، وهذا باطل، لأن اليونانيين، لا يكتفون بإلحاق السين في أخر الاسم، بل يضيفون إليه حرف الواو، وربما زادوا أيضاً حرف الياء للضرورة، فيقولون في هرقل: هراقليوس، فلو كان ما زعموه صحيحاً، لكان يجب أن يقال في إيلياء: إيليوس. أو: إيلياوس. وقد أثبتّ سابقاً، أن إلياس، من الأسماء العربية، التي تسمى بها العرب قديماً، وأن اشتقاقه عربيٌّ محض.
وزعم رواة اليهود، أن إلياس، رفع إلى السماء، وأنه سوف يعود في أخر الزمان، وهذا وهم منهم، حيث خلطوا بينه، وبين خبر عيسى المسيح عليه السلام، وإذا كان من كتب تاريخ اليهود، دوّن ذلك، بعد حياة النبي عيسى عليه السلام، فكل ما قام به كاتب التاريخ اليهودي، هو أن أخذ ما يرويه مسلمو النصارى، من رفع عيسى عليه السلام، وعودته في أخر الزمان، ونحلها إلياس عليه السلام، ليكون هذا الفضل، لنبيٍّ معترف به من قبل اليهود.
هل إلياس هو إدريس؟
من الأخطاء التي وقع فيها بعض المسلمين، اعتقادهم أن إلياس هو إدريس، عليهما السلام، وهذا خلط وتحريف فاحش.
والذي دفعهم إلى هذا الخلط والتحريف، هو ما ذكره الله تبارك وتعالى عن إدريس عليه السلام، في قوله تعالى: ﴿وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا﴾ [مريم]
فلما رأى بعض المسلمين أن اليهود يزعمون أن إلياس رفع إلى السماء بروحه وجسده، فهو حي في السماء، رجّحوا أن معنى قوله تعالى عن إدريس: (وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا) أي: أنه رُفِع بروحه وجسده، واستظهروا من خلال ذلك: أن إدريس هو إلياس!
وروى المفسرون عن عبدالله بن مسعود أنه قال بأن إلياس هو إدريس، وأنه كان يقرأ قوله تعالى: ﴿سَلَامٌ عَلَىٰ إِلْ يَاسِينَ﴾ [الصافات] (سلام على إدراسين) وهذا لم يثبت عن عبدالله بن مسعود، وأكثر روايات المفسرين أباطيل، قال البخاري في صحيحه: "يذكر عن ابن مسعود وابن عباس أن إلياس هو إدريس" اهـ وهذا دليل صارخ على أن ما نسب إليهما ليس بثابت، بل وليس له سند يعرف، حتى ينظر فيه، ويتحقق من صحته.
وقد ذكر إدريس في القرآن مرتين، وذكر إلياس في القرآن مرتين، فدلّ هذا على أنهما شخصان مختلفان.
فثبت بذلك أنه لا علاقة بين إلياس وإدريس.