قال تعالى في سورة الأعراف: (وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلاَ تَتَّقُونَ قَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي وَأَنَاْ لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ أَوَعَجِبْتُمْ أَن جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِّن رَّبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِّنكُمْ لِيُنذِرَكُمْ وَاذْكُرُواْ إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاء مِن بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً فَاذْكُرُواْ آلاء اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ قَالُواْ أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَاؤُكُم مَّا نَزَّلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ فَانتَظِرُواْ إِنِّي مَعَكُم مِّنَ الْمُنتَظِرِينَ فَأَنجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا وَقَطَعْنَا دَابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَمَا كَانُواْ مُؤْمِنِينَ)
قوله: (وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا) أي: أنه أخوهم في النسب، فليس حليفاً لهم، ولا مولى، وأما النسب المذكور لهود وقومه عاد في التواريخ، فهي أنساب موضوعة، من وضع القصّاص، فلا يعرف لهود ولا لقومه عاد نسب.
وهو اسم عربيّ، مشتق من هاد، بمعنى آب ورجع، فمعنى هود: أي، العائد أو الراجع.
وكذلك اسم قومه عاد، مشتق من العود، وهو الأوب والرجوع، تقول العرب، هاد وعاد وآب ورجع، معانٍ مترادفة.
وقوله: (خُلَفَاء مِن بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ) أي: أن هود هو أوّل نبي بعث بعد نوح عليه السلام، وبما أنه بعث بعد نوح عليه السلام، فهذا دليل على أن هود وقومه عاد، من ولد نبي الله نوح عليه السلام، لما قدمنا من أن الله تعالى، حصر النبوة في ولد نوح عليه السلام.
وهذا يفيدنا في أن المدة الزمنية التي كانت تفصل بين نوح وهود، كانت مدّة طويلة جداً، لأن سلالة الرجل الواحد، تحتاج إلى مدة طويلة جداً، لتصبح شعوباً وقبائل.
وقوله: (وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً) أي: كانوا طويلي القامة، مفتولي العضلات، تامِّي الأجساد، يفوقون غيرهم من البشر طولاً ولياقةً، وهذا لا يعني أنهم كانوا عمالقة في الطول، بل معنى هذا، أنهم كانوا بالنسبة لغيرهم من القبائل والشعوب أطول وأعرض وأكمل أجساماً، إذ كان قصر القامة، صفة شاذّة بين رجالهم ونسائهم.
وقوله: (أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَاؤُكُم) أي: أتجادلونني في الأصنام، التي سمّيتموها أنتم وآبائكم بأسمائها، وادعيتم فيه الألوهية!
وقوله: (مَّا نَزَّلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ) أي: لم يأمركم الله تعالى بعبادتها، إنما عبدتموها من تلقاء أنفسكم.
وقوله: (فَأَنجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ) ولم يخبرنا ربنا ولا رسوله صلى الله عليه وسلم إلى أي أرض وقع، ولا ما جرى له بعد ذلك، إلا أنه لا شك أنه توجه إلى أرض عيّنها الله له، ليتخذها سكناً هو والمؤمنون معه، وبقي هنالك حتى وافاه أجله المحتوم.
وقال تعالى في سورة هود: (وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ مُفْتَرُونَ يَا قَوْمِ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلاَ تَعْقِلُونَ وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلاَ تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ قَالُواْ يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَن قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ إِن نَّقُولُ إِلاَّ اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهِ وَاشْهَدُواْ أَنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ مِن دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لاَ تُنظِرُونِ إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُم مَّا مِن دَابَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ فَإِن تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُم مَّا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلاَ تَضُرُّونَهُ شَيْئًا إِنَّ رَبِّي عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُودًا وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا وَنَجَّيْنَاهُم مِّنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُواْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ وَاتَّبَعُواْ أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ وَأُتْبِعُواْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا إِنَّ عَادًا كَفَرُواْ رَبَّهُمْ أَلاَ بُعْدًا لِّعَادٍ قَوْمِ هُودٍ)
قوله: (فَكِيدُونِي جَمِيعًا) أي: خطِّطوا للخلاص منّي.
وقوله: (ثُمَّ لاَ تُنظِرُونِ) أي: لا تؤخروني، ومعنى: لا تنظرون، أي: لا تؤخرون.
وقال تعالى في سورة الشعراء: (كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلا تَتَّقُونَ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ وَإِذَا بَطَشْتُم بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُم بِمَا تَعْلَمُونَ أَمَدَّكُم بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ قَالُوا سَوَاء عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُن مِّنَ الْوَاعِظِينَ إِنْ هَذَا إِلاَّ خُلُقُ الأَوَّلِينَ وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ)
قوله: (رِيعٍ) والريع هو الطريق في الجبل.
وقوله: (آيَةً) أي: بناءً بديعاً غاية في الجمال.
وقوله: (تَعْبَثُونَ) أي: تترفهون بشكل مفرط، وهذا من العبث.
وقوله: (وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ) أي: تعملون مصانع، والمصانع هي كل بناء صنعه الإنسان، سواء كان قصراً أو ضريحاً أو حصناً أو مجاري للمياه، والراجح أن المراد به هنا القصور، وتشير الآية إلى أن مصانعهم كانت متينة أو قويّة، فكأن من بناها يظن أنه سوف يعيش إلى الأبد.
وقال تعالى فبي سورة فصّلت: (فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِّثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ إِذْ جَاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللَّهَ قَالُوا لَوْ شَاء رَبُّنَا لَأَنزَلَ مَلائِكَةً فَإِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَّحِسَاتٍ لِّنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لا يُنصَرُونَ)
قوله: (رِيحًا صَرْصَرًا) أي: ريحاً باردة، تسمع لها صرير من شدّة برودتها.
وقال تعالى في سورة الأحقاف: (وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنذَرَ قَوْمَهُ بِالأَحْقَافِ وَقَدْ خَلَتْ النُّذُرُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا عَنْ آلِهَتِنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ قَالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِندَ اللَّهِ وَأُبَلِّغُكُم مَّا أُرْسِلْتُ بِهِ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُّسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُم بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لا يُرَى إِلاَّ مَسَاكِنُهُمْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِن مَّكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصَارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُم مِّن شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُون)
قوله: (بِالأَحْقَافِ) والأحقاف هي بلاد عاد، وقد اختلف في موضعها، فقيل بالشام، وقيل باليمن، ناحية الشحر.
قوله: (لِتَأْفِكَنَا) أي: لتصرفنا.
وقوله: (وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِن مَّكَّنَّاكُمْ فِيهِ) أي: مكناهم فيما مكناكم فيه، من الشرف والجاه والثروة والقوة.
وقال تعالى في سورة الذاريات: (وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ مَا تَذَرُ مِن شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلاَّ جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ)
قوله:(الرِّيحَ الْعَقِيمَ) أي: الريح التي لا خير فيها، بل هي شرٌ على من أرسلت عليهم، فهي عقيم من كل خير.
وقوله: (كَالرَّمِيمِ) أي: كفتات العشب اليابس.
وقال تعالى في سورة القمر: (كَذَّبَتْ عَادٌ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُّسْتَمِرٍّ تَنزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُّنقَعِرٍ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ)
قوله: (تَنزِعُ النَّاسَ) أي: تجذبهم بقوة، وتطوِّح بهم، وتلقيهم على الأرض.
وقال تعالى في سورة الحاقة: (كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بِالْقَارِعَةِ فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ فَهَلْ تَرَى لَهُم مِّن بَاقِيَةٍ)
قوله: (بِالْقَارِعَةِ) أي: بيوم القيامة، والقارعة، اسم من أسماء يوم القيامة.
وقوله: (فَهَلْ تَرَى لَهُم مِّن بَاقِيَةٍ) أي: لم يبقى من عاد بقيّة، سوى هود والمؤمنون معه، ومما لا شك فيه، أن هذه الطائفة المؤمنة من قبيلة عاد، تناسلوا وتكاثروا، وربما شكّلوا قبيلة عاشت قروناً طويلة، وربما أن ذراريهم ارتكست إلى الكفر والشرك بالله تعالى، ولكن حتى هؤلاء ما تعاقب اللي والنهار، حتى تلاشوا شيئاً فشيئاً ولحقوا بالأمم البائدة، وذلك قبل بعثة النبي محمد صلى الله عليه وسلم، بمدّة الله أعلم بها.
وقال تعالى في سورة الفجر: (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلادِ)
قوله: (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ) سؤال تقريري.
واختلف المفسرون في تأويل قوله تعالى: (إرم ذات العماد) على أقوال عديدة:
القول الأول: أن إرم اسم أبٍ من آباء عاد، وأخذوا هذا القول مما ورد في كتب أهل الكتاب، حيث ورد فيها: أن سام بن نوح، أعقب خمسة بنين، أحدهم يدعى: أرام. فرجّحوا أن يكون أرام خطأ في الترجمة، وأن صوابه: إرم، ثم أرادوا الجمع بين عاد وإرم، فلم يجدوا إلّا أن يقولوا: بأن عاد بن إرم.
ولكن أهل الكتاب ذكروا في كتبهم، أن أراماً هذا، أعقب أربعة بنين، وهم: عوص، وحول وجاثر وماش. ولم يذكروا أن لأرام ولد اسمه: عاد! وهنا يأتي دور القصّاص، الذين لهم دور بارز في اختلاق الأنساب والوقائع، ليزعموا لنا، بأن عاد بن عوص بن أرام – الذي هي عند أصحاب هذا القول: إرم - بن سام بن نوح! وهو نسب كما يظهر مكذوب.
لذلك قالوا في تفسير قوله تعالى: (ذات العماد التي لم يخلق مثلها في البلاد) بأن الضمير في قوله: "ذات" وقوله: "التي لم يخلق مثلها" عائد إلى هذه القبيلة، التي تدعى: إرم، ثم اختلفوا في تأويل هذه الآية على قولين:
الأول: أن معناها أن أفرادها متّصفون بأنهم ذوو العماد، والتي فسّروها بأن المراد بها أنهم ذوو طول فارع، وأنهم لم يخلق مثلهم في البلاد، في طولهم وجسامتهم، أخذوا ذلك من قول العرب: رجل طويلُ العِماد، إِذا كان مُعْمَداً، أي: طويلاً.
والثاني: أن معناها، أنهم أهل خيام، والخيام تقوم على العمد، أي: أنهم أهل حِلٍّ وترحال، كما تقول العرب عن أهل الخيام: أهل عِمَاد، وأهل عَمَد.
والثالث: أن معناها، أنهم أهل مجد وشرف، والعرب تقول: فلان رفيعُ العِمادِ؛ يريدون بذلك عِمادَ بيتِ شرفه، والعرب تضع البيت موضع الشرف في النسب والحسب.
وشذّ أخرون من أصحاب هذا القول، فقالوا: بأن إرم بن عاد، وأنه أشرف بطن في عاد! ولا أعلم لمن قال بذلك، دليل يعوّل عليه!
والعجيب أن محمد بن جرير الطبري، رجّح هذا القول، حيث قال في تفسيره: "وأشبه الأقوال فيه بالصواب عندي أنها اسم قبيلة من عاد، ولذلك جاءت القراءة بترك إضافة عاد إليها، وترك إجرائها، كما يقال: ألم تر ما فعل ربك بتميم نهشل؟ فيترك إجراء نهشل، وهي قبيلة، فترك إجراؤها لذلك، وهي في موضع خفض بالردّ على تميم، ولو كانت إرم اسم بلدة، أو اسم جدّ لعاد لجاءت القراءة بإضافة عاد إليها، كما يقال: هذا عمروُ زبيدٍ وحاتمُ طيء، وأعشى هَمْدانَ، ولكنها اسم قبيلة منها فيما أرى" اهـ
وهذا الذي قاله، خطأ فاحش، لأسباب:
أولها: أن العرب لا تقول: تميم نهشل. بل تقول: نهشل تميم. للتمّييز بينها وبين ما يشبهها في الاسم من البطون الأخرى في القبائل الأخرى. ولا أدري من أين جاء الطبري بأن العرب تقول: تميم نهشل! ولكن لا يستغرب هذا من كتب اللغة، إذا علمنا أن أكثر من ألفها، هم من الأعاجم، وكثير منهم يرضخ من رأسه، ويؤلف كلاما للعرب لا تعرفه!
وثانيها: أن احتجاجه بقول العرب: حاتم طيء، على أن العرب تقول: تميم نهشل، باطل، لأن قول العرب: حاتم طيء، يصحّ أن يكون مثالاً على قول العرب: نهشل تميم، وليس العكس! لأن العرب تريد أن تميّز حاتماً عن غيره ممن يحمل نفس الاسم من الرجال المنتمين إلى القبائل الأخرى، بكونه حاتم طيء، مثلما أن العرب، تريد أن تميّز نهشل تميمٍ، عن غيره ممن يحمل نفس الاسم من البطون، بكونه نهشل تميم.
القول الثاني: أن المراد بـ "إرم" أي: القديمة، أخذوا ذلك من قول العرب: أرم، أي: لحقه البلاء، كما تقول العرب: أرمّت عظامه. أي: بليت.
القول الثالث: أن المراد بـ "إرم" أي: الهالكة، أخذوا ذلك من قول العرب: أرِم بنو فلان. أي: هلكوا.
ومراد أصحاب القولين الثالث والرابع، أن قوله (إرم ذات العماد التي لم يخلق مثلها في البلاد) هو وصف لعاد، ومضاف إليه، فهي: قبيلة أو مدينة قديمة هالكة، كانت ذات مجد وشرف، ولم يخلق مثلها في البلاد، قوةً وشجاعةً وربما طولاً وضخامةً في أجسامهم.
القول الرابع: أن إرم اسم مدينة، وهؤلاء يفسرون قوله تعالى: (ذات العماد التي لم يخلق مثلها في البلاد) بأنه وصف لإرم، التي هي عندهم مدينة، أي: إرم المدينة ذات البناء الرفيع. والعرب تصف الأبنية الرفيعة، بالعِماد. والواحدة عمادة.
وقد يكون قوله تعالى: (ذات العماد) المراد به، ذات المجد والشرف، فالعرب يصفون المدينة بذلك، كناية عن أن أهلها أهل مجد وشرف.
وربما كانت عاد اسم قبيلة ومدينة في آنٍ معاً، لأنه عرف عن العرب قديماً، أنهم قد يطلقون أسماء قبيلتهم على مدينتهم، فتحمل مدينتهم اسم قبيلتهم، وعلى هذا فإرم ذات العماد التي لم يخلق مثلها في البلاد، هو وصف لعاد القبيلة والمدينة.
إلا أن أصحاب هذا القول، تخبّطوا في تحديد مكان هذه المدينة، فبعضهم قال: هي دمشق. وبعضهم قال: هي الإسكندريّة. وبعضهم قال بأنها مدينة كانت بالرمال الواقعة جنوب الجزيرة العربية، بين حضرموت وعمان، وتعرف بالرملة، كما تعرف بالربع الخالي، ولا أعلم أن أحداً من أصحاب هذه الأقوال، جاء بدليل بيّن على ما يدعيه، إنما هم يظنون ظناً، والظن لا يغني من الحق شيئا.
والراجح من هذه الأقوال، أن الوصف المذكور في الآية، يراد به مدينة، كانت قبيلة عاد تتخذها عاصمة لها، سواء كان اسم هذه المدينة عاد أو كان اسمها إرم، وقد بيّنت سابقاً أن القول بأن إرم اسم قبيلة، قولٌ ضعيف، يُرْغب عنه.
وزيادةً على ذلك، فإن في القرآن العظيم، ما يرجّح أنها مدينة، هو قوله تعالى: (أتبنون بكل ريع آية تعبثون) من البناء، أي: أن عاد كانوا قوماً حاذقون في بناء الأبنية، فإذا نظرنا في هذه الآية، وتمعنّا في قوله تعالى: (ذات العماد التي لم يخلق مثلها في البلاد) ترجّح عندنا أن ذات العماد التي لم يخلق مثلها في البلاد، هي وصف لمدينة، بناها قوم حاذقون في بناء الأبنية.
فيكون معنى قوله تعالى: (ألم ترى كيف فعل ربك بعاد إرم ذات العماد) أي: ألم ترى كيف فعل ربك بمدينة عاد إرم ذات العماد. أو قد يكون معناها: ألم ترى كيف فعل ربك بقبيلة عاد الذين يقيمون بمدينة إرم ذات العماد.
والله وحده أعلم بالصواب.
ولم يرد في الآيات وما صح عن النبي من الأخبار، ما يفيد الموضع الذي استقر فيه هود والمؤمنون معه، بعد خروجهم من ديارهم، ولكن لعلهم انحازوا إلى أرض قريبة من أرضهم، والله تعالى لا يأتي من قصص الأنبياء مع أقوامهم، إلا بما فيه عبرة وعظة.
وجميع الروايات التي رويت في خبر هود عليه السلام وقومه، مما لم أذكره هنا، قد ترجّح عندي، أنها من إفك القُصّاص ووضعهم، لذلك أعرضت عن ذكرها.