خلق السماوات والأرض

قال تعالى في سورة هود: (وَهُوَ الَّذِي خَلَق السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاء)

قوله: (وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاء) أي: أن خلق الماء والعرش متقدم على خلق السماوات والأرض.

وبدلالة حديث عبدالله بن عمر، فإن خلق السماوات والأرض، تم بعد خلق القلم والكتاب، بخمسين ألف سنة.

فيكون أول ما خلق الله تعالى الماء، ثم العماء، ثم العرش، ثم القلم والكتاب، ثم السماوات والأرض.

فما فرغ الله تعالى من كتابة المقادير، بدأ في خلق السماوات والأرض.

قال تعالى في سورة الأنبياء: (أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ)

قوله: (رَتْقًا) أي: شيئاً واحداً.

وقوله: (فَفَتَقْنَاهُمَا) أي: فصلناهما، وأبنّا بعضها عن بعض.

وفي هذه الآية، دليل على أن السماوات والأرض كانتا شيئاً واحداً، ثم فصل الله تبارك وتعالى بينها، وفي هذا دليل على أن خلق الأرض والسماء كان متزامناً، وفي وقت واحد.

وبما أن الماء هو أصل المخلوقات جميعاً، فهذا يدل على أن الأرض والسماوات خلقتا من ماء.

وقال تعالى في سورة فصّلت: (قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِن فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاء لِّلسَّائِلِينَ ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاء أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ)

وقوله: (خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ) أي: أن الله تعالى أتم خلق الأرض يابستها وبحارها في يومين.

وقوله: (وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِن فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاء لِّلسَّائِلِينَ) أي: أن الله تعالى خلق الجبال والمياه العذبة والنباتات والدواب، بعد الفراغ من خلق الأرض، وأنه أتمّ ذلك في يومين أخرين، فهذه أربعة أيّام سواء للسائلين.

وقد جاء خلق الجبال والأقوات مقروناً بواو المعيّة، فكأن الله تعالى بدأ خلق الجبال وإلقائها في الأرض، وخلق الأقوات في وقت واحد.

وقوله: ( ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء وَهِيَ دُخَانٌ) أي: أن الله تعالى خلق السماء أوّل ما خلقها من دخان، وهو بخار الماء، أي: أنه لما خلق الماء الذي خلق منه السماء والأرض، أصعد من ذلك الماء دخان، فخلق منه السماء سقفاً واحداً، وذلك في اليوم الأول، الذي بدأ فيه خلق السماء والأرض، وفي الوقت ذاته، كان يخلق من جوف ذلك الماء التربة، فما زالت التربة تربو حتى طغى بعضها على ذلك الماء، المتبقي من الدخان، فجعل منه اليابسة وقيعان البحار، وما فضُل من ذلك الماء، جعل الله منه البحار.

ومعنى أستوى: أي: اعتدل في توجهه وقصده.

وقوله: (فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ) أي: أنه لم يسوي السماء سبع سماوات، إلّا بعد أن فرغ من خلق الأرض وجميع ما فيها، فجمع دخانها، وجعلها سميكة صُلبة، وفتقها إلى سبع سماوات.

وهي طباق، بعضها فوق بعض.

قال تعالى في سورة الملك: (الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا مَّا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِن تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِن فُطُورٍ)

قوله: (طِبَاقاً) أي: بعضها فوق بعض.

وقوله: (مِنْ فُطُورٍ) أي: من تشقق، ومعنى تفطّر، أي: تشقق.

وقال تعالى في سورة نوح: (أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا)

وقال تعالى في سورة النبأ: (وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا)

فبيّن في هذه الآيات، أن السماوات سبع طباق، أي: بعضها فوق بعض، وهذا دليل على أنها متباينة منفصلة.

وقوله تعالى في سورة نوح: (وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا) إنما هذا على المجاز، أي: أن الله تعالى خلق القمر والشمس في السماء الدنيا، أي: جهة السماء الدنيا، وليس معناه أنهما ملاصقان لها، ليكونا نوراً وسراجاً لأهل الأرض. فقال: في السماوات، بدل أن يقول: في السماء، لأنه إذا كان في إحداهن، وهي السماء الدنيا، فكأنما كان فيهن كلهنّ، لأن السماء كالأخوات، إذا فعلت إحداهن فعلاً، قلن الباقيات: كلّنا فعل ذلك. فالقمر والشمس يوم كانا في السماء الدنيا، فكأنما كانا في جميع السماوات. فقوله: (وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا) أي: خلقه فيهن نوراً لأهل الأرض، وقوله: (وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا) أي: خلقه فيهن سراجاً لأهل الأرض.

وقوله: (وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاء أَمْرَهَا) أي: أوحى في كل سماء ما خلقت من أجله.

وقوله: (وَزَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا) أي: أن خلق النجوم وهي الكواكب، تمّ بعد الفراغ من خلق السماوات السبع أو معها.

قال تعالى في سورة الأنعام: (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُواْ بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ)

وقال تعالى في سورة الملك: (وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِّلشَّيَاطِينِ وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ)

وقال تعالى في سورة الطلاق: (اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا)

قوله تعالى: (مِثْلَهُنَّ) أي: مثلهن في العدد، فهي سبع أراضين، ولكن ما المراد بالسبع أراضين، هل هي قارات العالم السبع، أم المراد بذلك أن الأراضين طباق بعضها فوق بعض مثل السماوات؟ 

والجواب: أن الآيات تشير إلى أن الأرض واحدة، ومقسمة إلى سبع قطع، هي قارات العالم السبع، والدليل على ذلك، أن الله دائماً ما يشير إلى الأرض بصيغة المفرد، بينما يشير إلى السماوات بصيغة الجمع، فدلّ هذا على أن الأرض واحدة، ليس هناك أرض أخرى، وأنها مقسمة إلى سبع قطع، فهي مثل السماوات في العدد، وليست مثلها في التطابق، هذا هو ما ترجّح لدي.

وقال تعالى في سورة النازعات: (أَأَنتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاء بَنَاهَا رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا وَالأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا مَتَاعًا لَّكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ)

قوله: (أَأَنتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاء بَنَاهَا رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا) أي: دليل على أن السماء خلقت قبل دحي الأرض، وإرساء الجبال، ولكنها خلقت سقفاً واحداً من دخان، كما ذكرت سابقاً.

وقوله: (وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا) فيه إشارة إلى خلق النهار والظلمة، والشمس والقمر.

وقوله تعالى: (وَالأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا) أي: أن خلق الشمس والقمر تمّ قبل دحي الأرض، لأن الله قال: (بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا) أي: بعد بناء السماء وخلق الشمس والقمر، وهذا يعني أن الشمس والقمر، خلقتا في اليومين الأولين، وبعد الفراغ من خلق الأرض يابستها وبحارها.

وقوله: (دَحَاهَا) أي: ملئها، والدحي هو التوسعة والملء والتعبئة، والمراد به هنا هو الملء والتعبئة، وقد ملئها بالماء العذب والنباتات، قال تعالى: (أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا) وقوله تعالى (أَخْرَجَ) أي: أظهرها من الأرض، والمراد بمائها هنا، هو ماء الينابيع والأنهار، وأما مياه البحار، فهو مما فضل من الماء الأول، الذي خلقت منه التربة والسماء.

وقوله تعالى: (وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا) تقدم أن خلق الجبال والأقوات، والأقوات هي المياه العذبة والنباتات، جاء مقروناً بواو العطف، وواو العطف لا تقتضي التعقيب والترتيب، لذلك وقع ذكر خلق الجبال في سورة فصّلت قبل خلق الأقوات، وجاء ذكر خلقها في سورة النازعات بعد خلق الأقوات، لذلك علمنا أن الواو هنا وفي سورة فصلت، هي واو المعيّة، أي: أنه بُدِءَ خلقها مع بعض، في وقت واحد.

قال تعالى في سورة النبأ: (أَلَمْ نَجْعَلِ الأَرْضَ مِهَادًا وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا)

أي: أن الجبال إنما خلقت لتحافظ على توازن الأرض، فلا تميد بأهلها، أي: لا تضطرب. ومعنى تضطرب: أي: تتزلزل، وإذا تزلزلت لن يستقرّ عليها خلق.

وأما الرياح، فلم يذكر الله تعالى ولا رسوله متى خلقت، ولكن على الأرجح أنها خلقت قبل خلق النباتات، لأن النباتات لا تعيش إلا بما في التربة والماء والشمس والرياح من عناصر، وقد يكون خلقها تم أثناء تصاعد الدخان من الماء، فخلق من جزء من ذلك الدخان الرياح.

وقال تعالى في سورة ق: (وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِن لُّغُوبٍ)

قوله: (لُّغُوبٍ) أي: تعب، فمعنى الآية، أن الله لم ينله تعب بسبب خلقه للسماوات والأرض، لكمال قوته سبحانه وتعالى.

وقال تعالى في سورة الأعراف: (إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ)

وفي هذه الآية، دليل على أن الله تبارك وتعالى أتمّ خلق السماوات والأرض في ستة أيّام، فالأيّام الستة، هي الأيّام التي خلق الله تعالى فيها السماوات والأرض فقط، وأما خلق الماء والعرش والقلم والكتاب والجنّة والنار والملائكة والجن والإنس، فخارج الأيام الستّة.

وحرف "ثم" يفيد التبعية مع التراخي، أي: أن الله تعالى لم يستوي على عرشه المجيد إلّا بعد أن أتم خلق السماوات والأرض.

ومعنى (اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ) أي: اعتدل في علوه وصعوده واستقراره جالساً وقاعداً على العرش.