عن عبدالله بن عباس قال: أول ما اتخذ النساء المنطق من قبل أم إسماعيل اتخذت منطقًا لتعفي أثرها على سارة، ثم جاء بها إبراهيم وبابنها إسماعيل وهي ترضعه حتى وضعهما عند البيت، عند دوحة فوق زمزم في أعلى المسجد، وليس بمكة يومئذ أحد، وليس بها ماء، فوضعهما هنالك، ووضع عندهما جرابًا فيه تمر، وسقاء فيه ماء. ثم قفّى إبراهيم منطلقًا، فتبعته أم إسماعيل فقالت: يا إبراهيم أين تذهب وتتركنا بهذا الوادي الذي ليس به إنس ولا شيء؟ فقالت له ذلك مرارًا، وجعل لا يلتفت إليها. فقالت له: الله أمرك بهذا؟ قال: نعم. قالت: إذًا لا يضيعنا، ثم رجعت. فانطلق إبراهيم حتى إذا كان عند الثنية، حيث لا يرونه، استقبل بوجهه البيت، ثم دعا بهؤلاء الدعوات ورفع يديه فقال: (رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ) [إبراهيم] وجعلت أم إسماعيل ترضع إسماعيل، وتشرب من ذلك الماء، حتى إذا نفذ ما في السقاء عطشت وعطش ابنها، وجعلت تنظر إليه يلتوي، أو قال: يتلبط، فانطلقت كراهية أن تنظر إليه، فوجدت الصفا أقرب جبل في الأرض يليها، فقامت عليه. ثم استقبلت الوادي تنظر هل ترى أحدًا، فلم ترَ أحدًا، فهبطت من الصفا، حتى إذا بلغت الوادي، رفعت طرف ذراعها، ثم سعت سعي الإنسان المجهود، حتى إذا جاوزت الوادي، ثم أتت المروة فقامت عليها، ونظرت هل ترى أحدًا، فلم تر أحدًا. ففعلت ذلك سبع مرات. قال ابن عباس: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "فلذلك سعى الناس بينهما". فلما أشرفت على المروة سمعت صوتًا فقالت: صه، تريد نفسها، ثم تسمعت فسمعت أيضًا، فقالت: قد أسمعت إن كان عندك غواث، فإذا هي بالملك عند موضع زمزم، فبحث بعقبه - أو قال بجناحه - حتى ظهر الماء فجعلت تخوضه، وتقول بيدها هكذا، وجعلت تغرف من الماء في سقائها وهي تفور بعد ما تغرف. قال ابن عباس: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "يرحم الله أم اسماعيل لو تركت زمزم". أو قال: "لو لم تغرف من الماء لكانت زمزم عينًا معينًا". فشربت وأرضعت ولدها، فقال لها الملك: لا تخافي الضيعة، فإن ههنا بيت الله يبنيه هذا الغلام وأبوه، وإن الله لا يضيع أهله. وكان البيت مرتفعًا من الأرض كالرابية، تأتيه السيول فتأخذ عن يمينه وعن شماله، فكانت كذلك حتى مرت بهم رفقة من جرهم، أو أهل بيت من جرهم، مقبلين من طريق كداء، فنزلوا في أسفل مكة فرأوا طائرًا عائفًا. فقالوا: إن هذا الطائر ليدور على الماء، لعهدنا بهذا الوادي وما فيه ماء، فأرسلوا جريًا أو جريين فإذا هم بالماء، فرجعوا فأخبروهم بالماء فأقبلوا، قال: وأم إسماعيل عند الماء. فقالوا: تأذنين لنا أن ننزل عندك؟ قالت: نعم، ولكن لا حق لكم في الماء. قالوا: نعم. قال عبد الله بن عباس: قال النبي صلى الله عليه وسلم: فألقى ذلك أم إسماعيل وهي تحب الإنس، فنزلوا وأرسلوا إلى أهليهم فنزلوا معهم، حتى إذا كان بها أهل أبيات منهم، وشب الغلام وتعلم العربية منهم، وأنفسهم وأعجبهم حين شب، فلما أدرك زوجوه امرأة منهم، وماتت أم إسماعيل، فجاء إبراهيم بعد ما تزوج إسماعيل يطالع تَرِكته، فلم يجد إسماعيل، فسأل امرأته فقالت: خرج يبتغي لنا. ثم سألها عن عيشهم وهيئتهم فقالت: نحن بشر في ضيق وشدة وشكت إليه، قال: فإذا جاء زوجك أقرئي عليه السلام وقولي له: يغير عتبة بابه، فلما جاء إسماعيل كأنه آنس شيئًا فقال: هل جاءكم من أحد؟ فقالت: نعم جاءنا شيخ كذا وكذا، فسألنا عنك فأخبرته، وسألني كيف عيشنا فأخبرته أنّا في جهد وشدة. قال: فهل أوصاك بشيء؟ قالت: نعم، أمرني أن أقرأ عليك السلام، ويقول لك: غير عتبة بابك. قال: ذاك أبي وأمرني أن أفارقك فالحقي بأهلك، فطلقها وتزوج منهم أخرى. ولبث عنهم إبراهيم ما شاء الله، ثم أتاهم بعد فلم يجده، فدخل على امرأته فسألها عنه فقالت: خرج يبتغي لنا. قال: كيف أنتم؟ وسألها عن عيشهم وهيئتهم. فقالت: نحن بخير وسعة، وأثنت على الله. فقال: ما طعامكم؟ قالت: اللحم. قال: فما شرابكم؟ قالت: الماء. قال: اللهم بارك لهم في اللحم والماء. قال النبي صلى الله عليه وسلم: "ولم يكن لهم يومئذ حب، ولو كان لهم حب لدعا لهم فيه" قال: فهما لا يخلو عليهما أحد بعين مكة إلا لم يوافقاه. قال: فإذا جاء زوجك فاقرئي عليه السلام، ومريه يثبت عتبة بابه. فلما جاء إسماعيل قال: هل أتاكم من أحد؟ قالت: نعم، أتانا شيخ حسن الهيئة وأثنت عليه، فسألني عنك فأخبرته، فسألني كيف عيشنا، فأخبرته أنّا بخير. قال: فأوصاك بشيء؟ قالت: نعم، هو يقرأ عليك السلام، ويأمرك أن تثبت عتبة بابك. قال: ذاك أبي وأمرني أن أمسكك. ثم لبث عنهم ما شاء الله، ثم جاء بعد ذلك، وإسماعيل يبري نبلًا له تحت دوحة، قريبًا من زمزم، فلما رآه قام إليه، فصنعا كما يصنع الولد بالوالد، والوالد بالولد. ثم قال: يا إسماعيل إن الله أمرني بأمر، قال: فاصنع ما أمرك به ربك، قال: وتعينني، قال: وأعينك، قال: فإن الله أمرني أن أبني ههنا بيتًا، وأشار إلى أكمة مرتفعة على ما حولها، قال: فعند ذلك رفعا القواعد من البيت، فجعل إسماعيل يأتي بالحجارة، وإبراهيم يبني، حتى إذا ارتفع البناء جاء بهذا الحجر فوضعه له، فقام عليه وهو يبني، وإسماعيل يناوله الحجارة، وهما يقولان: (رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) [البقرة] قال: وجعلا يبنيان حتى يدورا حول البيت، وهما يقولان: (رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا ۖ إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) [البقرة]
رواه البخاري.
والحجر الذي جاء به إسماعيل عليه السلام لأبيه إبراهيم، هو الذي يدعى: مقام إبراهيم، وذلك أن إبراهيم كان يبني البيت، حتى إذا عجز أن يصل إلى أعلى سوره، جاءه إسماعيل بحجر ليصعد عليه، فصعد عليه، فألان الله الحجر، حتى طبعت أثر قدمه في الحجر، فكان ارتفاع السور قامة ونصف فقط، فكان ذلك الحجر يدعى مقام إبراهيم.
وإسماعيل، اسم مُركَّب من: إسماع، وتعني: إسمع، والألف للتأكيد، وإيل، هو الله تعالى وتقدّس، فيكون معنى الاسم: إسمع لله.
وقوله: "أول ما اتخذ النساء المنطق من قبل أم إسماعيل اتخذت منطقًا لتعفي أثرها على سارة" فيه إشارة لما ورد في تاريخ اليهود ما نصّه: "وَأَمَّا سَارَايُ ٱمْرَأَةُ أَبْرَامَ فَلَمْ تَلِدْ لَهُ. وَكَانَتْ لَهَا جَارِيَةٌ مِصْرِيَّةٌ ٱسْمُهَا هَاجَرُ، فَقَالَتْ سَارَايُ لِأَبْرَامَ: «هُوَذَا ٱلرَّبُّ قَدْ أَمْسَكَنِي عَنِ ٱلْوِلَادَةِ. ٱدْخُلْ عَلَى جَارِيَتِي لَعَلِّي أُرْزَقُ مِنْهَا بَنِينَ». فَسَمِعَ أَبْرَامُ لِقَوْلِ سَارَايَ. فَأَخَذَتْ سَارَايُ ٱمْرَأَةُ أَبْرَامَ هَاجَرَ ٱلْمِصْرِيَّةَ جَارِيَتَهَا، مِنْ بَعْدِ عَشَرِ سِنِينَ لإِقَامَةِ أَبْرَامَ فِي أَرْضِ كَنْعَانَ، وَأَعْطَتْهَا لِأَبْرَامَ رَجُلِهَا زَوْجَةً لَهُ. فَدَخَلَ عَلَى هَاجَرَ فَحَبِلَتْ. وَلَمَّا رَأَتْ أَنَّهَا حَبِلَتْ صَغُرَتْ مَوْلَاتُهَا فِي عَيْنَيْهَا. فَقَالَتْ سَارَايُ لِأَبْرَامَ: «ظُلْمِي عَلَيْكَ! أَنَا دَفَعْتُ جَارِيَتِي إِلَى حِضْنِكَ، فَلَمَّا رَأَتْ أَنَّهَا حَبِلَتْ صَغُرْتُ فِي عَيْنَيْهَا. يَقْضِي ٱلرَّبُّ بَيْنِي وَبَيْنَكَ». فَقَالَ أَبْرَامُ لِسَارَايَ: «هُوَذَا جَارِيَتُكِ فِي يَدِكِ. ٱفْعَلِي بِهَا مَا يَحْسُنُ فِي عَيْنَيْكِ». فَأَذَلَّتْهَا سَارَايُ، فَهَرَبَتْ مِنْ وَجْهِهَا. فَوَجَدَهَا مَلَاكُ ٱلرَّبِّ عَلَى عَيْنِ ٱلْمَاءِ فِي ٱلْبَرِّيَّةِ، عَلَى ٱلْعَيْنِ ٱلَّتِي فِي طَرِيقِ شُورَ. وَقَالَ: «يَا هَاجَرُ جَارِيَةَ سَارَايَ، مِنْ أَيْنَ أَتَيْتِ؟ وَإِلَى أَيْنَ تَذْهَبِينَ؟». فَقَالَتْ: «أَنَا هَارِبَةٌ مِنْ وَجْهِ مَوْلَاتِي سَارَايَ». فَقَالَ لَهَا مَلَاكُ ٱلرَّبِّ: «ٱرْجِعِي إِلَى مَوْلَاتِكِ وَٱخْضَعِي تَحْتَ يَدَيْهَا». وَقَالَ لَهَا مَلَاكُ ٱلرَّبِّ: «تَكْثِيرًا أُكَثِّرُ نَسْلَكِ فَلَا يُعَدُّ مِنَ ٱلْكَثْرَةِ». وَقَالَ لَهَا مَلَاكُ ٱلرَّبِّ: «هَا أَنْتِ حُبْلَى، فَتَلِدِينَ ٱبْنًا وَتَدْعِينَ ٱسْمَهُ إِسْمَاعِيلَ، لِأَنَّ ٱلرَّبَّ قَدْ سَمِعَ لِمَذَلَّتِكِ. وَإِنَّهُ يَكُونُ إِنْسَانًا وَحْشِيًّا، يَدُهُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ، وَيَدُ كُلِّ وَاحِدٍ عَلَيْهِ، وَأَمَامَ جَمِيعِ إِخْوَتِهِ يَسْكُنُ». فَدَعَتِ ٱسْمَ ٱلرَّبِّ ٱلَّذِي تَكَلَّمَ مَعَهَا: «أَنْتَ إِيلُ رُئِي». لِأَنَّهَا قَالَتْ: «أَهَهُنَا أَيْضًا رَأَيْتُ بَعْدَ رُؤْيَةٍ؟». لِذَلِكَ دُعِيَتِ ٱلْبِئْرُ «بِئْرَ لَحَيْ رُئِي». هَا هِيَ بَيْنَ قَادِشَ وَبَارَدَ. فَوَلَدَتْ هَاجَرُ لِأَبْرَامَ ٱبْنًا. وَدَعَا أَبْرَامُ ٱسْمَ ٱبْنِهِ ٱلَّذِي وَلَدَتْهُ هَاجَرُ «إِسْمَاعِيلَ». كَانَ أَبْرَامُ ٱبْنَ سِتٍّ وَثَمَانِينَ سَنَةً لَمَّا وَلَدَتْ هَاجَرُ إِسْمَاعِيلَ لِأَبْرَامَ".
قوله: "وَقَالَ لَهَا مَلَاكُ ٱلرَّبِّ: «تَكْثِيرًا أُكَثِّرُ نَسْلَكِ فَلَا يُعَدُّ مِنَ ٱلْكَثْرَةِ»" أي: أن الله هو قائل ذلك، والملاك بلّغها ما قاله الله تعالى، ولكن الراوي صاغ الخبر وكأن القول قول الملاك، وكان الصواب أن يقول: يقول الله لكِ.
وقوله: "وَتَدْعِينَ ٱسْمَهُ إِسْمَاعِيلَ، لِأَنَّ ٱلرَّبَّ قَدْ سَمِعَ لِمَذَلَّتِكِ" هنا يتبيّن وبجلاء، اشتقاق اسم إسماعيل العربي، وأنه مشتق من المصادر العربيّة، بلفظتها الصحيحة، وهذا يثبت بطلان من ادعى أن أسماء الأنبياء ليست عربيّة!
وقوله: "وَإِنَّهُ يَكُونُ إِنْسَانًا وَحْشِيًّا" أي: يعيش في البادية.
وقوله: "يَدُهُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ، وَيَدُ كُلِّ وَاحِدٍ عَلَيْهِ". أي: أنه يغير على الناس، وتغير الناس عليه.
وقوله: "وَأَمَامَ جَمِيعِ إِخْوَتِهِ يَسْكُنُ" أي: يسكن في جزيرة العرب، ويملؤها بذُرِّيَّته.
وقوله: "فَدَعَتِ ٱسْمَ ٱلرَّبِّ ٱلَّذِي تَكَلَّمَ مَعَهَا: «أَنْتَ إِيلُ رُئِي»" قلت: هذا من تحريف رواتهم، وإلا فالمتكلم معها ملاك، كما صرّح الراوي في أوّل الخبر، وليس الربّ، ولا يُدعى الملاك ربّاً، إلّا أن يكون المراد بذلك أنه ربّها الذي يلي أمرها ويعتني بها وبصغيرها، ولكن أيضاً هذا غير وارد، لأنه لم يرد في السنة المرفوعة عن النبي صلى الله عليه وسلم ما يفيد كل ما سبق، مما يجعل القول بأن هذا الخبر كلّه من وضع قصّاص اليهود، هو الأرجح.
وقول عبدالله بن عباس: "ثم جاء بها إبراهيم وبابنها إسماعيل وهي ترضعه حتى وضعهما عند البيت". فيه ردٌّ على ما زعمه رواة اليهود، من أن إبراهيم لم ينقل إسماعيل وأمه إلى بادية فاران - وهو الاسم الذي يطلقونه على بادية الحجاز - إلّا عندما صار صبيّاً يافعاً، فقد ورد في تاريخ اليهود ما نصّه: "وَرَأَتْ سَارَةُ ٱبْنَ هَاجَرَ ٱلْمِصْرِيَّةِ ٱلَّذِي وَلَدَتْهُ لِإِبْرَاهِيمَ يَمْزَحُ، فَقَالَتْ لِإِبْرَاهِيمَ: «ٱطْرُدْ هَذِهِ ٱلْجَارِيَةَ وَٱبْنَهَا، لِأَنَّ ٱبْنَ هَذِهِ ٱلْجَارِيَةِ لَا يَرِثُ مَعَ ٱبْنِي إِسْحَاقَ». فَقَبُحَ ٱلْكَلَامُ جِدًّا فِي عَيْنَيْ إِبْرَاهِيمَ لِسَبَبِ ٱبْنِهِ. فَقَالَ ٱللهُ لِإِبْرَاهِيمَ: «لَا يَقْبُحُ فِي عَيْنَيْكَ مِنْ أَجْلِ ٱلْغُلَامِ وَمِنْ أَجْلِ جَارِيَتِكَ. فِي كُلِّ مَا تَقُولُ لَكَ سَارَةُ ٱسْمَعْ لِقَوْلِهَا، لِأَنَّهُ بِإِسْحَاقَ يُدْعَى لَكَ نَسْلٌ. وَٱبْنُ ٱلْجَارِيَةِ أَيْضًا سَأَجْعَلُهُ أُمَّةً لِأَنَّهُ نَسْلُكَ». فَبَكَّرَ إِبْرَاهِيمُ صَبَاحًا وَأَخَذَ خُبْزًا وَقِرْبَةَ مَاءٍ وَأَعْطَاهُمَا لِهَاجَرَ، وَاضِعًا إِيَّاهُمَا عَلَى كَتِفِهَا، وَٱلْوَلَدَ، وَصَرَفَهَا. فَمَضَتْ وَتَاهَتْ فِي بَرِّيَّةِ بِئْرِ سَبْعٍ. وَلَمَّا فَرَغَ ٱلْمَاءُ مِنَ ٱلْقِرْبَةِ طَرَحَتِ ٱلْوَلَدَ تَحْتَ إِحْدَى ٱلْأَشْجَارِ، وَمَضَتْ وَجَلَسَتْ مُقَابِلَهُ بَعِيدًا نَحْوَ رَمْيَةِ قَوْسٍ، لِأَنَّهَا قَالَتْ: «لَا أَنْظُرُ مَوْتَ ٱلْوَلَدِ». فَجَلَسَتْ مُقَابِلَهُ وَرَفَعَتْ صَوْتَهَا وَبَكَتْ. فَسَمِعَ ٱللهُ صَوْتَ ٱلْغُلَامِ، وَنَادَى مَلَاكُ ٱللهِ هَاجَرَ مِنَ ٱلسَّمَاءِ وَقَالَ لَهَا: «مَا لَكِ يَا هَاجَرُ؟ لَا تَخَافِي، لِأَنَّ ٱللهَ قَدْ سَمِعَ لِصَوْتِ ٱلْغُلَامِ حَيْثُ هُوَ. قُومِي ٱحْمِلِي ٱلْغُلَامَ وَشُدِّي يَدَكِ بِهِ، لِأَنِّي سَأَجْعَلُهُ أُمَّةً عَظِيمَةً». وَفَتَحَ ٱللهُ عَيْنَيْهَا فَأَبْصَرَتْ بِئْرَ مَاءٍ، فَذَهَبَتْ وَمَلَأَتِ ٱلْقِرْبَةَ مَاءً وَسَقَتِ ٱلْغُلَامَ. وَكَانَ ٱللهُ مَعَ ٱلْغُلَامِ فَكَبِرَ، وَسَكَنَ فِي ٱلْبَرِّيَّةِ، وَكَانَ يَنْمُو رَامِيَ قَوْسٍ. وَسَكَنَ فِي بَرِّيَّةِ فَارَانَ، وَأَخَذَتْ لَهُ أُمُّهُ زَوْجَةً مِنْ أَرْضِ مِصْرَ".
وقولهم: "فَبَكَّرَ إِبْرَاهِيمُ صَبَاحًا وَأَخَذَ خُبْزًا وَقِرْبَةَ مَاءٍ وَأَعْطَاهُمَا لِهَاجَرَ، وَاضِعًا إِيَّاهُمَا عَلَى كَتِفِهَا، وَٱلْوَلَدَ، وَصَرَفَهَا. فَمَضَتْ وَتَاهَتْ فِي بَرِّيَّةِ بِئْرِ سَبْعٍ" قولٌ باطل، وهو من تحريف وتخليط رواتهم، فهاجر وابنها أقاما في مكة، وليس في بادية النقب، ثم إن إبراهيم، هو من نقل هاجر وابنها إلى مكة، ولم ينقلها بسبب أن سارة تريد إبعادها وابنها عنها وعن ابنها إسحاق، بل لأن الله تعالى هو من أمره بذلك، لما أراد الله تعالى أن يكرم إسماعيل به من النبوة والرسالة، وبعثه إلى قبائل الحجاز.
وأما قولهم: "وَأَخَذَتْ لَهُ أُمُّهُ زَوْجَةً مِنْ أَرْضِ مِصْرَ" فهذا من تحريف وتخليط رواة اليهود أيضاً، إذ جعلوها ترتحل إلى مصر، لتأخذ له زوجة من هناك! والصواب، أنها أخذت له زوجة من القوم الذين حلّوا عليها، ونزلوا بجوارها في مكة.
وقوله: "فانطلق إبراهيم حتى إذا كان عند الثنية، حيث لا يرونه، استقبل بوجهه البيت، ثم دعا بهؤلاء الدعوات ورفع يديه فقال: ﴿رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ ﴾ فيه إشارة إلى ما ذكره الله تعالى في سورة إبراهيم في قوله تعالى: (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَٰذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الْأَصْنَامَ رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ ۖ فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي ۖ وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ ۗ وَمَا يَخْفَىٰ عَلَى اللَّهِ مِن شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ ۚ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِن ذُرِّيَّتِي ۚ رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ)
قوله: (اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا) أي: بكّة، والعرب صارت فيما بعد تبدل الباء ميماً، لتقارب مخرجها، فيقولون: مكة.
وقوله: (بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ) أي: وادي بكة.
وقوله: (عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ) أي: عند الكعبة، وهي بيت الله المحرّم.
وقوله: (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ) فيه دليل على أن إبراهيم لما نقل هاجر وابنها إسماعيل إلى مكة، كان قد بُشَِر بإسحاق، او أنه قد وُلِد له، وهذا يدل على أنه ليس هناك فارق كبير في السنّ بين إسماعيل وإسحاق، وهذا يعني أيضاً أن إبراهيم لم ينقل إسماعيل وأمه إلى مكة، فور ولادة إسماعيل، بل مكثا عنده وقتاً ليس بالطويل، حيث نقلهما إلى مكة، وإسماعيل لا يزال رضيعاً، وفي هذا دليل أيضاً، على أن هلاك قوم لوط، كان قبل أن ينقل هاجر وابنها إلى مكة.
وقوله: (رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ) ودعاء إبراهيم لوالديه قبل أن يموتا على الشرك، فلما ماتا على الشرك ترك الدعاء لهما بالمغفرة، وفي هذا إشارة إلى أن والدي إبراهيم كانا على قيد الحياة في ذلك الوقت الذي دعا فيه إبراهيم هذه الدعوات، وهناك احتمال أخر، وهو أن إبراهيم، كان يدعو لوالديه حتى بعد وفاتهما على الشرك، حتى ورد النهي من الله تعالى له عن ذلك.
قلت: وادعاء رواة اليهود، أن سارة لما غارت من هاجر، أذلّتها حتى اضطرت هاجر إلى الهروب منها في البريَّة، وادعائهم أنها أنِفَت من أن يلعب إسماعيل ابن الجارية مع ابنها، كلّ ذلك من تحريفهم وتخليطهم، فقد جعلوا سارة المرأة الصالحة، امرأة حسوداً مُتكبِّرَةً، وحاشاها من ذلك عليها السلام، ولعلّ ابن عباس رضي الله تعالى عنه، تأثر بروايات اليهود في هذا الشأن، ومنهم أخذ أن هاجر، هي أوّل من اتخذت المنطق لتُعفي أثرها من سارة، لكي لا تقتص أثرها، وتلحق بها، وتعيدها، لتستمر في إذلالها، وكيف لا يقول اليهود عن سارة ذلك، وقد قالوا في أنبياء الله تعالى ما هو أعظم من ذلك!
وقال تعالى في سورة البقرة: (وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمْناً وَاتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُم بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ قَالَ وَمَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ)
قوله: (وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمْناً) أي: البيت الحرام، وهو الكعبة المشرّفة، مثابة، أي: محلاً ليثوب الناس إليه، ومعنى يثوب: أي: يفد إليه الناس للحج والعمرة، وأمناً، أي: مكان يأمن الناس فيه، فلا يجوز لمن كان يؤمن بالله واليوم الأخر، أن يخيف فيه أحدا.
وقوله: (وَاتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى) أي: الحجر الذي قام عليه إبراهيم عليه السلام وهو يبني الكعبة، أمر الله تعالى المسلمون، أن يستقبلوه في صلاتهم إن استطاعوا، لذلك يستحب للمصلي أن يجعل مقام إبراهيم بينه وبين الكعبة، فيصلّي إليهما جميعاً، عند القدرة، وليس هذا بواجب، وإنما هو مستحب.
وقوله: (قَالَ وَمَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً) أي: أن الله تعالى سوف يرزق الكفّار كما يرزق المسلمين.
وقال تعالى في سورة الصافات: (رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَىٰ فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَىٰ ۚ قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ ۖ سَتَجِدُنِي إِن شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ وَنَادَيْنَاهُ أَن يَا إِبْرَاهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا ۚ إِنَّا كَذَٰلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ إِنَّ هَٰذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ)
قوله: (رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ) أي: أنه دعا الله عز وجل أن يهبه ولداً ذكراً صالحاً.
وقوله: (فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ) أي: بلغ مبلغاً يستطيع فيه السعي لمرضات الله تعالى، ولطلب الرزق، أي: أنه بلغ مبلغ الرجال.
وقوله: (إِنِّي أَرَىٰ فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ) هذه رؤيا منام، رآها إبراهيم عليه السلام، ورؤيا الأنبياء وحي، لذلك علم إبراهيم أن الله أمره بذبح ابنه بكره، وذلك بعدما فرغ إبراهيم وابنه إسماعيل عليهما السلام من بناء البيت العتيق، وهو في مكة، قبل أن يعود إلى الشام.
وقوله: (فَانظُرْ مَاذَا تَرَىٰ) أراد إبراهيم أن يطيعه إسماعيل بمحض إرادته، دون إكراه، ليكون له في ذلك أجر.
وقوله: (يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ ۖ سَتَجِدُنِي إِن شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ) فيه دليل على قوَّة إيمان إسماعيل عليه السلام.
وقوله: (فَلَمَّا أَسْلَمَا) أي: استسلما لله تعالى ولأمره.
وقوله: (وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ) أي: أمسك بجبينه، وشدّ بها رأسه، لتبرز رقبته، استعداداً للذبح.
وقوله: (وَنَادَيْنَاهُ أَن يَا إِبْرَاهِيمُ) أي: بعث الله له ملكاً، ليوقفه عن اتمام عملية الذبح.
وقوله: (قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا) أي: آمنت وأطعت ربك، حتى في لما أمرك بذبح ابنك، وهذا دليل على شِدَّة حب إبراهيم عليه السلام لربه عز وجل، مع شِدَّة خوفه منه، وشِدَّة طاعته له.
وقوله: (نَّ هَٰذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ) أي: امتحان عظيم، لا يقدر على طاعة الله فيه، إلا من بلغ مبلغاً عظيماً من الإيمان بالله تعالى.
وقوله: (وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ) أي: كبش كبير سمين، بعثه الله تعالى مع الملك، ليذبحه إبراهيم، بدلاً من ابنه.
وأهل الكتاب يزعمون أن الذبيح هو إسحاق وليس إسماعيل، وهذا من تحريفهم وكذبهم، لأن الله تعالى قال في محكم التنزيل: (فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَىٰ فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَىٰ ۚ قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ ۖ سَتَجِدُنِي إِن شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ) [الصافات]
ثم لمّا حكى قصّة الذبيح، قال بعد ذلك: (وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِّنَ الصَّالِحِينَ) [الصافات]
فجاء بخبر البشارة بميلاد إسحاق، بعد ما قصّ لنا قصّة الغلام الذبيح، فتبيّن بجلاء، أن الذبيح هو إسماعيل عليه السلام، لأنه بالإجماع لم يكن لإبراهيم ولد قبل إسحاق، سوى إسماعيل.
وقال تعالى في سورة مريم: (وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ ۚ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَّبِيًّا)
وفيه دليل على أن إسماعيل كان رسولاً.
والرسول هو من أُوحي إليه بشرع وأُمِر بتبليغه.
أي: أن الله تعالى بعثه رسولاً إلى أصهاره وحلفائه من جرهم.
فإن قيل: أن النبي صلى الله عليه وسلّم قال: "وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة".
رواه البخاري ومسلم.
فالجواب: إن قوم الرجل لا تقتصر على أقاربه في النسب، بل هي أوسع من ذلك، فقوم الرجل حلفاءه، وقوم الرجل مواليه، وابن أختِ القوم منهم.
وإسماعيل عليه السلام، كانت جرهم حلفاءه، وأصهاره، فهم بهذا الاعتبار قومه وعشيرته، وإليهم بُعِث.
فإن قيل: ما بال الأنبياء يبعثون من علياء قومهم، وأوسطهم حسباً ونسباً، ويبعث إسماعيل إلى جرهم، وهو ليس من أنفسهم؟
فالجواب: أن هذا الشرط الذي ذكرتموه، ليس شرطاً منصوصاً عليه في كتاب ولا سنّة، وإنما استظهر من تاريخ بعض الأنبياء، أنهم بعثوا من أوسط قبائلهم نسباً وحسباً لعلّة، وهي لكي لا يقول قومهم أنهم إنما ادعو النبوّة ليحوزوا بذلك المجد والشرف، فإما إذا أًمِن هذا الجانب، فلا بأس في أن يبعث النبي إلى قوم ليسوا بنُسباء له.
وإسماعيل عليه السلام، كان هو صاحب الدار والماء، وجرهم إنما نزلوا عليه، وجاوروه، وحالفوه، ثم زوّجوه، فهم جيرانه وحلفاءه وأصهاره، فهو صاحب المجد والشرف والسؤدد فيهم، كونهم لا يملكون معه شيئاً، إلّا أنه تفضّل عليهم هو ووالدته بأن يقيموا في داره، ويشربوا من ماءه، فأي شرف يبتغيه إسماعيل من ادعاءه النبوّة، مع أنه ما هنالك في جرهم أشرف منه، فلمكانته بينهم، ومجده وشرفهم وسؤدده بينهم، بعثه الله إليهم، كونهم يعرفون منزلته ومكانته من قبل أن يبعثه الله نبيّاً لهم.
والله أعلم وأحكم.