روى ابن أبي حاتم في تفسيره، والحاكم في مستدركه، عن عبدالله بن عباس أنه قال: "إِنَّ أَوَّلَ شَيْءٍ خَلْقَهُ اللَّهُ الْقَلَمُ، فَقَالَ لَهُ: اكْتُبْ، فَقَالَ: وَمَا أَكْتُبُ؟ فَقَالَ: الْقَدَرُ، فَجَرَى مِنْ ذَلِكَ الْيَوْمِ بِمَا هُوَ كَائِنٌ إِلَى أَنْ تَقُومَ السَّاعَةُ، قَالَ: وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ فَارْتَفَعَ بُخَارُ الْمَاءِ فَفُتِقَتْ مِنْهُ السَّمَاوَاتُ، ثُمَّ خَلَقَ النُّونَ فَبُسِطَتِ الْأَرْضُ عَلَيْهِ، وَالْأَرْضُ عَلَى ظَهْرِ النُّونِ فَاضْطَرَبَ النُّونُ فَمَادَتِ الْأَرْضُ، فَأُثْبِتَتْ بِالْجِبَالِ، فَإِنَّ الْجِبَالَ تَفْخَرُ عَلَى الْأَرْضِ". اهـ
قال الحاكم: "هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ".
وهذا حديث صحيح موقوفاً، أي أن عبدالله بن عباس لم يرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
وكما يظهر بجلاء، فإن هذا الحديث مكوّن من شقين.
شقٌّ أخذه عبدالله بن عباس عن الصحابة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهو قوله: "إِنَّ أَوَّلَ شَيْءٍ خَلْقَهُ اللَّهُ الْقَلَمُ، فَقَالَ لَهُ: اكْتُبْ، فَقَالَ: وَمَا أَكْتُبُ؟ فَقَالَ: الْقَدَرُ، فَجَرَى مِنْ ذَلِكَ الْيَوْمِ بِمَا هُوَ كَائِنٌ إِلَى أَنْ تَقُومَ السَّاعَةُ".
وشِقٌ أخذه عمّن أسلم من أهل الكتاب، فيما يروونه عن كتبهم السابقة، وهو قوله: " وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ فَارْتَفَعَ بُخَارُ الْمَاءِ فَفُتِقَتْ مِنْهُ السَّمَاوَاتُ، ثُمَّ خَلَقَ النُّونَ فَبُسِطَتِ الْأَرْضُ عَلَيْهِ، وَالْأَرْضُ عَلَى ظَهْرِ النُّونِ فَاضْطَرَبَ النُّونُ فَمَادَتِ الْأَرْضُ، فَأُثْبِتَتْ بِالْجِبَالِ، فَإِنَّ الْجِبَالَ تَفْخَرُ عَلَى الْأَرْضِ".
والدليل على ذلك، هو أن حديث: "إن أول شيء خلقه الله القلم" .. روي عن كبار الصحابة كعبادة بن الصامت وأبي هريرة وعبدالله بن عمر مرفوعاً وعبدالله بن مسعود موقوفاً بأسانيد صحيحه وحسنه وضعيفة، بدون الجزء الثاني، الذي رواه ابن عباس، ولم يرو ذلك الجزء سوى ابن عباس، فتبيّن بذلك أن ابن عباس هو من أضاف هذا الجزء من الخبر إلى الحديث.
وابن عباس ولا شك في ذلك نقله عمّن أسلم من أهل الكتاب، والظن أنه نقله عن كعب الأحبار، لأنه كان ينقل عنه بعض ما لديه، فقد روى أبو نعيم في حلية الأولياء نحو هذا الخبر عن كعب الأحبار فقال: " قال كعب الأحبار: إن إبليس تغلغل إلى الحوت الذي على ظهره الأرض فوسوس إليه، فقال له: أتدري ما على ظهرك يا لوِيثا – اسم الحوت - من الأمم والدواب والشجر والجبال لو نفضتهم ألقيتهم عن ظهرك، فهمّ لوِيثا أن يفعل ذلك فبعث الله دابة فدخلت منخره فوصلت إلى دماغه، فعج الحوت إلى الله منها، فأذن لها الله فخرجت، قال كعب: فوالذي نفسي بيده إنه لينظر إليها وتنظر إليه إن همَّ بشيء من ذلك عادت كما كانت". اهـ
وفي هذا إشارة إلى أن ابن عباس إنما نقل هذا الخبر عن كعب الأحبار.
وهذا الخبر يغني متنه عن البحث في إسناده، لوضوح بطلانه.
فأول شاهد على بطلان هذا الخبر، هو قوله: "وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ فَارْتَفَعَ بُخَارُ الْمَاءِ فَفُتِقَتْ مِنْهُ السَّمَاوَاتُ"
وهذا كذب، لأنه جعل الماء الذي خلقت منه السماوات والأرض، هو الماء الذي عليه العرش! وهذا كذب، فالحضرة الإلهية المعظّمة، بمائها ودارها وعرشها، خلق مستقل عن السماوات والأرض، وهي فوق السماوات، ولا احتج في ذلك بحديث الأوعال، فهو حديث باطل ولا شك، ولكن هناك أحاديث صحيحة وحسنه وضعيفة تثبت بطلان هذا القول، منها حديث الشفاعة الكبرى، حيث ذكر النبي صلى الله عليه وسلم، أنه يأتي حتى يستأذن على الله في داره، فيؤذن له عليه، فإذا رآه خر ساجداً .. إلى أخر الحديث.
فتبين أن السماوات والأرض ليست داخل الحضرة الإلهية، لأنه حسب هذه الزيادة المزعومة، فإن السماوات والأرض تحت العرش وفوق الماء، أي: أنها داخل دار الله تعالى! فكيف يستأذن النبي في الدخول على دار الله تعالى، وهو داخل داره حسب زعم هذا الحديث.
وقد ورد في حديث ضعيف أخر، عن النبي صلى الله عليه وسلم، أن العرش فوق السماوات كالقبّة، ولكنه كما أسلفت حديث ضعيف، والأحاديث الصحيحة لا تعارض بالأحاديث الضعيفة، وإن تعددت أسانيدها، لأن الحديث الضعيف قد يلهم أهل الأوهام والوضاعين أيضاً أن يضعوا خبراً آخراً ملفّق يحوي معنى الحديث الأول الضعيف.
فتبيّن بهذا أن الحضرة الإلهية بمائها ودارها وعرشها خلق مستقل وكيان منفصل لا علاقة لها بالماء الذي خلقت منه السماوات والأرض.
وثاني شاهد على بطلان ما روي عن ابن عباس، هو قوله: " فَاضْطَرَبَ النُّونُ فَمَادَتِ الْأَرْضُ، فَأُثْبِتَتْ بِالْجِبَالِ، فَإِنَّ الْجِبَالَ تَفْخَرُ عَلَى الْأَرْضِ".
وهذا كلام بيّن البطلان، لأنه لو كان الحوت هو سبب مَيَدَان الأرض، لكان الواجب أن يُثَبَّت الحوت، لا أن تثبّت الأرض، لأن الحوت سوف يضطرب، فتميد الأرض وتميد الجبال معها، فكان الواجب أن يثبّت الحوت لا الأرض!
وليست هذه الرواية هي الوحيدة هناك الكثير من الروايات المكذوبة في هذا الشأن، منها ما هو منقول عمّن أسلم من أهل الكتاب، فيما ينقلونه عن كتبهم السابقة، التي حشيت بأكاذيب قصاصهم، ومنه ما ألّفه القصاص في الإسلام، فتلقفه الرواة ورووه، كمن يقول بأن الأرض على ظهر صخرة والصخرة على ظهر حوت، أو يقول: بأن الأرض بين قرني ثور، ثم يضعون سنداً إلى أحد الصحابة أو التابعين، ويفسّرون به آية هنا وآية هناك.
وهذا يدل على أن بعض القصاص كانوا يتعمدون الكذب في تأويل القرآن، إما عبثاً منهم وتلاعباً، أو ليدّعوا أن عندهم علم لا يوجد عند غيرهم فينالوا بذلك حظا من حظوظ الدنيا.
لذلك فالأحاديث المرفوعة والموقوفة والمقطوعة، إن لم يكن لدى الشخص القدرة على تصفيتها ونخلها والتمييز بين ما يقبل منها وما لا يقبل، فسوف يقع في شرّ عظيم، فالأديان السابقة إنما تحرّفت وكثرت فيها الأساطير والخرافات بسبب القصّاص، وبسبب رواية الرواة لها بغير تمحيص ولا تدقيق!
ومن عجيب ما رأيت أني وجدت القرآن عندما يذكر بدء الخلق ونشأة الكون وسير الأنبياء، تجده نقيّاً خالياً من الأخبار الغريبة، والقصص العجيبة، حتى أنه يهذب لنا التاريخ، ويبيّن لنا ما زاده أهل الكتاب وما نقصوه، فينفي ما زادوه ويكمل ما نقصوه، فجاء الرواة فأعادوا هذا الغثاء في التاريخ الإسلامي، وهذه غفلة عجيبة!
لذلك أنا دائماً أنصح بأن من لم يكن لديه القدرة على التمييز بين الأخبار أن يكتفي بكتاب الله عز وجل والأحاديث الصحيحة المرفوعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ويقف عند هذا الحد، فإن هذا الحد أمان للعبد بإذن الله تعالى.