قال تعالى في سورة البقرة: (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ)
قوله: (خَلِيْفَة) أي: أخلفه في الأرض، ليقوم بعبادتي فيها.
وقوله: (أَتَجْعَلُ فِيهَا) .. الآية. وسؤال الملائكة هنا سؤال متعلّمٍ متعجّب، وليس سؤال معترض مستنكر، وحاشاهم من ذلك عليهم السلام، وقد أثنى عليهم الله تبارك وتعالى في كتابه العزيز، بصدق المحبة والولاء والطاعة.
والسؤال هنا: هو كيف عرف الملائكة بما سوف يجري من بني آدم من الإفساد في الأرض وسفك الدماء؟
والجواب: أن التعليل الوحيد، هو أن الله تبارك وتعالى، أخبرهم بذلك، إذ لا وجه لمعرفتهم بشيء من ذلك؛ إلا ما أخبرهم الله به من علم الغيب، فبعد أن أخبرهم الله سبحانه وتعالى بأنه يريد خلق آدم، أخبرهم بما سوف يقع من ذريته من الفساد في الأرض وسفك الدماء، وهنا تعجب الملائكة، وسألوا الله عن سبب خلق الله لآدم وذريته، مع علمه سبحانه بما سوف يقع منهم في الأرض، واستغنى الله عن ذكر ذلك في القرآن، لدلالة الكلام عليه، فإن من سِيمَى القرآن الاختصار والاقتضاب في إيراد القصص والأخبار، وحذف ما لا حاجة لذكره، إذا كان سياق الكلام يدل عليه.
وقال تعالى في سورة الحجر: (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِّن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ)
قوله: (صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ) أي: الصلصال، هو الطين، وإنما يسمّى الطين صلصالاً إذا عمل له تجويف، وترك حتى ييبس، فإذا قُرِع، سُمِع له صلصلة، ثم تجوّز العرب، فأسموا الطين يابساً وغير يابس صلصالاً، والحمأ، هو الطين الذي أنتنت رائحته من طول مكثه في الماء، والمسنون، أي: الأملس، أن الله تعالى أخبرهم بأن هذا الخليفة هو بشر سوف يخلقه من طين، وأن عليهم أن يسجدوا له بعد أن ينفخ فيه من روحه، فالطاعة والتعظيم لأمر الله عز وجل، والسجود لآدم عليه السلام.
وقال تعالى في سورة ص: (إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِن طِينٍ فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ)
وقال تعالى في سورة البقرة: (وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ)
قوله: (إِلاَّ إِبْلِيسَ) أي: أن إبليس كان ممن توجّه الأمر إليه بالسجود لآدم، فداخله من ذلك حسد شديد، دفعه إلى بغض آدم بغضا عظيما.
عن أنس بن مالك، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لما خلق الله آدم؛ تركه ما شاء أن يدعه، فجعل إبليس يطيف به؛ فلما رآه أجوف عَرَف أنه خلق لا يتمالك".
رواه مسلم.
قلت: وقوله إن إبليس كان يطيف بآدم عليه السلام، فيه دليل على أن الله تعالى كان قد ستر جسد آدم عليه السلام، بعد أن صوره وقبل أن ينفخ فيه الروح، فما كان الله تعالى ليجعل عورة آدم بادية، وما كانت الملائكة لترى عورته.
وقوله: (وَاسْتَكْبَرَ) أي: أن سبب معصيته هو التكبُّر على آدم، ولعل، والعلم عند الله وحده، أن الله ما أمر الملائكة بالسجود لآدم، إلا ليميز الخبيث من الطيب، فكان إبليس هو الخبيث، وذلك أن الله تبارك وتعالى، خلقه من نار، من بين سائر الملائكة، مما جعله يعتقد بأن له فضلاً عليهم، لتميُّزِه عنهم بمادة خلقه، لذلك داخله الكبر، فأراد الله عز وجل أن يطرده من الجنة، ولكن أراد قبل ذلك أن يظهر هذا الكبر الذي في نفس إبليس، ويفضحه على رؤوس الملائكة، ليعرفوا أن الله لم يطرده إلا لأنه مستحق للطرد، فأمرهم جميعا بالسجود لآدم عليه السلام.
وقال تعالى في سورة الأعراف: (وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ لَمْ يَكُن مِّنَ السَّاجِدِينَ قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَن تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ)
قوله: (وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ) أي: خلقنا طينتكم ومائها، بخلقنا للأرض وبحارها، من قبل أن نصوركم، ثم صورناكم بعد ذلك.
وقوله: (ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ) ثم، حرف عطف، يفيد الترتيب مع التراخي. أي: أن أمر الله تعالى للملائكة بالسجود لآدم، كان أمران: الأمر الأول كان قبل أن يخلق آدم عليه السلام، ووقع للتنبيه فتنبه الملائكة، وأما الثاني، فبعد أن نفخ الروح في جسد آدم، ووقع للتنفيذ، فنفّذ الملائكة ما أمرهم به ربهم، إلّا الشقيّ.
قوله: (فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَن تَتَكَبَّرَ فِيهَا) أي: إهبط من الجنّة، ومعنى الهبوط هنا، أي: الخروج، أي: أُخرج من الجنّة، لأنها لا يسكنها المتكبّرون، وسٌمّ] خروجه من الجنّة هبوطاً، لأن مكان الجنّة عالياً، فكل من خرج منها إما أن يصعد إلى الحضرة الإلهيّة، إن كان قد أُذِن له، أو يهبط إلى أسفل، وبما أن إبليس مغضوب عليه، فكان خروجه من الجنّة هبوطاً، إلى مكان أسفل من الجنّة.
وقال تعالى في سورة الحجر: (فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى أَن يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا لَكَ أَلاَّ تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ قَالَ لَمْ أَكُن لِّأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ)
قوله: (رَجِيْم) أي: مرجوم.
وقوله: (اللَّعْنّة) أي: ملعون، والملعون، هو المطرود من رحمة الله تعالى.
وقوله: (إِلَى يَوْمِ الدِّينِ) أي: إلى يوم القيامة، وفي هذا دليل على أن الله تبارك وتعالى كان قد أخبر الملائكة وإبليس أن العباد سوف يمتحنون إلى أجل، ثم يجمعون في يوم يحاسبون فيه، وقد استغني عن ذكر هذه التفاصيل؛ لعدم الحاجة لذكرها، فدلالة الكلام تدل عليه.
وقال تعالى في سورة الإسراء: (وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا)
وقال تعالى في سورة ص: (فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ إِلاَّ إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنْ الْكَافِرِينَ قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْعَالِينَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ)
قوله: ( لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ) أي: أن الله تعالى خلقه بيديه العظيمتين، وكذا سائر الخلق، خلقهم الله بيديه، قال تعالى: (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُم مِّمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ) [يس].
وقوله: (أًيْدِيْنَا) أي: يَدَيّ الله تعالى، أوردها بصيغة الجمع للتفخيم والتعظيم.
وعن سعيد بن جبير قال: "لما لعن إبليس تغيرت صورته عن صورة الملائكة، فجزع لذلك، فرن رنَّة، فكل رنة في الدنيا إلى يوم القيامة منها".
رواه أبو الشيخ في العظيمة، بسند قويّ.
وقوله: "فكل رنّة في الدنيا إلى يوم القيامة منها" أي: أنها صارت سنّة في الجن والإنس، يرنون عند المصائب، إلّا من وقاه الله تعالى، وألهمه الصبر.
وعن مجاهد بن جبر قال: "رنّ إبليس أربعا، حين لعن، وحين أهبط، وحين بعث محمد صلى الله عليه وسلم، وبعث على فترة من الرسل، وحين أنزلت الحمد لله رب العالمين".
رواه أبو الشيخ في العظمة، بإسناد صحيح.
وهذا يعني، أن الله تعالى وتقدس، مسخ إبليس شيطاناً رجيماً قبيحاً، غاية في القبح، بعد أن كان ملاكاً كريماً غاية في الحسن، فلما رأى ما حلّ به، رنّ عدو الله، والرنّ هو الصراخ الشديد من هول الفاجعة التي حلت به، لأنه لم يكن يظن أن يفعل الله به ذلك.
وقال تعالى في سورة الإسراء: (قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلاَّ قَلِيلاً قَالَ اذْهَبْ فَمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاء مَّوْفُورًا وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِم بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُورًا إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلاً)
أي: أن عدوّ الله والصالحين من عباده، لما استفاق من هول الفاجعة، بدل أن ينتبه ويجأر إلى الله بالتوبة، ويسأله الصفح والعفو والمغفرة والرحمة، ازداد غيّاً وخبثاً وحقداً وكفراً، فأخذ يتهدد ويتوعد آدم وذريّته!
وقال تعالى في سورة الأعراف: (قَالَ أَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ قَالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنظَرِينَ قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَائِلِهِمْ وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْؤُومًا مَّدْحُورًا لَّمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنكُمْ أَجْمَعِينَ)
أي: أن عدو الله والصالحين من عباده، لمّا سمع جواب الله له، وهو قوله سبحانه: (اذْهَبْ فَمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاء مَّوْفُورًا) .. الآية. طمع عدو الله تعالى أن ينظره الله إلى يوم القيامة، لعله يصدق ظنه فيهم، فسأل الله أن ينظره، بأن يمد في عمره حتى قيام الساعة، فأعطاه الله تعالى مراده.
وقال تعالى في سورة الحجر: (قَالَ رَبِّ فَأَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنظَرِينَ إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ)
وقال تعالى في سورة ص: ( قَالَ رَبِّ فَأَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنظَرِينَ إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ قَالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنكَ وَمِمَّن تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ)
قوله: (فَبِعِزَّتِكَ) تأويل ذلك، أنه أقسم بعزة الله، أنه بسبب إغواء الله له، سوف يسعى إلى إغواء بني آدم وإضلالهم، وإيقاعهم في الكفر أو المعاصي.
والله تبارك وتعالى إنما يقصّ علينا ما جرى بينه وبين إبليس بالمعنى وليس بالنص، فإن إبليس لم يكن هذا اسمه، وإنما سمي إبليس بعد اللعنة والمسخ والطرد، وإنما يذكره باسمه الذي سماه به بعد المعصية استصغاراً له، وتنقصاً له، وكذلك تجد أن العبارات فيه اختلاف في اللفظ، ولكنها متفقة في المعنى، ومؤتلفة في القصد.
ثم إن الله تبارك وتعالى طرد إبليس من الجنة، وأمره بالخروج منها، ولم يخبرنا الله تبارك وتعالى ولا رسوله أين أقام بعد خروجه من الجنة، ولكن لا يخرج هذا عن أمرين: إما أن الله أمره بالهبوط إلى الأرض مباشرة، أو أن الله تبارك وتعالى قد هيئ له موضعاً خارج الجنة ليقيم فيه.
وقال تعالى في سورة البقرة: (وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاء هَؤُلاء إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ قَالُواْ سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ قَالَ يَا آدَمُ أَنبِئْهُم بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ)
أي: أن الله تعالى أراد أن يظهر لملائكته سعة علمه، فعلّم آدم أسماء جميع المخلوقات، سواء كانت حيوانات، أو أدوات، أو أفعال، ما ترك الله شيئاً لم يعلّمه إيّاه.
وهل الله تعالى علّمه إيّاه بالتلقين أو بالإلهام؟ قد يكون هذا أو ذاك، وإن كنت أرجّح أن يكون هذا عن طريق الإلهام.
وإنما أراد الله تبارك وتعالى أن يثبت لملائكته بأنه يعلم ما لا يعلمون، بدلالة أنهم لم يستطيعوا معرفة أسماء الأشياء التي عرضها الله عليهم، فكيف لهم أن يعلموا سبب خلقه لآدم وذريّته، مع ما سوف يقع من ذريّة آدم من الفساد في الأرض. وفي هذا تعليم من الله تعالى لملائكته بل ولجميع خلقه من الإنس والجن، أن لا يتكلّفوا علم ما لا قدرة لهم على علمه، وأنهم إذا رأوا الشيء من إيجاد الله تعالى، سواء كان خلقاً أم فعلاً، لا يعلمون سببه ولا الحكمة من إيجاد الله تعالى له، أن يكلوا علمه والحكمة من إيجاده لله تعالى، لأنه سبحانه أعلم بخلقه.
وعن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في خبر خلق آدم، أن الله تعالى قال لآدم: "لما خلق الله آدم ونفخ فيه الروح عطس فقال: الحمد لله، فحمد الله بإذن الله، فقال له ربه: رحمك الله ربك يا آدم، وقال له: يا آدم، اذهب إلى أولئك الملائكة، إلى ملإ منهم جلوس، فقل: السلام عليكم، قالوا: وعليك السلام ورحمة الله، ثم رجع إلى ربه، فقال: إن هذه تحيتك وتحية بنيك، بينهم، فقال الله له ويداه مقبوضتان: اختر أيهما شئت، قال: اخترت يمين ربي وكلتا يدي ربي يمين مباركة، ثم بسطها فإذا فيها آدم وذريته، فقال: أي رب، ما هؤلاء؟ فقال: هؤلاء ذريتك، فإذا كل إنسان مكتوب عمره بين عينيه، فإذا فيهم رجل أضوؤهم - أو من أضوئهم - قال: يا رب من هذا؟ قال: هذا ابنك داود قد كتبت له عمر أربعين سنة. قال: يا رب زده في عمره. قال: ذاك الذي كتب له. قال: أي رب، فإني قد جعلت له من عمري ستين سنة. قال: أنت وذاك، قال: ثم أسكن الجنة ما شاء الله، ثم أهبط منها، فكان آدم يعد لنفسه، قال: فأتاه ملك الموت، فقال له آدم: قد عجلت، قد كتب لي ألف سنة، قال: بلى، ولكنك جعلت لابنك داود ستين سنة، فجحد فجحدت ذريته، ونسي فنسيت ذريته. قال: فمن يومئذ أمر بالكتاب والشهود.
رواه الترمذي وقال: هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه.
وفي رواية، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لما خلق الله آدم، مسح ظهره، فسقط من ظهره كل نسمة هو خالقها من ذريته إلى يوم القيامة، وجعل بين عيني كل إنسان منهم وبيصا من نور، ثم عرضهم على آدم، فقال: أي رب، من هؤلاء؟ قال: هؤلاء ذريتك، فرأى رجلا منهم فأعجبه وبيص ما بين عينيه، فقال: أي رب، من هذا؟ فقال: هذا رجل من آخر الأمم من ذريتك، يقال له داود، فقال: رب كم جعلت عمره؟ قال: ستين سنة، قال: أي رب، زده من عمري أربعين سنة، فلما قضي عمر آدم جاءه ملك الموت، فقال: أولم يبق من عمري أربعون سنة؟ قال: أولم تعطها ابنك داود؟ قال: فجحد آدم فجحدت ذريته، ونسي آدم فنسيت ذريته، وخطئ آدم فخطئت ذريته.
رواه الترمذي وقال: هذا حديث حسن صحيح.
وقد ساقها الترمذي بصيغة توهم أن أمر الله تعالى لآدم بالذهاب إلى الملائكة للسلام عليهم، وقع فور دخول الروح في جسده، فقال: "لما خلق الله آدم ونفخ فيه الروح عطس فقال: الحمد لله، فحمد الله بإذنه، فقال له ربه: رحمك الله يا آدم، اذهب إلى أولئك الملائكة .. ". الحديث.
وهذا في الحقيقة من أوهام الرواة، والصواب أنه بعد دخول الروح في خياشيمه، عطس فألهمه الله أن يحمده، فلما اكتلمت الروح في جسده، أمر الله الملائكة بالسجود له، فسجدوا إلا إبليس أبى، وجرى بين الله وبين إبليس ما تقدم ذكره، وعلى هذا، فإن أمر الله تعالى لآدم بالسلام على النفر من الملائكة، إنما وقع بعد ذلك بزمن، الله أعلم به.
ويفيد هذا الخبر، أن آدم عليه لاسلام، عاش ألف سنة.
ويظهر لي، أن خلق حواء، لم يقع بعد، بدليل أنه لم يرد ذكر لحواء في هذا الخبر.
وقال تعالى في سورة البقرة: ( وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلاَ مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلاَ تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُواْ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ فَتَلَقَّى آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ قُلْنَا اهْبِطُواْ مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ)
أي: أن الله تعالى أراد أن يبتلي آدم وحواء، فنهاهما عن الأكل من شجرة من أشجار الجنّة، ولم يذكر الله تبارك وتعالى اسم هذه الشجرة ولا نوعها، ولا أحد يعرف اسم أو نوع هذه الشجرة، وكل من ادعى معرفة ذلك، فهو كاذب، وكل شجر الجنّة طيّب كريم طاهر، وما حرمها الله عليهما إلا ليبتليهما فقط.
وقوله: (فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ) أي: أوقعهما في معصية الله تعالى ، بالأكل من الشجرة، وكان الله تبارك وتعالى، قد مَكَّن إبليس من رؤية آدم وزوجه، وسماع صوتيهما، من موضعه، وأقدره الله تعالى على أن يسمعهما وسوسته، وإن لم يَريَا شخصه أو يسمعا صوته، كما يوسوس بنوه اليوم لبني آدم، وأما الجنة فقد كان دخوله إليها محرماً، وما كان إبليس ليجترئ على ذلك، وقد علم أن أي حيلة سوف يقوم بها لدخول الجنة، سوف لن تخفى على الله تعالى، وبالتالي، فهو لن يجترئ على فعل ذلك خشيةً من الله تعالى، فلما علم أن الله نهاهما عن الأكل من الشجرة، إهتبل عدو الله هذه الفرصة، وطمع أن يغويهما، ويوقعهما في المعصية، فيسخط الله تعالى عليهما ويمسخهما ويطردهما من الجنة كما فعل به.
وقوله: (فَتَلَقَّى آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ) أي: تلقى من الله تعالى، بإلهام منه، ما يقوله في توبته، فلما قالها آدم عليه السلام، تاب الله عليه.
وقوله: (قُلْنَا اهْبِطُواْ مِنْهَا جَمِيعًا) أي: أمر آدم وزوجه حوّاء بالخروج من الجنّة، ولم يكن بُدٌّ من هبوط آدم وحواء إلى الأرض، سواء وقعا في المعصية أم لم يقعا، لأنه إنما خلقهما ليعمرا وبنيهما الأرض، ولعل الله تبارك وتعالى، أراد أن يبين لآدم وحواء ولذريتهما من بعدهما شؤم المعصية، فجعلها سببا لخروجهما من الجنة.
وقال تعالى في سورة الأعراف: (وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلاَ مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلاَ تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِن سَوْآتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلاَّ أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ فَدَلاَّهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَن تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُل لَّكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُّبِينٌ قَالاَ رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ قَالَ اهْبِطُواْ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ)
قوله: (فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ) أي: تحدث بصوت خفيّ، وهذا كما يوسوس بنوه اليوم لبني آدم، فإبليس كان يوسوس لآدم وحواء، دون أن يسمعا صوته، أو يريا شخصه.
فإن قيل: كيف وسوس لهما وهو مطرود من الجنّة، وهما داخلها؟
والجواب: لا يلزم من ذلك أن يكون إبليس قريباً منهما، ولم يكن إبليس عليه لعنة الله تعالى، ليجترئ على دخول الجنّة وقد طرده الله منها، والأرجح أن الله تعالى، أمكن إبليس من رؤية شخصيهما وسماع صوتيهما، وأمكنه من أن يوسوس لهما، فتبلغهما وسوسته وهو في موضعه الذي أُخرِج إليه، وبذلك كان يعلم ما يجري منهما، وما يأمرهما الله به.
وقوله: (إِلاَّ أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ) أي: ملكين مثل الله تعالى.
وقوله: (أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ) أي: تخلدان في الحياة، فلا تموتان أبداً، مثل الله تعالى.
وقوله: (وَقَاسَمَهُمَا) أي: أنه من شدة حرصه أن يصدّقاه، أقسم لهما أنه ناصح لهما، مع أنه إنما كان يوسوس لهما.
وقوله: (فَدَلاَّهُمَا بِغُرُورٍ) أي: خدعهما، بتعريضهما للهلاك، ودلّاه، أي: خدعه. والتغرير: التعريض للهلاك، تقول العرب: دلّاه بغرور. أي: خدعه بأن جعله يقع في الخطأ، وعرّضه للهلاك.
وقوله: (بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا) أي: لما ذاقا الشجرة، انكشف اللباس الذي كان كساهما الله تعالى من لباس الجنّة، وكأنه لم يكن عليهما لباس، فصارا عريانين، حيث بدت لهما سوءاتهما، والسوءاة هنا هي العورة المغلظة، وهي عورة الرجل والمرأة.
وقوله: (وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ) أي: أخذا يقطفان من ورق الجنّة، ويعقدانها إلى بعضها البعض، ويلفّانها على خاصرتيهما كهيئة الإزار، خشيت أن يراهما أحد وهما عريانان.
وكان هذا أول ما وقع لهما من شؤم المعصية التي وقعا فيها.
وقوله: (وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا) أي: أن الله تعالى كان يعلم ما وقع منهما، ويرى ما يصنعان، فنادهما وهو على عرشه، والمناداة لا تكون إلّا من بعيد.
وقوله: (قَالاَ رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا) أي: أقرا بخطئهما، وخضعا وذلّا واستكانا، وعلما مدى فداحة وعظم المعصية التي ارتكباها.
وهذا هو الفارق بينهما وبين إبليس، فإن إبليس لما وقع في المعصية، ازداد كِبراً وكفراً وشرّاً، فاستحق اللعن والمسخ والطرد، وأما آدم وحواء، لما وقعا في المعصية خضعا وأنابا وتابا وأقرا بخطئهما، فاستحقا العفو والمغفرة والرحمة.
وقال تعالى في سورة طه: (وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَّكَ وَلِزَوْجِكَ فَلا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى إِنَّ لَكَ أَلاَّ تَجُوعَ فِيهَا وَلا تَعْرَى وَأَنَّكَ لا تَظْمَأُ فِيهَا وَلا تَضْحَى فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لّا يَبْلَى فَأَكَلا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِن بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى)
وقوله: (وَلا تَضْحَى) أي: ليس هناك شمس يشتد حرها وقت الضحى، فيؤذيك حرّها، كما هو الحال في الأرض التي خلقه ليسكنها.
وقوله: (فَغَوَى) من الغِواية، وهي الضلالة. أي: ضلّ عن سبيل ربه.
وقوله: (اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ) أي: أمر آدم وحوّاء بالهبوط من الجنّة، ثم ذكّرهم، أنهما عدوّان لإبليس.
وقوله: (فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا) أي: في الدنيا، يعيش في ضنك، فتجده ضيّق الصدر، عظيم الهمّ، ولو كانت معه كنوز الأرض.
وقوله: (وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى) وذلك على الأرجح في النار، حيث يعمي الله أبصار أهل النار، ويصم أذانهم، ويخرس ألسنتهم، فلا تسمع إلا الشهيق والزفير.
وقوله: (وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ) معنى أسرف، أي: أمعن وأكثر وتجاوز الحد في الغواية.
وقال تعالى في سورة الأعراف: (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا أَن تَقُولُواْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ)
عن عبدالله بن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أخذ الله الميثاق من ظهر آدم بنعمان - يعني عرفه - فأخرج من صلبه كل ذرية ذرأها، فنثرهم بين يديه كالذر، ثم كلمهم قُبُلاً قال: (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا أَن تَقُولُواْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ).
رواه أحمد بسند صحيح.
وقوله: "ثم كلمهم قُبُلاً" أي: قابلهم مقابلة.
وهذا الخبر عن ابن عباس يؤكد أن آدم وحواء أُهبِطا بوادي بكة، وبكة، اشتق اسم الوادي من المصدر: بك، أي: أجتمع، وكانت بكة، تجتمع فيها السيول المتحدرة من الجبال التي حولها، والعرب يبدلون الباء ميما أحياناً إذا استحسنوا ذلك؛ لذلك أبدلوا باء بكة، بميم، فصارت تدعى: مكة.
ومن الأخبار التي ترجّح عندي أنها من وضع القصّاص في سيرة آدم عليه السلام.
ما روي من أن آدم عليه السلام أهبط بالهند، وأن حواء أهبِطت بجدة، وأنهما التقيا بعرفة، وتعارفا هناك، فسميت عرفة بهذا الاسم لهذا السبب.
ومنها ما روي من أن آدم لما أهبط بالهند كان قد قبض قبضة من ورق الجنّة، فبثّها هناك، فمنه نبتت أشجار العود، وإنما أراد واضع هذه القصّة، أن يعلل سبب وجود أشجار العود في بلاد الهند، دون سائر البلاد، والعود إنما هو تفاعلٌ يحدث في خشب أشجار الهند، من طبيعة تلك الأرض وغذائها، فيتكلس جزء من خشبها، ويصير عوداً له رائحة طيّبة، فيقتطعونه من الشجرة، ويحطمونه، ويبيعونها كِسراً.
ومنها ما روي أن آدم عليه السلام، لما أهبط إلى الأرض، كان رأسه في السماء، وقدمه في الأرض، وأن الله حطّ من طوله إلى ستين ذراع، وهذا خبر كذب.
ومنها أنه لما أهبط سار من الهند ليبحث عن حواء، فجعل الله مكان كل خطوة منه قرية، وكأن القرى والناس تنبت من الأرض، وهذا خبر كذب.