سيرة إبراهيم عليه السلام

قال تعالى في سورة البقرة: (وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ)

قوله: (وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ) أي: امتحنه الله تعالى بكلمات، وهذه الكلمات هي ما أمره الله به من الفرائض، ونهاه عنه من المحرمّات، فأتمهن، أي: قام بهنّ كلهنّ، على الوجه الذي يرضي الله تعالى.

وقوله: (لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) أي: أنه سوف يكون في ذريّة إبراهيم عليه السلام، فسّاق وفجّار وكفّار، وهذه الأصناف، لا تستحق الإمامة.

وقال تعالى في سورة الأنعام: (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُّبِينٍ وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلاَ أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلاَّ أَن يَشَاء رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلاَ تَتَذَكَّرُونَ وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلاَ تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُم بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَاء إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ)

قوله: (لِأَبِيهِ آزَرَ) أي: أن اسم أبي إبراهيم هو: آزر، فهو: إبراهيم بن آزر، ولا يعرف عن نسب إبراهيم عليه السلام أكثر من أنه ابن آزر، وأنه من ذريّة نوح عليه السلام، والنسب المذكور لإبراهيم في كتب التاريخ، منقول من كتب اليهود، وهو نسب ملفّق موضوع.

ولا أدل على كذبه، من تسميتهم لوالد النبي إبراهيم عليه السلام: تارح، بينما سمّاه الله تعالى في القرآن: آزر، فلا يقال بأن آزر لقبه، بل هو اسمه، لأنه هكذا سمّاه الله تعالى.

ولقد اشتدّ عجبي من مؤرخي الإسلام، عندما أرادوا الجمع بين ما ورد في القرآن الكريم، وما ورد في كتب اليهود، فزعموا أن تارح اسمه، وأن آزر لقبه! فقدّموا ما وجدوا في كتب اليهود، على ما ورد في القرآن!

واتّفق رواة اليهود والنصارى والصابئة، على أن إبراهيم من مدينة أور الواقعة جنوب العراق، وأنه من شعب يقال لهم: الكلدان.

واتفاقهم على أنه من شعب الكلدان، دليل أخر على بطلان سلسلة النسب التي ذكرها اليهود لإبراهيم، لأنه لم يرد فيها ذكر لِكَلَدَة، جَدُّ القبائل الكلدانيَّة.

فإن قيل: كيف قبلت قول أهل الكتاب فيما ذكروه عن قبيلة ومدينة إبراهيم عليه السلام، ولم تقبل قولهم فيما ذكروه عن نسبه إلى نوح، وما ذكروه عن نسب نوح إلى آدم؟ 

فالجواب: لسببين: 

الأول: أن الناس عادة يحفظون الأنساب المجملة، وذلك لسهولة حفظها وتناقلها، وهذا بخلاف الأنساب المفصّلة، فإن الرواة يهمون فيها ويخطئون كثيرا، ويزيدون فيها وينقصون منها، ويبدّلون الأسماء، ويخترعون غيرها، وذلك لصعوبة حفظها وتناقلها. 

والثاني: أن ما قبلته متّفق عليه بين رواة اليهود والنصارى والصابئة، وعادة الرواة إذا اتّفقوا على شيء، فالراجح أنه صحيح، بخلاف الأنساب المفصّلة الواردة في كتب اليهود والنصارى، فإن الصابئة لم يذكروها في كتبهم.

وإبراهيم، اسمٌ مركّب من شِقين، وهما: "إبرا" و "هيم". فأما إبرا، فيظهر أنها مشتقة من البراءة، كأن أصل الاسم: إبراء، وحذفت الهمزة للتخفيف، أو هو مشتق من البري، وهو النحت، وأما هيم، فتستخدم للمبالغة في الوصف، كقولنا: فلان هائم، وقولنا: إبلٌ هِيم، أي التي بلغت مبلغا عظيما من العطش، ونحو ذلك، فيكون معنى الاسم: المبالغ في البراءة من الشيء، أو البليغ في البراءة من الشيء.

وأما آزر، فمشتق من المؤازرة، وهي: المعاونة.

وقوله: (مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ) وملكوت السموات، هو ملك الله في السماء، الشمس والقمر والنجوم والسحاب. وملكوت الأرض، هو ملك الله في الأرض، الجبال والبحار والأنهار والأشجار والرياح والدوابّ.

وقوله: (الآفِلِينَ) أي: الغائبين، قال قتادة: علم أن ربّه دائم لا يزول. رواه الطبري في التفسير. أي: لا يغيب عن عباده، فهو معهم بعلمه، يراهم ببصره، ويرعاهم بحفظه. وهذا لا يعني أن الله تعالى لا يتحرك، بل هو يتحرك وينتقل من مكان إلى مكان، ولكن الله تعالى ليست صفاته كصفاته خلقه، فهو يدنو من خلقه كيف يشاء، وهو فوق سماواته مستوٍ على عرشه.

وقوله: (حَنِيفًا) أي: مائلاً عن طريق المشركين، إلى طريق التوحيد والإسلام، والحنيف هو المائل.

وقوله: (وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ) والظلم المراد به هنا: الشرك، أي: لم يلبسوا إيمانهم بشرك، والمراد بالشرك هنا، هو الشرك الأكبر.

وقال تعالى في سورة مريم: (وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَّبِيًّا إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنكَ شَيْئًا يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا يَا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَن يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِّنَ الرَّحْمَن فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا قَالَ أَرَاغِبٌ أَنتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِن لَّمْ تَنتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا قَالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلاَّ أَكُونَ بِدُعَاء رَبِّي شَقِيًّا فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلا جَعَلْنَا نَبِيًّا وَوَهَبْنَا لَهُم مِّن رَّحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا)

قوله: (مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ) دليل على أن ما لا يسمع الأصوات، ولا يبصر المرئيات، ناقص الذات والصفات، وناقص الذات والصفات لا يمكن أن يكون إلهاً.

وقوله: (صِرَاطًا سَوِيًّا) الصراط هو الطريق، والسويّ، أي: المعتدل، أي: طريقاً معتدلاً لا إعوجاج فيه.

وقوله: (أَرْجُمَنَّكَ) أي: أرجمك بالحجارة، أي: أرميك بالحجارة، كناية عن الطرد والإبعاد.

وقوله: (وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا) أي: لا تكلمني زماناً. ومليّا، أي: زمناً أو حيناً.

وقوله: (وَأَعْتَزِلُكُمْ) أي: أهاجر وانتقل عنكم إلى مكان أخر.

وقوله: (عَسَى أَلاَّ أَكُونَ بِدُعَاء رَبِّي شَقِيًّا) أي: غير مجاب الدعوة.

وقوله: (فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ) أي: هاجر وانتقل عنهم.

وقوله: (وَوَهَبْنَا لَهُم مِّن رَّحْمَتِنَا) أي: وهبنا لإسحاق ويعقوب من رحمتنا، في الدنيا من الحكمة والعلم والرزق الحسن.

وقوله: (وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا) أي: ورزقناهم الثناء الحسن، والذكر الجميل من الناس.

وقال تعالى في سورة الأنبياء: (وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِن قَبْلُ وَكُنَّا بِه عَالِمِينَ إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ قَالَ لَقَدْ كُنتُمْ أَنتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُّبِينٍ قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنتَ مِنَ اللاَّعِبِينَ قَالَ بَل رَّبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُم بَعْدَ أَن تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلاَّ كَبِيرًا لَّهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ قَالُوا مَن فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ قَالُوا أَأَنتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِن كَانُوا يَنطِقُونَ فَرَجَعُوا إِلَى أَنفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنتُمُ الظَّالِمُونَ ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُؤُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلاء يَنطِقُونَ قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنفَعُكُمْ شَيْئًا وَلا يَضُرُّكُمْ أُفٍّ لَّكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الأَخْسَرِينَ وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلا جَعَلْنَا صَالِحِينَ)

قوله: (الَّذِي فَطَرَهُنَّ) أي: أوجدهنّ على غير مثال سابق.

وقوله: (وَأَنَا عَلَى ذَلِكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ) أي: شاهدٌ على أن الله عز وجل هو الربّ المستحق للعبادة وحده لا شريك له، الذي فطر السماوات والأرض.

وقوله: (فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا) أي: جعلهم حطاماً.

وقوله: (إِلاَّ كَبِيرًا لَّهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ) أي: ترك أكبر الأصنام حجماً فلم يعترض له ولم يحطمه، لعلهم يرجعون إليه ويسألونه من حطم أصنامهم.

وقوله: (لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ) أي: يشهدون عليه، أنه هو من فعل هذا، وأنه يستحق أي عقوبة نوقعها به.

وقوله: (بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا) أي: بل فعله الصنم الكبير. وهي ثاني كذباته، التي كذبهنّ في الله تعالى.

وقوله: (فَاسْأَلُوهُمْ إِن كَانُوا يَنطِقُونَ) أي: اسألوا الأصنام المحطمة من حطمكم؟

وقوله: (فَرَجَعُوا إِلَى أَنفُسِهِمْ) أي: أنهم انفردوا ببعضهم، وأقرّ بعضهم لبعض بأنهم ظالمون بعبادة أصنام لا تسمع ولا تبصر ولا تتكلم ولا تتحرك.

وقوله: (ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُؤُوسِهِمْ) أي: أنهم بدل أن يرجعوا إلى الحق، أخذتهم العزّة بالإثم، واستكبروا أن يقروا بالغلبة لإبراهيم، وأخذوا يحاججونه، بأنه قد علم أن أصنامهم لا تستطيع النطق، ومع ذلك يريدون منه أن يقر بأنه هو من حطمها، ليرو فيه رأيهم، وما يستحقه من العقوبة!

فلما وبخهم، غضبوا منه، وأرادوا أن يفرغوا غضبهم منه، في الانتصار لأصنامهم، فظاهر الأمر أنه انتصار لأصنامهم، وباطنه انتصار لأنفسهم، وأرادوا أن يعاقبوه بأشد عقوبة ليكون رادعاً له ولغيره ممن تسول نفسه المساس بأحجارهم الصماء البكماء العمياء الجامدة!

وقوله: (وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ) أي: نجاهما إلى صحراء النقب، نجّى إبراهيم بأمره بالهجرة إلى صحراء النقب بعد أن رفض قومه دعوته، ونجّى لوطاً عندما وقع العذاب بقومه، فكان إبراهيم ولوط، متجاورين حتى لحقا بربهما.

وقال تعالى في سورة الشعراء: (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ أَوْ يَنفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ قَالَ أَفَرَأَيْتُم مَّا كُنتُمْ تَعْبُدُونَ أَنتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الأَقْدَمُونَ فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِّي إِلاَّ رَبَّ الْعَالَمِينَ الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ وَالَّذِي أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ وَاجْعَل لِّي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآخِرِينَ وَاجْعَلْنِي مِن وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ)

قوله: (عَاكِفِينَ) أي: راكِعَين ساجِدَين.

وقوله: (هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ) أي: أن سماع الأصوات من صفات الإله، فمن لم يستطع سماع الأصوات بذاته، فهو ناقص في ذاته، والناقص في ذاته لا يكون إلهاً.

وقوله: (لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآخِرِينَ) أي: ذكراً حسناً في الأجيال القادمة.

وقوله: (وَاغْفِرْ لِأَبِي) أي: دعا لأبيه، وذلك قبل أن يموت أبوه.

وقوله: (وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ) أي: لا تذلّني بعقابك لي يوم تبعث عبادك يوم القيامة.

وقال تعالى في سورة الصافات: (وَإِنَّ مِن شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ أَئِفْكًا آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ فَمَا ظَنُّكُم بِرَبِّ الْعَالَمِينَ فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ فَرَاغَ إِلَى آلِهَتِهِمْ فَقَالَ أَلا تَأْكُلُونَ مَا لَكُمْ لا تَنطِقُونَ فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِينِ فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ فَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الأَسْفَلِينَ)

قوله: (وَإِنَّ مِن شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ) أي: من أنصار نوحٍ عليه السلام على الحق، وإن لم يكن من أهل زمانه، لاتفاق دعوتهما.

وقوله: (إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) أي: بقلب نقيّ من الكِبر والهوى.

وقوله: (أَئِفْكًا آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ) والإفك معناه الكذب، أي، أتريدون آلهة مكذوبة من دون الله.

وقوله: (فَمَا ظَنُّكُم بِرَبِّ الْعَالَمِينَ) أي: ما ظنكم بربكم بعد أن اشركتم به تلك الآلهة.

وقوله: (فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ) أي: صرف نظره عنهم إلى النظر في النجوم، كأنه يفكّر في عذر يقدمه لهم حتى يقبلوا عذره في عدم خروجه معهم، فتفتّق ذهنه عن حيلة يتخلّص بها منهم، وهي أن يدّعي أنه سقيم، أي: مريض. وهي أوّل كذباته، التي كذبهنَّ في الله تعالى.

وقوله: (فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ) أي: ذهبوا وتركوه.

وقوله: (أَلا تَأْكُلُونَ) أي: أنه استدل على عدم ألوهيتها، بعجزها عن الحركة، لأن الأكل حركة، لا أنه استدل بعدم أكلها على ذلك، لأن الأكل ليس من صفات الإله، كما قال تعالى: (مَّا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ ۖ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ ۗ انظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآيَاتِ ثُمَّ انظُرْ أَنَّىٰ يُؤْفَكُونَ) [المائدة] فأوضح سبحانه وتعالى، على عدم ألوهيَّة عيسى وأمّه، بأكلهما للطعام، فدلّ هذا على أن الإله لا يأكل الطعام.

وقوله: (مَا لَكُمْ لا تَنطِقُونَ) أي: أنه استدل على عدم ألوهيتها، بعجزها عن الكلام بصوت بكلام مفهوم، وكان يريد منها أن تقول: بأنها آلهة، والآلهة لا تأكل الطعام، ولكنها لم تفعل.

وقوله: (فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ) أي: أقبل رسل ساداتهم ليأخذوه إلى حضرتهم، ليحققوا معه فيما فعل بأصنامهم.

وقوله: (يَزِفُّونَ) أي: يمشون على عَجَل، حنقاً عليه، لما فعله بأصنامهم.

وقوله تعالى: (ابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ) أي: بنو بنياناً من الحطب، بحيث وضعوا بعضه فوق بعض، وكانوا قد جمعوا له من الحطب ما يكفي لإحراقه، واحتملوه وألقوه في النار.

وقوله: (فَجَعَلْنَاهُمُ الأَسْفَلِينَ) أي: المغلوبين، والمغلوب سافل والغالب عالٍ.

وقال تعالى في سورة الممتحنة: (قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَاء مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاء أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلاَّ قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن شَيْءٍ رَّبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ)

قوله: ( أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ) أي: قدوة صالحة، تقتدون بها.

وقوله: (وَالَّذِينَ مَعَهُ) أي: الذين آمنوا معه، على قول من يقول بأن من قوم إبراهيم من آمن معه، وبهذا فالمعيّة هنا، معية زمانية مكانية، وقيل: الأنبياء، على قول من يقول بأنه لم يؤمن من قوم إبراهيم أحد، وبهذا تكون المعيّة هنا معيّة على الحقّ. 

والذي أرجّحه وأميل إليه، أن المراد بهذه الآية، هم نفر من قوم إبراهيم آمنوا معه، وصدّقوا به وبرسالته، وبما جاء به من الحق، وأما الادعاء بأنه لم يؤمن مع غبراهيم أحد، قول مردود، فزوجته سارة، كانت فيمن آمن معه.

وقوله: (إِنَّا بُرَاء مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاء أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ) أي: أن على المؤمن أن يبرأ من الشرك والمشركين، وأن يكفروا بهم وبدينهم، وأن يظهروا لهم العداوة والبغضاء أبداً حتى يؤمنوا بالله وحده، وهذا لا يعني أن يبقى المسلم كل وقته وهو مشغول بذلك، ولكن يكفي منه ما يعلم منه المشرك أنه يعاديه ويبغضه، ويلتهي المسلم بشأنه.

وقوله: (إِلاَّ قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ) أي: أن إبراهيم أراد أن يستغفر لأبيه، لعل الله أن يهديه إلى الحق.

وقوله: (وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن شَيْءٍ) دليل على أن الأنبياء لا يملكون لأحدٍ هداية ولا ضلالة، إنما هم دعاة للحق، وبهذا نعلم أن الأنبياء لا يملكون نفعاً ولا ضرّاً، وأنه لا يجوز دعاءهم، وطلب الحوائج منهم، من دون الله تعالى.