قال تعالى في سورة آل عمران: (إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا)
قوله: (إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ) فيه إشارة إلى أن عمران، وهو والد مريم، وجدّ عيسى ويحيى عليهما السلام، كان نبيّاً، لأن الله تعالى، ضمّ اسمه إلى أسماء الأنبياء، آدم ونوح وإبراهيم.
والدليل على أن عمران المراد به هنا، هو عمران والد مريم أم عيسى المسيح عليه السلام، هو أن الله تعالى أردف ذلك بخبر امرأة عمران وابنتها مريم، أم نبي الله عيسى، فتبيّن أن عمران المراد به هنا، هو والد مريم، أم نبي الله عيسى عليه السلام.
وعمران، اسم عربيّ، مشتق من الإعمار، وهو البناء والإصلاح.
ولم يرد في القرآن أو السنة أو كتب أهل الكتاب ذكر شيء عن نسب عمران والد مريم، بل إنهم لا يعرفون اسم والد مريم عليها السلام، ويضعون لها نسباً من عندهم، حيث يزعمون أن اسمها: مريم المجدليّة، نسبة إلى مدينة مجدل، وهي قرية تقع في أقصى الشمال الغربي لمنطقة سيناء، وكل هذا كذب وتزوير، فمريم أم عيسى، هي مريم بنت عمران، وعمران هو أبوها، وليس أبا موسى وهارون النبيّان، كما قدّمت في خبر موسى وهارون عليهما السلام.
وعمران والد مريم أم عيسى المسيح من بني إسرائيل، والنصارى أدلوا بما يفيد أن عمران والد مريم، من نسل هارون النبيّ، حيث يزعمون أن زوجة زكريّا وهي أخت مريم، من نسل هارون النبي، والله أعلم بصحة ذلك.
وأما النسب المذكور لعمران والد مريم أم عيسى المسيح، في كتب التاريخ الإسلامي، هي من وضع قصّاص المسلمين وأكاذيبهم.
وأما موضع سكناهم، فيزعم رواة النصارى، أن عمران وزكريا وذويهما، كانوا يقيمون في منطقة يهوذا الجبلية، وتحديداً في بيت لحم، ولكن هذا القول فيه نظر، لأن الأنبياء إنما يبعثون في أمّهات القُرى، وأمّ قرى الشام في ذلك الوقت، كانت القدس، لذلك، فإن القول بأن عمران وزكريا وذويهما، كانوا يقيمون في القدس، هو الأرجح.
يعضد ذلك، أن الصابئة يقولون: بأن يحيى عليه السلام، كان يقيم في القدس، وهذا يؤكّد ما رجّحته.
وفي السُنَّة النبويّة، ما يؤيّد ما ذكره الصابئة، فقد ورد في الحديث الصحيح الذي رواه الحارث الأشعري، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله أمر يحيى بن زكريا بخمس كلمات أن يعمل بها، ويأمر بني إسرائيل أن يعملوا بها، وإنه كاد أن يبطئ بها فقال عيسى: إن الله أمرك بخمس كلمات؛ لتعمل بها وتأمر بني إسرائيل أن يعملوا بها، فإما أن تأمرهم، وإما أن آمرهم، فقال يحيى: أخشى إن سبقتني بها أن يخسف بي أو أعذب، فجمع الناس في بيت المقدس، فامتلأ المسجد وقعدوا على الشرفات" .. الحديث. فالشاهد من هذا الخبر، هو قوله: "فجمع الناس في بيت المقدس". مما يُشير إلى أن يحيى وعيسى كانا يقيمان هناك، مما يعني أن ذويهما أيضاً كانوا يقيمون هناك.
وقوله: (ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ) أي: بعضهم من سلالة بعض، فعمران من سلالة إبراهيم، وإبراهيم من سلالة نوح، ونوح من سلالة آدم.
وقوله: (مُحَرَّرًا) أي: محرّراً من أعمال الدنيا، مفرّغاً لعبادتك، والقيام بخدمة المسجد.
وقوله: (وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ) أي: لم يكن سبحانه في حاجة إلى أن تقول بأنها وضعتها أنثى، لأن الله تعالى هو سبحانه من خلقها أنثى، ويعلم أنها أنثى.
ثم قال تعالى في سورة آل عمران، في خبر مريم عليها السلام: (وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِن لَّدُنكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاء فَنَادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِّنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِّنَ الصَّالِحِينَ قَالَ رَبِّ أَنَّىَ يَكُونُ لِي غُلامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ قَالَ كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاء قَالَ رَبِّ اجْعَل لِّيَ آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلاَّ رَمْزًا وَاذْكُر رَّبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالإِبْكَارِ)
وقوله: (وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا) لأن أباها عمران عليه السلام كان قد توفي وهي حمل في بطن أمها، ولا بدّ لها من كافل يكفلها، يقوم بالإنفاق عليها ورعايتها.
ولم يذكر عن نسب زكريا في كتب اليهود والنصارى، إلّا ما ذكره رواة النصارى من أنه من ولد رجل من ولد هارون النبي يدعى: أُبيّ. ويذكر رواة اليهود، أن أُبيّاً هذا، عيّنه داود النبي لخدمة المسجد الأقصى، حيث يذكرون أن النبي داود، عيّن أناساً لخدمة المسجد الأقصى، وقسمهم إلى أربع وعشرين فرقة، وكان على كل فرقة من هذه الفرق، أن تقوم بالخدمة في المسجد مدة أسبوع، ما عدا أيام الأعياد الكبرى، التي كانت تشترك فيها كل الفرق مع بقيّة الناس في الاحتفال.
وزكريّا اسم عربيّ، مشتق من الزَكَر، بالفتح، وهو الملآن أو المُجتمِع، يقال: زَكَر الإناء، أي: ملأه. وتقول العرب: ماعز حمراء زَكْريَّة، أي: أن لونها امتلأ حمرة.
وقوله: (كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ) أي: دخل عليها في مسجدها، ويظهر أنه كان له موضع في المسجد، تقيم فيه، تخدم المسجد، وتعود إليه للصلاة والتسبيح والتهليل.
وقوله: (وَجَدَ عِندَهَا رِزْقًا) أي: طعاماً وشراباً.
وقوله: (قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ) أي: رزق رزقها الله تعالى، ولم يبيّن الله تعالى من أين يأتيها هذا الرزق، وهل هو رزق تأتيه به الملائكة، أم صدقات كانت تأتيها من صالحي عباد الله.
وقوله: (هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ) أي: لمّا رأى الله تعالى يرزق مريم، ازداد يقيناً بالله تعالى، ولكونه حرم الولد، دعا الله تعالى أن يرزقه ولداً.
وقوله: (وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ) أي: يصلي في مسجده الذي اتخذه لنفسه لقيام الليل وصلاة النوافل.
وقوله: (أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى) ويحيى اسم عربيّ، مشتق من الحياة، والصابئة، يزعمون أنهم تلاميذه، ويزعمون أنه أنزل عليه كتاب اسمه: الكنز العظيم، وهذا باطل، فليس ليحيى كتاب سوى التوراة الذي أنزله الله على موسى، والزبور الذي أنزله الله على داود، والإنجيل الذي أنزله الله على عيسى، عليهم السلام. وقد نظرت في هذا الكتاب وتمعنته، فتبيّن لي، أنه وضع بعد يحيى، لأنه يشير إلى نهري النيل والفرات، ويحيى لم يعش هناك، بل عاش في القدس، مع والده، بإقرار الصابئة أنفسهم، فتبيّن أن هذا الكتاب، وضعه بعض أحبار الصابئة عندما انتقلوا إلى العراق.
ويذكر الصابئة أن يحيى، كان يلقّب يوحنّا، أي: ذو الحنان، وقد غلب لقبه على اسمه عند رواة اليهود والنصارى، فنجد يوسيفوس اليهودي في تاريخه، وكُتَّاب الأناجيل النصارى، يسمّونه: يوحنّا.
وقوله: ( مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِّنَ اللَّهِ) أي: مصدقاً بعيسى عليه السلام، وبنبوّته، لأن عيسى هو كلمة الله. وهذا يُفيد، أن يحيى عليه السلام، كان ملزماً بالعمل بالتوراة، ما لم تنزل آية من الإنجيل، فعندئذ يدع ما ورد في التوراة، لِما نزل من الإنجيل.
وقوله: (قَالَ رَبِّ اجْعَل لِّيَ آيَةً) أي: إن كانت البشارة منك يا الله، وليس من تلاعب الشيطان، فاجعل لي آية أعلم بها صدق هذه البشارة.
وقوله: (قَالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلاَّ رَمْزًا) أي: آية ذلك، أنك لا تستطيع الكلام مع الناس، إلا إشارةً.
وقال تعالى في سورة مريم: (ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاء خَفِيًّا قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُن بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِن وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَل لَّهُ مِن قَبْلُ سَمِيًّا قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِن قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا قَالَ رَبِّ اجْعَل لِّي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَن سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا وَحَنَانًا مِّن لَّدُنَّا وَزَكَاةً وَكَانَ تَقِيًّا وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُن جَبَّارًا عَصِيًّا وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا)
قوله: (نِدَاء خَفِيًّا) أي: دعا الله تعالى في خلوة من الناس، بينه وبين الله.
وقوله: (وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا) أي: كبرت سنّه، وكبير السنّ تضعف عظامه ويشيب رأسه.
وقوله: (وَلَمْ أَكُن بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا) أي: أنك كنت دائماً تجيب دعائي.
قوله: (وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِن وَرَائِي) وإنما قال ذلك، لأنه لم يكن يثق بالناس تجاه دين الله تعالى، وخشي أن يلي هذا الأمر من لا يخاف الله فيه، فيفسد على الناس دينهم.
وقوله: (لَمْ نَجْعَل لَّهُ مِن قَبْلُ سَمِيًّا) قيل معنى السمّي هنا: المثيل والشبيه، أي: لم تلد العواقر مثله في حكمته وحنانه وزكاته وتقواه. وقيل: بل معنى السمّي هنا مطابقة الاسم للاسم، أي: أن يحيى هو أول رجل تسمّى بهذا الاسم، وهذا فيه ردٌ على رواة اليهود، الذين يزعمون أن من أشرافهم من تسمى بهذا الاسم، قبل يحيى بن زكريا.
وقوله: (وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا) أي: جاوزت الحدّ في كبر السن، والعتوّ، هو: المجاوزة للحدّ.
وقوله: (فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَن سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا) أي أشار إليهم أن يسبحوا الله تعالى بكرة، وهو أوّل النهار، وعشيّاً، وهو أخر النهار.
وقوله: (خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا) أي: خذ الكتاب بجدّ وعزم وحزم، والكتاب المراد به هنا: التوراة، وقيل الإنجيل، الذي ينزل على عيسى عليه السلام، والصواب: أن يحيى كان مأموراً أن يأخذ بما في التوراة، حتى إذا نزل شيء من آيات الإنجيل، لزمه أن يأخذ بما أنزله الله تعالى على عيسى، فلفظ الكتاب في هذه الآية، يشمل الكتابين.
وقوله: (وَحَنَانًا مِّن لَّدُنَّا وَزَكَاةً) أي: أن الله تعالى حنّ عليه، أي: رحمه ولطف به، وزكاة، أي: طهارة، أي: طهّره من الذنوب والمعاصي.
وقال تعالى في سورة الأنبياء: (وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ)
قوله: (لا تَذَرْنِي فَرْدًا) لا تدعني وحيداً بلا وارث.
وقوله: (إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ) أي: أن من أسباب استجابة الدعاء، أو سرعة استجابة الدعاء، هو كثرة الأعمال الصالحة.
ثم قال تعالى في سورة مريم: (وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا فَاتَّخَذَتْ مِن دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَن مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيًّا قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلامًا زَكِيًّا قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِّنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَّقْضِيًّا فَحَمَلَتْهُ فَانتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنتُ نَسْيًا مَّنسِيًّا فَنَادَاهَا مِن تَحْتِهَا أَلاَّ تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيًّا فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدتُّ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ مَا كَانَ لِلَّهِ أَن يَتَّخِذَ مِن وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ)
قوله: (انتَبَذَتْ) أي: ابتعدت، والنبذ هو الإلقاء، والانتباذ هو الابتعاد.
وقوله: (مَكَانًا شَرْقِيًّا) أي: أن المكان الذي ابتعدت إليه، يقع شرقاً عن منزل أهلها، والمراد به هنا، محرابها الذي خصّصته لنفسها في المسجد، للصلاة والإقامة.
وقوله: (فَاتَّخَذَتْ مِن دُونِهِمْ حِجَابًا) أي: ساتراً لا يراها الرجال، ولم يبيّن الله تعالى ما هو هذا الحجاب، هل هو من قماش أو خشب أو جدار. وإن كان الراجح أنه من جدار.
وقوله: (فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا) يقال: هو جبريل عليه السلام.
وقوله: (فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا) أي: تجلى لها في صورة رجل من الإنس.
وقوله: (فَحَمَلَتْهُ) أي: حملت بعيسى.
وقوله: (فَانتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا) أي: ابتعدت به مكانا بعيداً عن منازلهم.
وقوله: (فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ) أي: كانت تسير حتى جاءها المخاض، فوجدت نخلة قريبة منها، فجلست تحتها.
وقوله: (فَنَادَاهَا مِن تَحْتِهَا) أي: ابنها بعد أن ولدته.
وقوله: (أَلاَّ تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا) والسريّ هو الجدول من الماء.
وقوله: (وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا) أمرها الله تعالى بالأخذ بالأسباب حتى في هذا الموقف.
وقوله: (إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيًّا) أي: تصوم عن الكلام، فلن تتكلم بشيء. أراد الله تعالى أن يتكلم الطفل، ويبرأها من الفاحشة، ويكون آية لبني إسرائيل.
وقوله: (يَا أُخْتَ هَارُونَ) أي: كان لها أخٌ اسمه هارون، وليس هو هارون بأخي موسى ولا مريم بمريم أخت موسى، ولكن تشابهت الأسماء، حيث كان بنو إسرائيل يسمون أبناءهم بأسماء أنبيائهم وصلحائهم.
عن المغيرة بن شعبة قال: لما قدمت نجران سألوني، فقالوا: إنكم تقرءون يا أخت هارون، وموسى قبل عيسى بكذا وكذا؟ فلما قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم سألته عن ذلك فقال : "إنهم كانوا يسمون بأنبيائهم والصالحين قبلهم" اهـ
رواه مسلم.
ولكن أهل الكتاب من اليهود والنصارى خلطوا بين الأسماء والأنساب، فلما كان لمريم أم عيسى المسيح أخو اسمه هارون، ظنوه هارون النبي أخو موسى، فجعلوا عمران والداً لموسى وهارون النبيان، وهذا التخليط منهم وقع قبل بعثة النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وقبل نزول القرآن.
قلت: وما ورد في كتاب الله عزّ وجل من خبر ميلاد عيسى المسيح عليه السلام، يثبت وبجلاء، أن ما ورد في جميع الأناجيل الخمسة، متى ومرقس ولوقا ويوحنّا وبرنابا، عن خبر ميلاد عيسى المسيح، كلّها كذب، ومن وضع القصّاص، وهذا يفيد أن هذه الأناجيل، بما فيها إنجيل برنابا، لم تكتب من قبل أصحاب عيسى عليه السلام، ولا علاقة لهم بها، بل كلها تستمد معلوماتها، من كتاب وضعه أحد قصّاص النصارى، لربما وضعه بعد رفع عيسى عليه السلام بسنين طويلة، وربما واضع هذه السيرة، لم يلق عيسى، ولا أصحابه ولا أصحاب أصحابه، ولا حتى أصحاب أصحاب أصحابه، بمعنى أنه مضت أجيال كثيرة، بينه وبين عيسى عليه السلام، وإنما نقل سيرته من قاصٍّ لم يكن حريصاً على حفظ القَصَص، لأنه إنما كان يروي القَصَص للمتعة والتسلية، ولم يكلّف كاتب السيرة نفسه للتثبّت مما رواه له ذلك القاص، الذي روى قصة ميلاد لعيسى المسيح لم تقع إلّا في مخيّلته، فجاء كُتّاب الأناجيل الخمسة، ونقلوا ما في تلك السيرة في كتبهم، ونحلوها بعض أصحاب عيسى عليه السلام، ليعطوها الصِبغة الشرعيّة، وتلقى رواجاً بين العامّة.
وهذه الأناجيل، ليست هي إنجيل عيسى عليه السلام، فإنجيل عيسى عليه السلام، كتاب أمر ونهي، وشرائع، ومواعظ، ووعد ووعيد، وهذه الكتب، ليست سوى كتب كُتِبت لتدوين سيرة عيسى عليه السلام، فهي كتب سِيَر وتاريخ، ولكن لما فقد كتاب الإنجيل، ولم تبقى منه نسخة، ظنّ الجهلة أن هذه الكتب، هي إنجيل عيسى، لذلك فإن تسميتها بالأناجيل، خطأ شنيع.
ثم قال تعالى في سورة آل عمران: (وَإِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاء الْعَالَمِينَ يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ ذَلِكَ مِنْ أَنبَاء الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُون أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ إِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَمِنَ الصَّالِحِينَ قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاء إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَرَسُولاً إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُم بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُم مِّنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُم بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ وَمُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُم بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُم بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ فَاتَّقُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُونِ إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنزَلْتْ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُواْ فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمَا لَهُم مِّن نَّاصِرِينَ وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُن مِّن الْمُمْتَرِينَ فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءنَا وَنِسَاءكُمْ وَأَنفُسَنَا وأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلاَّ اللَّهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ فَإِن تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ)
قوله: (وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُون أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ) أي: أن أحبار اليهود، اقترعوا أيهم يكفل مريم، فقرعهم زكريا.
عن عكرمة مولى عبدالله بن عباس قال: ألقوا أقلامهم فجرَت بها الجِرْية، إلا قلم زكريا اصّاعدَ، فكفلها زكريا.
رواه الطبري.
وعن الربيع بن أنس قال: ألقوا أقلامهم - يقول: عصَّيهم - قال: فألقوها تلقاء جِرْية الماء، فاستقبلت عصا زكريا جِرْيةَ الماء، فَقرَعهم.
رواه الطبري.
قلت: كانت الأقلام في ذلك الوقت، عبارة عن عِصِيَ، طولها شِبْر، يحدّون رؤوسها بالسكاكين، حتى تصبر مُدَبَّبَة، ثم يغمسون رؤوس عِصِيِّهم المُدبَّبة في الحِبْر.
وعن قتادة بن دعامة قال: كانت مريم ابنة إمامهم وسيّدهم، فتشاحّ عليها بنو إسرائيل، فاقترعوا فيها بسهامهم أيُّهم يكفلها، فقَرَعهم زكريا، وكان زوجَ أختها.
رواه الطبري.
قوله: (بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ) أي: بأمرٍ منه، حيث قال له: كن فكان. من غير أبّ.
وقوله: (اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ) أي: هذا اسمه الذي اختاره الله له.
وعيسى اسم عربيّ، مشتقٌ من العَيْس، وهو اسم لون عند العرب، وهو اللون الأبيض المشرئب بشقرة، لذلك تسمي العرب الإبل البيض: العِيْس، ويقال للذكر: أعيس، وللأنثى عيساء. وربما اشتق اسم عيسى من العسّ، وهو البحث، يقال لمن كان يعسّ شيئاً: عاسّ، وجمعه: عسس وعُسوس.
وقد بيّنت سابقاً، أن اشتقاق هذا الاسم عربيّ بإقرار رواة اليهود والنصارى، في ذكر عيسى بن إسحاق عليه السلام، مما يرد على من زعم أن هذا الاسم، وغيره من أسماء الأنبياء ليست عربيّة، ولا يجوز البحث لها عن اشتقاقات في العربية!
وفي اللغة الإنجليزية يسمون عيسى: جيسى، بحيث يبدلون العين جيماً، وهذا بسبب عجمتهم، وعدم تمكنهم من لفظ الاسم بلفظه الصحيح، ثم يضيفون الواو والسين للتعظيم، كما هي عادة اليونان، فيقولون: جيسوس.
والنصارى يسمّون عيسى أيضاً: يسوع، وهذا من تخليطهم، وربما يكون يسوع لقب لعيسى عليه السلام، فغلب لقبه على اسمه عند رواة اليهود والنصارى، فظنوه اسمه، كما ظنّوا أن اسم يحيى، يوحنّا.
ومعنى يسوع في العربية، الساعي، ولكن رواة النصارى، يزعمون أنها لفظة عبرانية، تعني: المخلّص، ولا أُراه إلّا من تحريفهم للمعاني.
ولقّبه بالمسيح، لأنه كان يمسح على مواضع المرض والجرح من جسم الإنسان فيبرأ بإذن الله تعالى، آية أعطاه الله إياها، ليثبت بذلك صدقه فيما ادعاه من النبوّة.
وقوله: (وَجِيهًا) أي: شريفاً عظيماً.
وقوله: (وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ) أي: مقرّب من الله تعالى.
وقوله: (وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً) أي: يكلم الناس في مهده ببراءتكِ، ويكلم الناس كهلاً إذا هبط في أخر الزمان، وهذا دليلٌ على أن عيسى إذا هبط يبلغ سنّ الكهولة.
وقوله: ( أَنِّي أَخْلُقُ لَكُم مِّنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُم بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ) وهذه هي الآيات التي أعطاها الله تعالى لنبيه عيسى عليه السلام، وهي أنه يخلق من الطين على صورة الطير، فينفخ فيه فيتحوّل إلى طيرٍ حقيقي، ويبرئ الأبكم والأبرص، بدون علاج، إنما يمسح عليهم فيبرؤون، ويحيى الموتى، حياة حقيقيّة، وينبئهم بما سوف يأكلون، وما يدّخرون في بيوتهم.
وليس هذا من السحر أو الكهانة في شيء، ذلك أن السحر لا يحيل الأشياء عن حقيقتها إلى حقيقة أخرى، إنما السحر تخييلات تحدثها الجنّ في أبصار الناس، ثم تعود تلك الأشياء إلى حقيقتها إذا زال تأثير الجنّ، كما أن السحرة والكهنة لا يستطيعون أن يبرؤوا أحداً إلّا بالأسباب التي وضعها الله تعالى في الأرض، من أدوية، فالساحر والكاهن يعتمدون على الجن في معرفة دواء علّة الشخص، وأما عيسى فهو إنما يبرء المرضى بمجرد المسح على مواضع العلة منهم، فينشطون كأن لم يكن بهم بأس، ويبعث الموتى حقيقة، بحيث يرد الله تعالى إليهم أرواحهم فيقومون أحياءً حقيقة، وهذا ما لا يقدر عليه الساحر والكاهن، حيث أنهم إنما يصوّرون شياطين الجن في صور الموتى، فيظن الناس أن الميّت بعث من قبره.
فإن قال قائل كيف أفرّق بين آيات الأنبياء التي يهبها لهم ليثبتوا بذلك صدق نبوءتهم، وبين دجل السحرة والكهان؟
والجواب: يمكن معرفة ذلك من خلال أمرين:
الأول: أن الأنبياء مقيمون لأمر الله تعالى، دعاة للخير، مغاليق للشر، كل أعمالهم في الخير. والساحر والكاهن بخلاف ذلك، فهم أول من يَدَع أمر الله، باستخفافهم بأداء ما افترض الله عليهم، وركوبهم ما حرّم عليهم، وتجد أعمالهم فيها شرٌّ كثير، مما يلحق الناس منهم من ظلم وعدوان.
والثاني: أن سحرهم إنما هو أوهام وتخيلات، وهذا خلاف ما أوتي موسى وعيسى، حيث أن ما يفعلونه، يحيل الأشياء من حقيقتها إلى حقائق أخرى، ولهذا التقفت عصا موسى عصيّ السحرة، وهذا مستحيل في قانون السحر، وكذلك عيسى كان يخلق للناس كهيئة الطير فينفخ فيه فيكون طيراً حقيقةً لا وهماً وتخييلاً. وكذلك في ادعائهم علم الغيب، فالنبي مستحيل أن يقول سوف يقع في المستقبل أمر ثم لا يقع، بينما الكاهن يقول أشياء كثيرة ولا تقع، بل نادراً ما يقع ما يقول.
وكذلك يمكن معرفة الفارق بين الكرامات التي تقع للولي الصالح، وبين شعوذة السحرة والكهّان.
فأولاً الكرامة لا تقع للولي بمحض إرادته ومشيئته، بل تقع بغير إرادة منه أو مشيئة، وتقع له عند الضرورة إكراماً له، ولذلك سمّيت كرامة، لأنها كرامة من الله لهذا الرجل الصالح، عندما يقع في مأزق، أو يحتار في أمر. وأما إذا ادّعى رجل أنه ولي صالح، واستشهد على ذلك بأنه صاحب كرامات، وأنها تقع متى أراد ومتى شاء، فهذا دجّال ساحر كاهن.
وثانياً: تمسُّك الولي بكتاب الله المنزل وسنن الأنبياء، لا تجده يخالفها، ويجتهد في اقتفائها والعمل بها، فإن وجدت خلاف ذلك، فاعلم أنه دجال، وليس بوليٍّ صالح.
وقوله: (قَالَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللَّهِ) أي: من ينصرني لأبلغ دين الله، الذي من عمل به وصل إلى الله.
وقوله: (قَالَ الْحَوَارِيُّونَ) لقّبهم الله بالحواريّين، لنقائهم، وكل شيء نقي فهو حواريّ، ويقال للأبيض، لأنه نقي: حواري، لذلك يسمى التراب الأبيض، والدقيق الأبيض، حواري، ويطلق على الصاحب حواري، لأنه نقيٌ لصاحبه.
وقوله: (وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ) أي: أرادوا أن يقتلوا عيسى ليطفئوا نور الله تعالى، إلا أن الله تعالى مكر بهم، ورفعه إليه، وهيئَ لهذا الدين من ينصره رغماً عنهم.
وقوله: (إِنِّي مُتَوَفِّيكَ) الوفاة هنا ليست بمعنى الموت، بل بمعنى الاستيفاء، أي: أن عيسى استوفى مدّته الأولى في الدنيا، وهو راجع بإذن الله ليستوفي مدته الأخرى.
وقوله: (وَرَافِعُكَ إِلَيَّ) أي: رفعه إلى السماء الثانية، فكيون أقرب لله منه وهو على الدنيا.
وقوله: (وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ) أي: مطهرك من أن يمسوك بسوء.
وقوله: (وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ) أي: ناصر دعوتهم ومظهرها، وإن أصابهم في الدنيا من الضرّ ما أصابهم، فإن هذا زيادة في أجورهم عند الله تعالى.
وهذا يعني أن أصحاب عيسى عليه السلام، خرجوا إلى الدعوة إلى الله تعالى، وأنه أتبعهم خلق كثير، وكانوا على الدين الحق زماناً، وكانت لهم القوة والمنعة، خِلافاً لما ورد في تواريخ النصارى، من أنهم كانوا ضعفة ومغلوبين على أمرهم، وخلافاً لمن يدعي بان الرماد بذلك، ما ظهر من النصرانية على يدي الملك الروماني قسطنطين، فذاك لم يكن على ملة عيسى عليه السلام، بل كان على خلافها، بل عيسى بريء منه، ومن مِلَّته التي كان عليها، فعيسى لم يكن يدعو لنفسه، بل كان يدعو لله الواحد الأحد. وليس كل من ادعى أنه تابع للأنبياء، يكون صادقاً في دعواه، ما لم يكن متّبعاً لهدي الأنبياء. فتبيّن بذلك، أن أصحاب عيسى، استمروا في الدعوة إلى الله، وكثر أتباعهم، وقويت شوكتهم زماناً، ثم تكالب عليهم أهل البدع والضلال من المنتسبين للنصرانية، وسعوا في إفساد العقيدة الصحيحة، حتى غلبت البدع على الناس، وارتكس أكثرهم إلى الوثنية باسم النصرانية ملّة عيسى عليه السلام، فما بعث الله تعالى نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم، إلا ولم يبقى على النصرانية الصحيحة سوى النزاع في القبائل والقرى.
وقال تعالى في سورة النساء: (فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِم بِآيَاتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الأَنبِيَاء بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِن شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُواْ فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا بَل رَّفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا وَإِن مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا)
قوله: (وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا) أي: رموها بالفاحشة، مع ما رأوا من الآيات في براءتها وصدقها.
وقوله: ( وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِن شُبِّهَ لَهُمْ) أي: أنهم لم يقتلوا المسيح ولم يصلبوه، ولكن قبضوا على رجل يشبهه فظنوه هو، فقتلوه وصلبوه.
وقوله: (وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُواْ فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ) أي: شكّوا أن يكون هذا الذي قبضوا عليه ليس بعيسى، ولكنهم رجحوا ظنهم بأنه هو، ولم يكن هو، وقتلوه وصلبوه.
وقوله: (وَإِن مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ) أي: من اليهود والصابئة والنصارى، من سوف يؤمن به إذا هبط في أخر الزمان، وقبل موته، أي: أن عيسى سوف يموت، وسوف يدفن.
وقال تعالى في سورة المائدة: (وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِم بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الإِنجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ)
وقال تعالى في سورة المائدة: (إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدتُّكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُواْ بِي وَبِرَسُولِي قَالُواْ آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَن يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِّنَ السَّمَاء قَالَ اتَّقُواْ اللَّهَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ قَالُواْ نُرِيدُ أَن نَّأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَن قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِّنَ السَّمَاء تَكُونُ لَنَا عِيداً لِّأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِّنكَ وَارْزُقْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَن يَكْفُرْ بَعْدُ مِنكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لاَّ أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِّنَ الْعَالَمِينَ وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِن دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُواْ اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَّا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ)
قوله: (مَائِدَةً مِّنَ السَّمَاء) أي: سفرة فيها طعام، تكون آية لنا، لنزداد بها إيماناً بك وبدعوتك.
وقال تعالى في سورة الزخرف: (وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ وَقَالُوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلاَّ جَدَلا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ إِنْ هُوَ إِلاَّ عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلا لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَوْ نَشَاء لَجَعَلْنَا مِنكُم مَّلائِكَةً فِي الأَرْضِ يَخْلُفُونَ وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِّلسَّاعَةِ فَلا تَمْتَرُنَّ بِهَا وَاتَّبِعُونِ هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ وَلا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطَانُ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ وَلَمَّا جَاءَ عِيسَى بِالْبَيِّنَاتِ قَالَ قَدْ جِئْتُكُم بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُم بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ فَاخْتَلَفَ الأَحْزَابُ مِن بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ)
قوله: (وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِّلسَّاعَةِ) أي: إشارة إلى قرب قيام الساعة، عندما يهبط في أخر الزمان لقتل المسيح الدجّال.
وقال تعالى في سورة الحديد: (مَّ قَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِم بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ الإِنجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلاَّ ابْتِغَاء رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ)
قوله: (مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ) أي: ما فرضناها عليهم، فمعنى الكتابة هنا، أي: الفرض.
وقوله: (إِلاَّ ابْتِغَاء رِضْوَانِ اللَّهِ) أي: إنما أرادوا ببدعتهم هذه ابتغاء رضوان الله.
وقوله: (فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا) أي: أكثرهم اتخذها سبيلاً للرياء والسمعة. فمن ترهبن لله أعطاه الله أجراً، ومن ترهبن للرياء والسمعة، فهو من الفاسقين.
وقال تعالى في سورة الصف: (وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُم مُّصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُم بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ)
قوله: (وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ) وهذه البشارة موجودة في سيرة عيسى عليه السلام، ولكن تلميحاً لا تصريحاً، وهذا يدل على ما سبق، أن السيرة المعروفة اليوم بالإنجيل، ليس هي الإنجيل الذي أنزله الله تعالى على عيسى، لأنه لا يوجد تصريح باسم النبي محمد في هذه السيرة.
وقال تعالى في سورة الصف: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللَّهِ فَآمَنَت طَّائِفَةٌ مِّن بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَت طَّائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ)
وبرفع عيسى عليه السلام انقطعت النبوّة من بني إسرائيل، وصار تلاميذه يعرفون بالمسيحيين وبالنصارى، فقيل لهم المسيحيون، نسبة إلى المسيح، وقيل لهم النصارى، لأنه لما شعر عيسى أن اليهود كفروا به، دعا الناس إلى نصرة الله ونصرة دينه، فلم يجبه أحد، فقال أصحابه: نحن أنصار الله، أمنا بالله، واشهد بأنا مسلمون. فقيل لهم: النصارى.
فخرج تلاميذ عيسى عليه السلام يدعون إلى دين الإسلام، وإلى العمل بما جاء في الإنجيل، الذي أنزله الله عز وجل على عيسى عليه السلام، فاتَّبعهم خلق كثير، وكانوا على التوحيد زماناً، حتى ظهر فيهم علماء الضلالة ودعاة الزندقة باسم الإسلام، وباسم المسيح عيسى عليه السلام.
ولكون خلق عيسى عليه السلام تم من غير أب، وإنما بالكلمة، حيث قال الله تعالى: كنّ فكان عيسى، لذلك كان أكثر اختلافهم في ماهية عيسى وطبيعته، إذ نظروا إليه على أنه غير بشر، أو على الأقل ليس بشراً مكتمل الآدميّة، وبما أنه أو جزء منه غير بشري زعموا أن عيسى إله، أو أنه ابن الإله، بينما قالت طائفة أن الإله تجزأ إلى ثلاثة أجزاء، هو الأب وهو عندهم الله تعالى، وابن الإله، وهو عندهم عيسى عليه السلام، والروح القدس، وهو جبرائيل عليه السلام، تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً، وكل هذا من وحي الشيطان وتحريضه.
وقد انتشرت هذه المذاهب الكفريّة بين النصارى في وقت مبكر، وذلك من طريق علماء الضلالة، ودعاة الزندقة، وبتزيين من الشيطان وتحسين منه لهذه البدعة، حتى أن هؤلاء الدجاجلة حرفوا بعض نصوص الإنجيل ليؤكدوا على أن عيسى إله أو ابن إله، مستغلين ثقة الناس بهم، ومستغلين للوضع العلمي السائد في ذلك الوقت، إذ كان أكثر الناس في تلك الأزمنة أمّيين، لا يحسنون القراءة والكتابة، ولا يعرفون من تعاليم دينهم إلّا ما أملاه عليهم علمائهم الذين يثقون فيهم، ويقلدونهم إياه.
إلا أنهم أخيراً استقروا على القول بأن الله تعالى وتقدس وتنزه عن كذبهم، تجزأ إلى ثلاثة أجزاء، تمثلت في الأب والابن والروح القدس، وذلك أن أحد ملوك الروم ويدعى: قسطنطين، دان بالنصرانية، وآمن بهذا المذهب، وأجبر النصارى عليه، واستباح دماء من خالفه، فدخل النصارى في هذا المذهب راغبين وراهبين، مع بقاء كثير من النصارى على الإسلام دين عيسى عليه السلام، والذين أخذوا يدعون الناس إلى الحق، وإلى دين الإسلام، وإلى الإنجيل الصحيح الذي لم يبدل ولم يغيّر، ولكن أكثر الناس إما غير مبالين ولا يهتمون بالأمر أصلا، فهم مشغولون بما هو عندهم أهم من هذه المسائل، من السعي خلف أرزاقهم، وجمع الأموال، ورضي بما وجد عليه علماء أهل بلده، أو نظر إلى الأكثرية وأتبعهم، بحجة أنه لا يعقل أن يكون الأكثرية على باطل، والأقليّة على الحق، وبعضهم علم الحق ولكنه أعرض عنه، لأن في اتباعه للحق غضاضة عليه في مكانته أو في معيشته، فآثر ركوب الموجة حتى لا يخسر دنياه.
وقد بقيت النصرانية في تعاليمها العتيقة، وصبغتها الإسلامية الصحيحة، إلى قريب مبعث النبي محمد صلى الله عليه وسلم، ولكنها كانت قد أوشكت على الزوال، إذ لم يكن يعتنقها في الحقيقة سوى النزاع في القبائل والقرى.
وأما يحيى عليه السلام فقد توفي مقتولاً، وقد قتل في الزمن الذي رُفِع فيه عيسى إلى السماء، قال يوسيفوس مؤرخ اليهود والمتوفى سنة مائة للميلاد، في تاريخه في ترجمة أنطيغوس اليهودي، حاكم القدس، من قبل الرومان: "وكان مسرفاً في النسوة والمعاصي، وهو الذي أخذ امرأة فيلبس أخيه وهو حيّ، وله منها ولدان، واسم المرأة هيروديا، فلما أنكر علماء اليهود وأئمتهم عليه ذلك، قتل منهم جماعة كثيرة، وقتل يوحنا بن زكريا، الحَبر الأعظم، والكاهن الأكبر، لما أنكر عليه أخذ امرأة أخيه" اهـ
وأما والده زكريّا عليه السلام، فيُعْتَقد أيضاً أنه مات مقتولاً، ولكن لا أحد يعلم بالتحديد متى قتل، ولكن الراجح أنه قتل قبل ابنه يحيى بسنوات عديدة، ذلك أن زكريا عليه السلام، سأل الله تعالى أن يهب له وريثاً يرث عنه العِلم، ليبلّغه الناس من بعده، فلو قتل زكريا ويحيى في زمن واحد، لما كان يحيى وريثاً لزكريا، مع العلم أن زكريا، لم يذكر له خبر في زمن نبوءة يحيى وعيسى عليهما السلام، مما يدلّ على أنه مات قبل ذلك.
ورواة اليهود والنصارى، يزعمون أن زكريّا النبيّ، ليس هو زكريا والد يحيى، بل رجل يدعى: زكريّا بن عدّو، وهذا قطعاً من أوهامهم وتخليطهم، والذي يظهر، أن زكريا بن عدّو هذا كان حبراً من أحبار اليهود، فظنّه اليهود زكريّا النبي، وتابعهم على هذا النصارى.
ورواة النصارى، يزعمون أن النبي زكريا المقتول، هو زكريّا بن عدوّ، وأنه قتل بين المسجد والمذبح الذي أعدوه لذبح قرابينهم، إما ذاهباً للمسجد أو خارجاً منه.
وبما أنه تبيّن بطلان قولهم، في أن زكريّا النبي، هو زكريّا بن عدّو، فبالتالي، يترجّح أن زكريّا المقتول، هو زكريّا والد يحيى.
وقد ذكر يوسيفوس اليهودي، في تاريخه، أنه سبق الملك أنطيغوس اليهودي، عِدّة ملوك من أسلافه، كانوا كلهم طغاة، وفاسدين، فيظهر، أن الفساد الديني والأخلاقي قد انتشر في عصر هؤلاء الملوك، فأخذ زكريا عليه السلام، يعظ الناس وينهاهم عن السوء، فغضب بعض أهل الشر والفساد من زكريا لذلك، لذلك سعو لقتله، والراجح أنهم لن يقدموا على قتله ما لم يكن لديهم أمرٌ من ملك اليهود، فلما تمكنوا من استصدار الأمر بذلك، بحثوا عنه ليقتلوه، فوجدوه بين المسجد والمذبح، الذي يذبحون فيه قرابينهم، إما ذاهب إلى المسجد أو خارج منه، فقتلوه.