قال تعالى في سورة البقرة: (أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّىَ يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَل لَّبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِّلنَّاسِ وَانظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)
قوله: (خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَ) أي: مهدمة، لم يبقى سوى أساساتها.
وقوله: ( لَمْ يَتَسَنَّهْ) أي: أي: لم يتغيّر.
وقوله: (وَانظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا) أي: أن الله تعالى جمع العظام أمامه وكساها لحماً ثم أعاد الجسد إلى الحياة.
ولكن ما المراد بالإحياء هنا، الرجل أم الحِمار؟
والجواب: الراجح أن المراد بذلك هو الحِمار، أي: أن الحمار هلك وأكل الدود لحمه، وتفككت عظامه، فلما بعث الله الرجل، أراه كيف يحيي الحمار من جديد.
والدليل على ذلك، أن الرجل أُقيم بعد أن بعثه الله من الموت، فسأله الله بواسطة ملائكته: كم لبثت؟ فقال: يوماً أو بعض يوم. أي: أنه لم يشعر بالوقت، ولم يلحظ في نفسه ما يدل على طول مكثه، فأراه الله تعالى طعامه لم يتغيّر، ثم أراه الحمار قد هلك، وأحياه أمامه.
ومثل هذه الحادثة لا تقع إلّا لنبي، ولم يذكر الله تعالى من هو هذا النبي، ومن هم قومه، إلّا أن الشواهد التاريخية، المذكورة في كتب اليهود، تدل على أن المراد بذلك، هو عزير عليه السلام.
فرواة اليهود يذكرون في تاريخهم، أن عزيراً كان هو المسؤول عن إعادة إعمار مدينة القدس بعد دمارها على يد بخت ناصر ملك بابل، وإجلائه لليهود إلى العراق، فلما قضى الفرس على دولة البابليين، أذنوا لليهود بالعودة إلى القدس، وأمدّ ملك فارس عزيراً بالمال ليعيد بناء مدينة القدس.
ومما سبق، يتّضح أن رواة اليهود قد عبثوا في تفاصيل الخبر، بسبب ما يقع للرواة من أوهام، والذي يظهر لي وأراه صواباً: أن عزيراً عليه السلام، كان من ضمن من نجى من الغارة البابلية على مملكة اليهود، ولم يتم أسره مع من أسر إلى بابل، فيظهر أن عزيراً استقرّ فيما بعد بأهله في موضع خارج القدس، فخرج على حماره ومعه زاده ليتفرّج على أطلال المدينة، وهناك تعجب كيف يحيي الله هذه المدينة، بعد أن تمّ تدميرها كل هذا الدمار، فلما نزل للراحة ولتناول طعامه، أماته الله، فمرَّت دولة البابليين، وانهارت على أيدي الفرس، وأذن الفرس لليهود بالعودة إلى بلادهم الأولى، فرجع كثير منهم، ولم يبقى على قيد الحياة ممن أدرك السبي، إلّا النزر اليسير، فعاد اليهود وأعادوا بناء مدينتهم القدس، وعزير في موضعه لا أحد ينتبه له، حتى عادت القدس مثل ما كانت عليه أو أحسن من ذلك، وهنا بعث الله تعالى عزيراً ليريه كيف أحيا تلك القرية.
والسؤال هنا: هو كيف عرف اليهود أنه عزير الذي كان حيَّاً قبل مائة عام؟
والجواب: لا شك أن ممن رجع إلى القدس من العراق، من عاش أيام السبي، وكان يعرف عزيراً، وقد يكون من قرابته أو أصدقائه، وهو من شهد له بأنه عزير.
والله وحده أعلم بالصواب.
ومما يدل على أن هذا النبي هو عزير عليه السلام، ما حكاه الطبري عن عبدالله بن عباس ومولاه عكرمة والضحاك بن مزاحم وقتادة بن دعامة والربيع بن أنس، أنه عزير. وهذا أصحّ الأقوال.
وقال تعالى في سورة التوبة: (وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ)
وهذا من تعظيمهم لعزير.
وذلك أن التوراة فقدت، لما لحق نسخها من الإحراق، وما لحق أحبار اليهود من القتل، حتى لم يتبقى منها شيء، سوى الآيات القلائل التي يحفظها بعض علمائهم، ولم يكن فيهم من كان يحفظ التوراة جميعاً عن ظهر قلب، فأملاها عليهم عزير من حفظه كاملة، لذلك عظم في نفوسهم، وكانوا يصفونه في تاريخهم، بكاتب شريعة الربّ الكامل.
وبسبب موته مائة عام، وحفظه للتوراة وإملاءه لها من صدره، وقد فقدت، غلا فيه بعض اليهود، فزعموا أنه ابن الله، تعالى الله عن قولهم علوا كبيرا، ما اتخذ صاحبة ولا ولد.
ولأن عزيراً كانت له مكانة سامية عند اليهود، ولأنه أدرك عودة اليهود إلى القدس، فقد نسبوا إليه أنه هو من أعاد القدس، ولأن ملك فارس هو من دعم اليهود معنويّاً واقتصاديّاً، لإعادة إعمار القدس، فقد جعلوا عزيراً، هو من تولّى ذلك كله، وهذا ليس بصحيح.
وعزير اسم عربيّ، مشتق من التعزير. وله في اللغة معانٍ عِدّة، فهو يأتي على معنى التعظيم والتوقير، ويأتي على معنى المنع، ويأتي على معانٍ أخرى.