والجواب: الله أعلم، فليس لهذه المسألة جواب جليّ، وإنما هي ظنون وتخرصات.
فمن زعم أن نوح هو أول نبي بعث إلى الناس، فقد احتج بقوله تعالى: (إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَىٰ نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِن بَعْدِهِ ۚ وَأَوْحَيْنَا إِلَىٰ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَىٰ وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ ۚ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا) [النساء]
فقال: بأن الله تعالى حصر النبوّة فيمن جاء بعد نوح عليه السلام، فدلّ هذا عنده على أنه لم يكن هناك نبيٌّ قبل نوح عليه السلام.
وهذه الآية ليست صريحة في أن نوح هو أوّل نبي، ولا أدل على ذلك، من أن آدم عليه السلام والد البشر جميعاً كان نبيّاً، نبيٌّ بُعث إلى بنيه وبني بنيه، بشريعة أُلزم بالعمل بها وبدعوة أبنائه إلى العمل بها.
فتبيّن بطلان الاحتجاج بهذه الآية.
ومن زعم أن نوح لم يكن أول نبي، وأنه لابد أنه بعث قبله أنبياء من أبناء آدم الآخرين، فقد احتج بقوله تعالى: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ ۖ فَمِنْهُم مُّهْتَدٍ ۖ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ) [الحديد]
فقال: بأن الله ذكر في هذه الآية بأنه حصر النبوّة في ولد نوح، وهذا يعني أنه لا بد أن هناك أنبياء من أبناء آدم الآخرين، سبقوا نوحاً عليه السلام.
وهذه الآية أيضاً ليست صريحة في إثبات وجود أنبياء من قبل نوح عليه السلام، سوى آدم عليه السلام، لأنه قد لا يكون بينهما نبيّ، وأن نوحا عليه السلام، هو أول نبيّ بُعث إلى الناس بعد آدم عليه السلام.
والله أعلم بالصواب.
وأما بخصوص المدة التي تفصل بين آدم ونوح.
فقد روي عن ابن عباس قال: كان بين آدم ونوح، عشرة قرون كلهم على الإسلام.
وزعم ابن كثير في تاريخه أن البخاري رواه في صحيحه، ولم أجده في صحيح البخاري، وإنما رواه بهذا اللفظ ابن تيمية في تلبيس الجهمية، ولم أجده في شيء من كتب الحديث،
إلا أن الحاكم النيسابوري روى نحوه في مستدركه، وزعم أنه على شرط البخاري.
حيث روى الحاكم عن عكرمة عنِ ابنِ عبّاسٍ رَضيَ اللهُ عنهُما، قالَ: كان بيْنَ آدمَ ونوحٍ عشرةُ قرونٍ كُلُّهم على شرائعِهِم مِنَ الحقِّ، فلمّا اختلفوا بَعَثَ اللهُ النَّبيِّينَ والمرسلينَ، وأَنزلَ كتابَهُ فكانوا أُمَّةً واحدةً.
قلت: وهذا خبر موقوف عن ابن عباس وهو كما يظهر نقله عن رواة أهل الكتاب، ولكن أضاف الإمام ابن عباس إليه قوله: "كلهم على شرائع الحق"
ولو كانوا على شرائع الحق ما بعث الله إليهم نبيّه نوح عليه السلام، ولا عبد قومه الأوثان.
فهذه الزيادة بيّنت بطلان هذا الخبر.
وقد حاول البعض تأويل هذا الخبر، بقوله أن مراد ابن عباس، أنه كان بين آدم ونوح عشرة قرون على الإسلام، ثم نشأت بعد ذلك قرون وقعت في الشرك، بعث في أخرها نوح عليه السلام.
وهذا رأي مرجوح، فإن ابن حبّان الجهمي روى في تقاسيمه، عن أبي أمامة، أن رجلًا قال: يا رسول الله: أنبي كان آدم؟ قال: نعم مُكلَّم. قال: فكم كان بينه وبين نوح؟ قال: عشرة قرون.
فهذا الحديث يدل على الحصر في عشرة قرون.
وإن كان سند هذا الخبر صحيحاً، إلا أن تفرد ابن حبّان بروايته، يدعو إلى الشك في أن إسناده مركّب، وأنه لا يصح، وأنه ليس سوى خبر منقول عن أهل الكتاب.
فكيف أخطأ أئمة الحديث الأوائل هذا الحديث، وعثر عليه ابن حبّان؟!
وهذا كله حسبما يظهر لي إنما هو مأخوذ عن أهل الكتاب، فإنهم يزعمون أن بين آدم ونوح عشرة قرون، أي: أجيال، بل وذكروا أسماءهم اسماً اسماً.
ولكن ومن خلال معرفة سابقة بكتب أهل الكتاب، أستطيع الجزم بكذب ما ورد في كتبهم.
فالسؤال هنا: هل حقاً بين آدم ونوح عشرة قرون؟
والجواب: الله أعلم، فقد يكون هذا صحيحاً، وقد لا يكون صحيحاً، وقد تكون الأجيال التي بين آدم ونوح أقل وقد تكون أكثر.
وأما الادعاء بأنهم كلهم على الإسلام، فهذا باطل.
وأما أسماء الآباء الذين ذكرهم أهل الكتاب ونقلها عنهم مؤرخو المسلمين، فالأرجح أنها موضوعة، ولا حقيقة لها.
ذلك أن كتب الله المنزلة على عباده، ليس كتب تاريخ وأنساب، وإنما هي كتب شرائع ومواعظ وترغيب وترهيب، لا تخرج عن هذا المعنى، حتى ما يرد فيها من قصص الأمم الماضين، إنما يجاء به للوعظ والترهيب والترغيب، وهي قصص مقتضبة، لا يذكر منها إلا ما فيه فائدة دينيّة للقارئ والسامع،وليس في معرفة الأنساب ما يفيد شرعاً، فدلّ هذا على أن الأنساب المذكورة في كبت أهل الكتاب، إنما هي من إضافة قصاصهم، فكيف عرف قصاصهم هذه الأسماء، وأعدادها، بل قد ثبت كذبهم في مواضع منها، ككذبهم في اسم والد إبراهيم، وكذبهم في اسم والد موسى وكل هذا سوف ياتي معنا إن شاء الله في قابل الأيام.
والراجح في هذه المسألة، أن الأرض في زمن نوح عليه السلام، كانت قد عُمِرت ببني آدم، وانتشروا في مناكبها، وكانوا شعوباً وقبائل، وأن الشِرك فشى في هذه القبائل، حتى استحكم فيهم، حتى غلب على قوم نوح، ولهذا بعث الله الطوفان ليعُم جميع الأرض، ويغسلها من جميع المشركين ورِجسهم.
والله أعلم وأحكم.