سيرة يوسف عليه السلام

قال تعالى في سورة يوسف: (نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ قَالَ يَا بُنَيَّ لاَ تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُواْ لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلإِنسَانِ عَدُوٌّ مُّبِينٌ وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِن قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ)

قوله: (وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ) أي: لم تكن تعلم عن قصص الأنبياء السابقين.

وقوله: (إِنِّي رَأَيْتُ) أي: رؤيا منام.

وقوله: (رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ) لا يُدرى كيف سجدوا له، ولن يدرك ذلك، إلا من سأل يوسف عن ذلك، أو رأى ما رأى يوسف.

وقوله: (يَجْتَبِيكَ) أي: يدنيك ويقربك.

وقوله: (وَيُعَلِّمُكَ مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ) أي: يعلمك تأويل الرؤى بإلهام منه سبحانه. 

ثم قال تعالى: (لَّقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِّلسَّائِلِينَ إِذْ قَالُواْ لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ اقْتُلُواْ يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُواْ مِن بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ قَالَ قَائِلٌ مِّنْهُمْ لاَ تَقْتُلُواْ يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ) 

قوله: ( لِّلسَّائِلِينَ) أي: لمن يسأل عن خبرهم.

وقوله: (عُصْبَة) أي: جماعة.

وقوله: (اطْرَحُوهُ أَرْضًا) أي: ألقوه في أرض بعيدة لا يرجع منها.

وقوله: (غَيَابَةِ الْجُبِّ) والغيابة، هي القاع، والجُبّ، هو البئر.

وقوله: (السَّيَّارَةِ) السيّارة، جمع سائر، وهم الذين يسيرون في الأرض.

وقوله: (إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ) أي: مصممين على التخلّص من يوسف.

ثم قال تعالى: (قَالُواْ يَا أَبَانَا مَا لَكَ لاَ تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَدًا يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ قَالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَن تَذْهَبُواْ بِهِ وَأَخَافُ أَن يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ قَالُواْ لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذًا لَّخَاسِرُونَ فَلَمَّا ذَهَبُواْ بِهِ وَأَجْمَعُواْ أَن يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُم بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ وَجَاؤُواْ أَبَاهُمْ عِشَاء يَبْكُونَ قَالُواْ يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِندَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَمَا أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لَّنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ وَجَاؤُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ) 

قوله: (وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ) أي: ناصحون له في الخروج معنا إلى المرعى، لأنه هناك سوف يرتع ويلعب.

وقوله: (وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) أي: نحفظه من كل سوء يريد أن يناله.

وقوله: (وَأَخَافُ أَن يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ) قال: يأكله الذئب، ولم يقل: يفترسه الذئب، والأكل، أن يلتهمه كلّه، وإنما قال ذلك، لأن يوسف في ذلك الوقت كان صغيراً جدّاً، ربما لم يبلغ حتى تلك الفترة سنة العاشرة، فيكون عظمه رقيقاً، ويسهل على الذئب أن يلتهمه كله.

وقوله: (إِنَّا إِذًا لَّخَاسِرُونَ) أي: لا خير في جماعتنا وقوتنا.

وقوله: (وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ) أي: أنهم لما همّوا بفعل ما أجمعوا عليه، بعث الله له ملكاً ليواسيه ويطمئنه، ويخبره، أنه سوف يأتي اليوم الذي يخبرهم فيه بما صنعوه به.

وقوله: (وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ) أي: لا يعلمون بأن هناك ملكاً يخبر يوسف، بأنه سوف ينبئهم بما فعلوه به، من إلقائهم له في غيابة الجُبّ، لأنه لم يكن يراه ويسمعه سوى يوسف.

وقوله: (وَجَاؤُواْ أَبَاهُمْ عِشَاء يَبْكُونَ) أي: جاءوه عشاء، وهو الوقت الذي يعودون فيه  بأنعامهم من المرعى، وجاءوا وهم يتظاهرون بالبكاء.

وقوله: (وَمَا أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لَّنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ) أرادوا التأكيد على صحة قولهم، بأن هذا شيء لا يصدّق، إذ حصل الاتّفاق بوقوع ما سبق أن حَذِروا وقوعه.

وقوله: (وَجَاؤُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ) أي: ذبحوا جدياً، ولطّخوا قميص يوسف به.

وقوله: (قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا) أي: أنه لم يصدقهم، وعلم أنها كانت حيلة منهم للتخلّص من يوسف. ولقد علموا أن أباهم لم يصدقهم، ولكنهم أصروا على أنهم صادقون فيما يقولون له.

ثم قال تعالى: (وَجَاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُواْ وَارِدَهُمْ فَأَدْلَى دَلْوَهُ قَالَ يَا بُشْرَى هَذَا غُلامٌ وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُواْ فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ) 

قوله: (وَجَاءَتْ سَيَّارَةٌ) أي: جاء قوم مسافرون.

وقوله: (فَأَرْسَلُواْ وَارِدَهُمْ) أي: أرسلوا أحدهم ليرد البئر التي فيها يوسف ليستقي لهم الماء.

وقوله: (قَالَ يَا بُشْرَى هَذَا غُلامٌ) أي: أن يوسف تعلّق بالدلو، فجذبه الرجل مع الدلو وهو لا يشعر، لخِفَّة وزن يوسف، فلما خرج فرح به وأخذه إلى أصحابه، وبشرهم بأنه وجد غلاماً.

وقوله: (وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً) هذا له معنيان: الأول أن هؤلاء المسافرون، لم يكونوا وحدهم، بل كانوا جماعة من الناس، وأن من عثر على الغلام جاء به إلى أصحابه وقد أخفاه عن البقيَّة، وبشرهم بأنه وجده في البئر، فأخفوه بين بضائعهم، لكي لا ينتبه بقية الناس له، إذ قد ينتزعوه منهم، أو يشاركوهم في قيمته، أو يسعون إلى رده إلى أهله. والثاني: أنهم لم يكن معهم أحد سواهم، ولم يكن معهم أحد من غيرهم، وأنهم لما أخرجوا يوسف من الجُبّ، سألوه عن سبب وقوعه في قاع البئر، فأخبرهم بما جرى له، عندئذ أخفوه بين بضائعهم، خشيت أن يأتي أبوه للبحث عنه، فينتزعه منهم.

وقوله: (وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ) أي: أنهم لما هبطوا مصر، توجهوا به إلى سوق العبيد، وعرضوه للبيع بسعر زهيد، لكي تكون فرصة بيعه أكبر.

وقوله: (وَكَانُواْ فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ) أي: أنهم كانوا فيه زاهدين، فهو طفل صغير، لا يصلح لأعمالهم الشاقة.

ثم قال تعالى: (وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِن مِّصْرَ لاِمْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَن يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ)

قوله: (مِن مِّصْرَ) فيه بيان بأن من باعه باعه في سوق مصر.

وقوله: (أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا) أي: أنه لم يكن له ولد ذكر.

وقوله: (وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ) أي: جعلنا له مأوى يأوي إليه، ورجلاً ينفق عليه.

وقوله: (وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ) أي: أن الله مستولٍ على أمر يوسف، يسوسه ويدبّره ويحوطه.

ثم قال تعالى: (وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَن نَّفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاء إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ وَاسْتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِن دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ قَالَتْ مَا جَزَاء مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلاَّ أَن يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَن نَّفْسِي وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّنْ أَهْلِهَا إِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِن الصَّادِقِينَ فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِن كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنبِكِ إِنَّكِ كُنتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ)

قوله: (وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ) أي: بلغ ثمانية عشر سنة، وهو بداية سنّ الأشدّ. ولكنه لم يبلغ سنّ الأشدّ إلّا وقد أعطي شطر الحُسْن.

جاء في حديث المعراج، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ثم عرج بي إلى السماء الثالثة، فاستفتح جبريل، فقيل: من أنت؟ قال: جبريل، قيل: ومن معك؟ قال: محمد صلى الله عليه وسلم، قيل: وقد بعث إليه؟ قال: قد بعث إليه، ففتح لنا، فإذا أنا بيوسف صلى الله عليه وسلم، إذا هو قد أعطي شطر الحسن، فرحب ودعا لي بخير".

رواه مسلم.

وقوله: (وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) أي: الذين يحسنون أعمالهم وأخلاقهم. 

وقوله: (وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَن نَّفْسِهِ) أي: زوجة سيّده، وراودته، أي: طلبت منه فعل الفاحشة بها، من المراودة، وهي المحاولة.

وقوله: (وَغَلَّقَتِ الأَبْوَابَ) أي: أنها أغلقت الباب الرئيسي، وباب غرفتها.

وقوله: (وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ) وهيت في اللغة يراد بها المناداة من بعيد صوت عالٍ، فإذا نادى شخصٌ شخصاً بعيداً بصوت عالٍ، قالوا: هَيّت له. ولذلك يفسّرها بعض علماء اللغة بهلُمَّ. فإن كان ما تأولوه صحيحاً، فهذا يعني أنه وقع في الجملة حذف تقديره: هيت فأنا لك. ولكن لم يذكر عبارة "فأنا" لأنها لم تلفظها، وإنما اكتفت بالإشارة إلى نفسها عن التلفّظ بها. وقد تكون هيت هنا، بمعنى: هذه، كأنها تقول: هذه، وتشير إلى نفسها، لك، أي: وهبت نفسي لك لتفعل بي المنكر!

وقوله: (قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ) أي: سيّدي، عاملني معاملة حسنة، أي: أنه أواه وأنفق عليه.

وقوله: (إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ) أي: الذين يعملون السوء فيمن أحسن إليهم.

وقوله: (وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا) أي: كاد يوسف أن يطيعها، وشرعت هي للاستعداد لفعل ذلك.

وقوله: (لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ) أي: أن الله تعالى أراه آية ذكّرته بالله تعالى، ونبهته، أن يحذر في الوقوع في المنكر، ولم يبيّن لنا ربنا عزّ وجل ولا رسوله صلى الله عليه وسلم، ما هو البرهان الذي رآه يوسف عليه السلام، وما رواه المفسرون والمؤرخون لا يعوّل عليه، ولا يلتفت إليه، كونه على الأرجح من وضع القصاص، وكل ما هنالك أن يوسف رأى من الله عز وجل برهاناً صرفه عن التمادي في الفهم، وقبل وقوع الفعل.

وقوله: (الْمُخْلَصِينَ) أي: الذين استخلصهم الله تعالى.

وقوله: (وَاسْتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِن دُبُرٍ) أي: أنه فتح باب الغرفة وخرج منها، ثم أراد أن يخرج من الباب الرئيسي، ولكنها حاولت أن تمنعه، فهرب منها يجري، فلحقته، فلما خشيت أن يفوتها مدت يدها وجذبت قميصه من الخلف، فانقدّ، أي: انشق.

وقوله: (وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ) وسيّدها، أي: زوجها، فالزوج سيّد على زوجته، ومعنى الآية: أن يوسف استطاع أن يفتح الباب الرئيسي، فإذ بسيّده زوج المرأة واقف عند الباب يستعد للدخول إلى منزله، إلا أن يوسف سبقه في فتح الباب.

وقوله: (قَالَتْ مَا جَزَاء مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلاَّ أَن يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) أي: أنها لما رأت زوجها، خافت وتظاهرت بالغضب، وزعمت أن يوسف أرادها عن نفسها.

وقوله: (وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّنْ أَهْلِهَا) أي: بما أنه لا يوجد في المنزل سوى يوسف والمرأة، ثم دخل عليهما عزيز مصر، وهما على تلك الحالة التي وصف الله تعالى، فهذا يدل على أن عزيز مصر اضطر إلى الخروج من بيته، ليسأل هذا الشاهد، وهو رجل قطعاً، بدلالة قوله تعالى: ﴿وَشَهِدَ شَاهِدٌ﴾ فهو شاهد وليس شاهدة، فيظهر أن عزيز مصر، خرج ليسأل رجلاً حكيماً من أهل زوجته كان يثق به. مما يدل على أن ما زعمه القصّاص من أن الشاهد كان طفلاً رضيعاً، أنطقه الله في المهد، وشهد ليوسف، قصة موضوعة، والطفل لا بد أن تكون معه أمه، فمن أين جاء هذا الطفل وأمه، وليس في الدار أحدٌ سوى المرأة والرجل وخادمهما يوسف؟!

وقوله: (قَالَ إِنَّهُ مِن كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ) والكيد، هو الحيلة والمكر والخداع. أي: عندما تظاهرت بأنها مظلومة، وأن يوسف هو من أرادها عن نفسها.

وقوله: (يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا) الخطاب هنا موجه من العزيز إلى يوسف، أي: لا تخبر بذلك أحداً.

وقوله: (وَاسْتَغْفِرِي لِذَنبِكِ إِنَّكِ كُنتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ) الخطاب هنا موجه من العزيز إلى امرأته، أي: طلب منها أن تستغفر له عمّا أرادت من خيانته، فتظاهرت بالندم والتوبة. واستدل بعض أهل العلم من قوله لها، على أنه كان قليل الغيرة، إذ لم يبطش بها أو يعاقبها على فعلتها، واكتفى بتوبيخها وحسب!

ثم قال تعالى: (وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَن نَّفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلالٍ مُّبِينٍ فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِّنْهُنَّ سِكِّينًا وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِن لَّمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مِّنَ الصَّاغِرِينَ قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُن مِّنَ الْجَاهِلِينَ فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) 

قوله: (فَتَاَهَا) الفتى في اللغة، هو الولد الشاب، لذلك كانوا يطلقون وصف الفتى، على الخادم الولد الشاب.

وقوله: (إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلالٍ مُّبِي) وهذا لومٌ منهن لها، إذ كيف تطمع سيدة مثلها، في مكانتها وشرفها، فهي زوجة عزيز مصر، في خادمها، واستنكرن ذلك واستبشعنه!

وقوله: (فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ) أي: بلومهنّ لها.

وقوله: (وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً) أي: أعدّت لهن المجلس، ووضعت المتاكئ، التي يتوكأ عليها الجالسون بظهورهم.

وقوله: (وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ) أي: لما شرعن في تقطيع الفاكهة، أمرته بالخروج عليهن، فلما رأينه ذهلن من شدّة جماله، فلم ينتبهن، حتى غرست كل واحدة منهن السكين في يدها وهي تقطع الفاكهة.

وقوله: (إِنْ هَذَا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ) وهذه الآية، تدل على أن أهل مصر، كانوا يؤمنون بوجود الملائكة، مع أنهم قوم مشركون، وهذا يدل على أن لديهم شيء من إرث النبوّة السابق، ولكن ديانتهم تحرفت إلى الشرك والكفر مع مرور الزمن.

وقوله: (رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ) يظهر أن تلك النسوة بعد أن رأين يوسف، عذرن سيدته فيما طمحت نفسها إليه، ويظهر أنهن أخذن يحثثنه على طاعة سيدته، بدليل قوله: (يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ) وربما دعينه لأنفسهن أيضاً.

ثم قال تعالى: (ثُمَّ بَدَا لَهُم مِّن بَعْدِ مَا رَأَوُاْ الآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانَ قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا وَقَالَ الآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ قَالَ لاَ يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلاَّ نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَن يَأْتِيَكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُم بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَن نُّشْرِكَ بِاللَّهِ مِن شَيْءٍ ذَلِكَ مِن فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُّتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَاؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا وَأَمَّا الآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِن رَّأْسِهِ قُضِيَ الأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِّنْهُمَا اذْكُرْنِي عِندَ رَبِّكَ فَأَنسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ) 

قوله: (ثُمَّ بَدَا لَهُم مِّن بَعْدِ مَا رَأَوُاْ الآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ) لما افتضح أمر امرأة العزيز ومراودتها ليوسف، أرادت أن تبرئ نفسها أمام الناس، فطلبت من زوجها أن يسجنه بدعوى أنه راود زوجته، فقام بسجنه.

وقوله: (فَتَيَان) أي: خادمان.

وقوله: (أَرَانِي) أي: أنهما رأيا ذلك رؤيا منام.

وقوله: (قَالَ لاَ يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلاَّ نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَن يَأْتِيَكُمَا) .. الآية. أي: أنه فبدأ بإخبارهم أنه قادر على تأويل رؤياهما، وأن هذا من فضل الله تبارك وتعالى عليه، الذي ألهمه معرفة تأويل الرؤى، فنسب الفضل لله تعالى، لأنه هو من وهبه هذه المعرفة، ولم ينسبها إلى نفسه، إقراراً منه بكامل عجزه وضعفه، وأن القدرة والقوة لله وحده لا شريك له، وهو المانح الوحيد لهذه الصفات، لمن يشاء من خلقه. ثم بيّن لهم أن الشرك بالله تعالى باطل، وأن على جميع الناس أن يعبدوا الله تبارك وتعالى وحده، بأن لا يدعو غير الله، ولا يستغيثوا ولا يستعينوا ولا يستعيذوا بغير الله فيما لا يقدر عليه إلا الله تعالى، وأنه لا يستغاث ولا يستعاذ ولا يستعان بالمخلوقات، إلا فيما تقدر عليه المخلوقات عادة من أمور الدنيا، وهي حيّة حاضرة قادرة على غوثك واعانتك واعاذتك، فالمخلوق إذا لم يكن حيا حاضرا قادراً فكيف يغيثك أو كيف يعينك أو كيف يعيذك، إنه لا يقدر على ذلك إلا إذا كان حياً حاضراً وقادراً، يشترك في ذلك كل الناس، الأنبياء فمن دونهم، فما لا يقدر عليه آحاد الناس، فإن الأنبياء لا يقدرون عليه، إنما كل ما يملكه الأنبياء هو الدعاء لك، كما يدعو لك أي شخص تريد منه الدعاء لك بالخير، ولكن لما كان الأنبياء أقرب إلى الله تعالى مكانة ومنزلة، كانت إجابة الله لدعائهم أقوى وأسرع، وقد لا يجيب الله دعاء الأنبياء لسبب يعلمه سبحانه، وكذلك الأنبياء لا يقدرون على اغاثتك واعانتك واعاذتك إلا فيما يقدر عليه عامة الناس، فهم لا يملكون جنة أو نارا أو سعادة أو شقاء أو نصرا أو هزيمة أو صحة أو مرضا أو عافية أو بلوى، إنه لا يملكون شيئاً من ذلك، لذلك من أراد أن يجلب لنفسه منفعة أو يدفع عن نفسه ضُرّاً، فعليه أن يدعو الله وحده لا شريك له، ويعمل من الأسباب ما يجعل الله تبارك وتعالى يعطف عليه ويرحمه ويجيب دعائه، من أداء ما فرضه عليه واجتناب ما نهاه عنه، ومن صلاة تطوع وصيام تطوع وصدقة تطوع وحجّ تطوع وعمرة تطوع، ويتقرب إلى الله بالصدقة على الفقراء والمساكين، وذبح القرابين وتقديم لحومها صدقات للفقراء، وليأكل منها هو وأهل بيته، وليكرم بها أضيافه، ويكون داعية للخير مفتاح له، مغلاقاً للشر منفراً عنه.

وقوله: (أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا) والمراد بالربّ هنا هو السيّد، أي: أنه سوف يخرج من السجن، ويقوم بعصر الخمر لسيّده، وسقايته إيّاه، وكانوا قوماً لا يحرمون ما حرم الله من الخمر، لجهلهم، ولكونهم قوم مشركون.

وقوله:(وَأَمَّا الآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِن رَّأْسِهِ) أي: أن الأخر سوف يعاقب، ويقتل، ويصلب على خشبة، فتأتي الطيور وتأكل من لحم رأسه.

وقوله: (اذْكُرْنِي عِندَ رَبِّكَ) أي: وقال للذي سوف ينجو منهما، أذكرني عند ربك، أي: عند سيّدك، لكي يخرجني من الحبس.

وقوله: (فَأَنسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ) أي: أن الشيطان أنسى الناجي من الفتيان أن يذكر يوسف عند ربّه، أي: سيّده.

وقوله: (بِضْعَ سِنِينَ) والبضع من ثلاث سنوات إلى تسع سنوات، فالله أعلم كم لبث يوسف عليه السلام في السجن.

ثم قال تعالى: (وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ يَا أَيُّهَا الْمَلأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِن كُنتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ قَالُواْ أَضْغَاثُ أَحْلامٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الأَحْلامِ بِعَالِمِينَ وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَاْ أُنَبِّئُكُم بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ لَّعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدتُّمْ فَذَرُوهُ فِي سُنبُلِهِ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا تَأْكُلُونَ ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا تُحْصِنُونَ ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ) 

قوله: (وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى) أي: رؤيا منام.

وقوله: (وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ) أي: بعد برهة من الزمن، والأمّة هنا، معناها: البرهة من الزمن، والله أعلم كم مدتها.

وقوله: (أَنَاْ أُنَبِّئُكُم بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ) أي: أنا سوف أخبركم بتأويل هذه الرؤيا، ولكن أطلب من الملك وحاشيته أن يرسلني، أي: يتركني، لأحضر له تأويل رؤياه. فعلم الملك أنه إنما أراد أن يسأل رجلاً عالماً بتأويل الرؤى، لذلك أذن له في الذهاب.

وقوله: (فَمَا حَصَدتُّمْ فَذَرُوهُ فِي سُنبُلِهِ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا تَأْكُلُونَ) أي: احفظوه في خزائنه، فلا تبذروه ولا تبيعوه، حتى يكون لكم عوناً على ما سوف تبتلون به من السبع الشداد، التي يقل فيها المطر، وتقلّ فيها المحاصيل، وكانت هذه نصيحة من يوسف لملك مصر وأهلها.

وقوله: (فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ) أي: ينزل المطر، وتكثر الثمار، ويعصر فيه الناس الخمر.

ثم قال تعالى: (وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ الَّلاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدتُّنَّ يُوسُفَ عَن نَّفْسِهِ قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِن سُوءٍ قَالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَاْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّيَ إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ) 

قوله: (وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ) أي: طلب أن يحضروا يوسف إليه.

وقوله: (فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ) أي: جاء رسول الملك إلى يوسف بالخروج من السجن.

وقوله: (قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ) أي: لم يرد الخروج من السجن حتى تظهر براءته.

وقثوله: (قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ) .. الآية. أي: أن الملك أحضرهن، واعترفن عنده بأنهن لم يرين عليه سوءاً.

وقوله: (حَصْحَصَ الْحَقُّ) أي: تبيّن الحق.

وقوله: (ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ) هذا من قول يوسف، بعد أن أقرَّت امرأة العزيز بأنها هي من راودته عن نفسه، وأنها كانت ظالمة له بسجنها إيّاه، بجريرة لم يرتكبها، فقال: ليعلم زوج المرأة أني لم أخنه في مغيبه، ولم أقرب زوجه، ثم تذكّر ما همّت نفسه به من الوقوع في الفاحشة، فقال: (وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّيَ إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ) 

ثم قال تعالى: (وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاء نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَن نَّشَاء وَلاَ نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ وَلَأَجْرُ الآخِرَةِ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ) 

قوله: (وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي) أي: أنه عَظُم في عين الملك، فأمر أن يأتوه به ليستخلصه لنفسه، لما رأى من عفّته وأمانته.

وقوله: (فَلَمَّا كَلَّمَهُ) أي: الملك كلّم يوسف.

وقوله: (مَكِينٌ أَمِينٌ) أي: سوف نمكّنك من أيّ عمل تريدنا أن نضعك عليه، ومؤتمن على أيّ عملٍ سوف نِكِلَه إليك.

وقوله: (اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ) أي: اجعلني على خزينة مصر، من الطعام ونحوه. كأن الملك خيّره أيَّ عمل يريد أن يقلّده إيّاه، فاختار أن يكون على خزينة مصر.

وقوله: (يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاء) أي: يتنقل في مصر حيث يشاء، بعد الحبس والضيق.

ثم قال تعالى: (وَجَاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُواْ عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ وَلَمَّا جَهَّزَهُم بِجَهَازِهِمْ قَالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَّكُم مِّنْ أَبِيكُمْ أَلاَ تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَاْ خَيْرُ الْمُنزِلِينَ فَإِن لَّمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلاَ كَيْلَ لَكُمْ عِندِي وَلاَ تَقْرَبُونِ قَالُواْ سَنُرَاوِدُ عَنْهُ أَبَاهُ وَإِنَّا لَفَاعِلُونَ وَقَالَ لِفِتْيَانِهِ اجْعَلُواْ بِضَاعَتَهُمْ فِي رِحَالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَا إِذَا انقَلَبُواْ إِلَى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ فَلَمَّا رَجَعُوا إِلَى أَبِيهِمْ قَالُواْ يَا أَبَانَا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنَا أَخَانَا نَكْتَلْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ قَالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلاَّ كَمَا أَمِنتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ مِن قَبْلُ فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ وَلَمَّا فَتَحُواْ مَتَاعَهُمْ وَجَدُواْ بِضَاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ قَالُواْ يَا أَبَانَا مَا نَبْغِي هَذِهِ بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا وَنَمِيرُ أَهْلَنَا وَنَحْفَظُ أَخَانَا وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ذَلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ قَالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقًا مِّنَ اللَّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلاَّ أَن يُحَاطَ بِكُمْ فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قَالَ اللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ) 

وقوله: (وَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ) أي: لم يعرفوه، لأنه كبُر وتغيّرت ملامحه، إذ قد يكون في ذلك الوقت في أواخر العقد الثالث من عمره، وكان القاطنون في صحراء النقب وسيناء والمناطق القريبة من مصر، إذا أرادوا أن يشتروا الحنطة، يذهبون إلى مصر، لأن الحنطة بها وفيرة، فأرضها تصلح لزراعة الحنطة، فكان يعقوب وبنيه، كما كان إبراهيم وإسحاق عليهم السلام من قبل، إذا أرادوا شراء الحنطة، ذهبوا إلى مصر، فلما كبُرت سِن يعقوب، كان يرسل بنيه عوضاً عنه، فيشترون ما يكفيهم من الحنطة شهراً أو شهرين أو ثلاثة، وكان عزيز مصر وخدامه، هم من ينوبون الملك في قبض الأموال والعروض من الناس، واعطائهم الحنطة بدلاً منها.

وقوله: (ائْتُونِي بِأَخٍ لَّكُم مِّنْ أَبِيكُمْ) كأن يوسف لما ملأ أوعيتهم من الحنطة، اظهر لهم أنه ارتاح لهم واطمأن إليهم، فاستضافهم، وأكرم نزلهم، وأخذ يسألهم عن المكان الذي قدموا منه، وعن أهلهم، وهو يرجوا من خلال ذلك أن يأتوا على ذكر اسم أخيه بنيامين، لأنه لم يكن معهم، فقد كان أبوه يمنعه من الذهاب معهم خشية منهم عليه، فما زال يسألهم ويحادثهم حتى أخبروه أن لهم أخاً عند أبيهم، عندئذ استغل يوسف الفرصة، وقال لهم: كيف لم تأتوا به معكم لتزدادوا حمل بعير من الحنطة!

وقوله: (فَإِن لَّمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلاَ كَيْلَ لَكُمْ عِندِي وَلاَ تَقْرَبُونِ) قال هذا القول على هيئة الناصح لهم المشفق عليهم.

وقوله: (وَقَالَ لِفِتْيَانِهِ اجْعَلُواْ بِضَاعَتَهُمْ فِي رِحَالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَا إِذَا انقَلَبُواْ إِلَى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) أمر خدامه أن يردوا إليهم ما دفعوه من فضة أو عروض مقابل الحنطة، من حيث لا يشعرون، فتكون الحنطة لهم بالمجّان، مما يجعلهم يفرحون ويعودون مرة أخرى بأخيهم.

وقوله: ( يَا أَبَانَا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ) أي: منع منا الكيل فوق الكيل الذي كِيلَ لنا، ولم يكل لكل رجُلٍ منّا إلا كيل بعير

وقوله: (فَأَرْسِلْ مَعَنَا أَخَانَا نَكْتَلْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) أي: بنيامين يكتلَ لنفسه كيلَ بعير آخر زيادة على كيل أباعِرِنا (وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) من أن يناله مكروه في سفره.

وقوله: (قَالُواْ يَا أَبَانَا مَا نَبْغِي) أي: ماذا نريد، لقد أُعْطِينا الحنطة بالمجّان، وفرحوا بذلك أشد الفرح.

وقوله: (ذَلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ) أي: مقدار يسير.

وقوله: (إِلاَّ أَن يُحَاطَ بِكُمْ) أي: إلّا أن يُقضى عليكم جميعاً.

ثم قال تعالى: (وَقَالَ يَا بَنِيَّ لاَ تَدْخُلُواْ مِن بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُواْ مِنْ أَبْوَابٍ مُّتَفَرِّقَةٍ وَمَا أُغْنِي عَنكُم مِّنَ اللَّهِ مِن شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ وَلَمَّا دَخَلُواْ مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُم مَّا كَانَ يُغْنِي عَنْهُم مِّنَ اللَّهِ مِن شَيْءٍ إِلاَّ حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِّمَا عَلَّمْنَاهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ)

قوله: (وَادْخُلُواْ مِنْ أَبْوَابٍ مُّتَفَرِّقَةٍ) قال ذلك خشية عليه من العين.

وقوله: (مَّا كَانَ يُغْنِي عَنْهُم مِّنَ اللَّهِ مِن شَيْءٍ) أي: إنما هذا سببٌ قام به يعقوب، ولو شاء الله ما نفعهم.

وقوله: (إِلاَّ حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا) أي: أنما أراد أن يقوم بالسبب، ليطمئن أنه لم يقصّر في الأخذ بالأسباب التي وضعها الله تعالى لعباده ليتسببوا بها.

وقوله: (لَذُو عِلْمٍ لِّمَا عَلَّمْنَاهُ) أي: أنه عليمٌ بما علمناه، من وجوب الأخذ بالأسباب، عارفٌ بما ينفعه وما يضرّه. 

ثم قال تعالى: (وَلَمَّا دَخَلُواْ عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَخَاهُ قَالَ إِنِّي أَنَاْ أَخُوكَ فَلاَ تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ فَلَمَّا جَهَّزَهُم بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ قَالُواْ وَأَقْبَلُواْ عَلَيْهِم مَّاذَا تَفْقِدُونَ قَالُواْ نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ وَلِمَن جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَاْ بِهِ زَعِيمٌ قَالُواْ تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُم مَّا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الأَرْضِ وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ قَالُواْ فَمَا جَزَاؤُهُ إِن كُنتُمْ كَاذِبِينَ قَالُواْ جَزَاؤُهُ مَن وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاء أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِن وِعَاء أَخِيهِ كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلاَّ أَن يَشَاء اللَّهُ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مِّن نَّشَاء وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ) 

قوله: (آوَى إِلَيْهِ أَخَاهُ) أي: انفرد بأخيه بنيامين في موضع لوحدهما.

وقوله: (فَلاَ تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ) أي: أنهم كانوا يسيئون لبنيامين، لأنه شقيق يوسف، ولأن أباه صار يحبه أكثر منهم أيضاً.

وقوله: (السِّقَايَةَ) وهي الصاع الذي يكيل به الشعير.

وقوله: (فِي رَحْلِ أَخِيهِ) أي: في الوعاء الذي أعده أبوه له ليملأه قمحاً، وكان الوعاء موضوعاً على بعير، وهي راحلة بنيامين.

وقوله: (وَأَقْبَلُواْ عَلَيْهِم) أي: أقبل إخوة يوسف ورفاقهم ومن حضر للميرة.

وقوله: (وَأَنَاْ بِهِ زَعِيمٌ) أي: كفيل، أن أعطيه حمل بعير من القمح.

وقوله: (فَهُوَ جَزَاؤُهُ) أي: فهو، أي: السارق، يسترق ويستعبد جزاء سرقته.

وقوله: (مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ) أي: لم يكن هذا في شريعة ملك مصر، أن يستعبد السارق بسرقته، وإنما جعل الله تعالى إخوة يوسف يقولون ذلك، ليتسنى ليوسف انتزاع أخيه من بين أيديهم.

ثم قال تعالى: (قَالُواْ إِن يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَّهُ مِن قَبْلُ فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ قَالَ أَنتُمْ شَرٌّ مَّكَانًا وَاللَّهُ أَعْلَمْ بِمَا تَصِفُونَ قَالُواْ يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ أَن نَّأْخُذَ إِلاَّ مَن وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِندَهُ إِنَّا إِذًا لَّظَالِمُونَ فَلَمَّا اسْتَيْأَسُواْ مِنْهُ خَلَصُواْ نَجِيًّا قَالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُواْ أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُم مَّوْثِقًا مِّنَ اللَّهِ وَمِن قَبْلُ مَا فَرَّطتُمْ فِي يُوسُفَ فَلَنْ أَبْرَحَ الأَرْضَ حَتَّىَ يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ ارْجِعُواْ إِلَى أَبِيكُمْ فَقُولُواْ يَا أَبَانَا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَمَا شَهِدْنَا إِلاَّ بِمَا عَلِمْنَا وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا وَإِنَّا لَصَادِقُونَ) 

قوله: (قَالُواْ إِن يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَّهُ مِن قَبْلُ) أي: أنهم كانوا قد اتهموا يوسف وهو صغير بالسرقة، ولم يكن سرق.

وقوله: (فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ) أي: قال ذلك في نفسه.

وقوله: (وَاللَّهُ أَعْلَمْ بِمَا تَصِفُونَ) أي: الله أعلم بأنكم ظالمون لي بتلك التهمة.

وقوله: (خَلَصُواْ نَجِيًّا) أي: انفردوا يتناجون بينهم.

وقوله: (فَلَنْ أَبْرَحَ الأَرْضَ حَتَّىَ يَأْذَنَ لِي أَبِي) أي: لن أغادر مصر، حتى يأذن لي أبي بالعودة إليه.

وقوله: (وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ) أي: لم نكن نعلم الغيب.

وقوله: (وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ) أي: أهل القرية.

وقوله: (وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا) أي: أهل العِيْر.

وحُذِفت كلمة "أهل" لأن سياق الجُملَة يدلّ عليه، والعرب تحذف ما تستغني عن ذكره من الكلمات اختصاراً، إذا كان سياق الجُملة يدلّ عليه، فالقرية لا تتكلم، والعِيْر لا تتكلم بكلام تفهمه البشر، فدلّ هذا على وقوع الحذف في الجملة، وأن المراد هو أهل القرية، وأهل العِيْر.

ثم قال تعالى: (قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَن يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ قَالُواْ تَاللَّه تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ)

قوله: (قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا) أي: أنه شك في أمرهم، ولم يصدقهم، وظن أنهم كادوا ببنيامين كما كادوا بيوسف.

وقوله: (يَا أَسَفِي) كلمة تندّم، أي: ياندمي.

وقوله: (وَابْيَضَّت عَيْنَاه) أي: عميت.

وقوله: (كَظِيْم) أي: لا يستطيع أن يتخلّص من حزنه.

وقوله: (حَرَضَاً) أي: تسقم ويضعف جسدك.

ثم قال تعالى: (يَا بَنِيَّ اذْهَبُواْ فَتَحَسَّسُواْ مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلاَ تَيْأَسُواْ مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ فَلَمَّا دَخَلُواْ عَلَيْهِ قَالُواْ يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُّزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ قَالَ هَلْ عَلِمْتُم مَّا فَعَلْتُم بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنتُمْ جَاهِلُونَ قَالُواْ أَإِنَّكَ لَأَنتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَاْ يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَنَّ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ قَالُواْ تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِن كُنَّا لَخَاطِئِينَ قَالَ لاَ تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ اذْهَبُواْ بِقَمِيصِي هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيرًا وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ) 

قوله: ( رَّوْحِ اللَّهِ) أي: فرج الله وغوثه.

وقوله: (لاَ تَثْرِيبَ) أي: لا توبيخ ولا شماتة.

ثم قال تعالى: (وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلاَ أَن تُفَنِّدُونِ قَالُواْ تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ فَلَمَّا أَن جَاءَ الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيرًا قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ قَالُواْ يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّيَ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ فَلَمَّا دَخَلُواْ عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقَالَ ادْخُلُواْ مِصْرَ إِن شَاء اللَّهُ آمِنِينَ وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّواْ لَهُ سُجَّدًا وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِن قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُم مِّنَ الْبَدْوِ مِن بَعْدِ أَن نَّزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِّمَا يَشَاء إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَنتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ ذَلِكَ مِنْ أَنبَاء الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُواْ أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ)

قوله: (تُفَنِّدُوُن) أي: تتهمونني بالكِبَر والخَرَف.

وقوله: (قَالُواْ تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ) أي: على ما كنت عليه من تذكّر يوسف ورجاء لقياه.

وقوله: (فَلَمَّا أَن جَاءَ الْبَشِيرُ) البشير، هو أحد أبناءه.

وقوله: ( آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ) أي: أباه وأمه، وفي هذا ردٌ على رواة اليهود، الذي يزعمون أن أم يوسف كانت قد ماتت، وأن خالته هي المعنيّة بالسجود هنا، لأن وصف الأبوة، إنما يطلق على الأب والأم، للتغليب.

وقوله: (وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ) أي: رفعهم إلى أمام عرشه الذي يجلس عليه.

وقوله: (وَخَرُّواْ لَهُ سُجَّدًا) أي: والديه وإخوته، وكانوا ثلاثة عشر نفساً.

وفي هذه الآية، ردٌّ على رواة اليهود، الذين يزعمون أن راحيل ماتت ويوسف وأخوه صغيران، فقد أخبرنا ربنا تبارك وتعالى أن أبوي يوسف سجدا له على العرش، والأبوين يطلق في لغة العرب على الأب والأم، كما يطلق على الأب والعمّ، لأن العمّ في مقام الأب، ولم يرد أن العرب يطلقون على الأب والخال أو على الأب والخالة أبوين، فدل على أن من سجد ليوسف هو أبوه وأمه على الحقيقة.

ثم إنه لا يقال للأم على انفراد بأنها أب، كما لا يقال للعمّ على انفراد بأنه أب، إنما ينعتان بالأبوة إذا أضيفا إلى الأب الوالد تغليباً.

وقوله تعالى: (إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ) يدلّ على أن لينة وبيلهة وزيلفة، لم يكُنَّ حاضرات، ولا يمكن القول بأنهن لم يقدمن مع يعقوب وأبنائهن إلى مصر، فالأظهر، أنهن كُنَّ قد توفِيْنَ قبل هجرة يعقوب إلى مصر.