ونأتي هنا إلى ذكر طوائف الملائكة وما ورد فيهم من الآيات والأحاديث.
فمنهم الملائكة حملة العرش ومن حوله
قال اللهُ تعالى في سورة غافر: (الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ)
قوله: (الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ) يدل على أن هناك طائفة من الملائكة يحملون العرش، وطائفة أخرى مقيمون حول العرش، عملهم، يسبّحون الله تعالى ويحمدونه ويؤمنون به ويستغفرون للذين آمنوا من الجن والإنس.
وقال الله تعالى في سورة الحاقة: (وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ)
وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أذن لي أن أحدث عن ملك من ملائكة الله تعالى من حملة العرش أن ما بين شحمة أذنه إلى عاتقه مسيرة سبعمائة عام".
رواه أبو داود بسند حسن.
وفي رواية عند الطبراني في المعجم الأوسط: "سبعين" بدل "سبعمائة". وهو الأرجح، فقد علم أن من طبيعة الرواة، المبالغة في الأوصاف والأعداد، يقع هذا من بعضهم سهواً، ويقع من بعضهم عمداً، وهذا الحديث على كل حال حسن الإسناد، لذلك فهناك احتمال كبير، أن يكون موضوعاً، وضعه القصّاص للتهويل.
وعن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " .. ولكن ربنا تبارك وتعالى اسمه، إذا قضى أمرا سبح حملة العرش، ثم سبح أهل السماء الذين يلونهم، حتى يبلغ التسبيح أهل هذه السماء الدنيا» ثم قال الذين يلون حملة العرش لحملة العرش: ماذا قال ربكم؟ فيخبرونهم ماذا قال، قال: فيستخبر بعض أهل السماوات بعضا، حتى يبلغ الخبر هذه السماء الدنيا.. ".
رواه مسلم.
ولا يدرى كم حملة العرش اليوم، وجميع الأحاديث الواردة في عددهم اليوم ضعيفة، وبعضها مأخوذ من أساطير أهل الكتاب، ووهموا في رفعه.
كمن يقول بأن حملة العرش أربعة، ملك على صورة إنسان وملك على صورة ثور وملك على صورة نسر وملك على صورة أسد، وكمن يقول بأن حملة العرش اليوم ثمانية ملائكة على صورة أوعال.
وقد علم بطلان هذه الأحاديث، مما عرف عن الملائكة من حسن الصورة وجمال الهيئة، وليس هناك أقبح من مسوخ على صور ثور أو نسر أو أسد أو وعل! وحملة العرش أولى الملائكة بحسن الصورة وجمال الهيئة، لشدّة قربهم من المولى عزّ وجل.
فكل هذه على الأرجح، ليست سوى من موضوعات القصّاص، ووضعوا لها أسانيد لتروج بين الناس، فتلقفها رواة الحديث ووضعوها في كتبهم، وحسبك أن جميع أسانيدها ضعيفة، ومتونها تدل على أنها موضوعة.
ولكن يوم القيامة يكونون ثمانية، كما قال تعالى في سورة الحاقة: (وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ)
وثمانية جاءت هنا مبهمة، فلا يدرى أهم ثمانية أفراد أم ثمانية صفوف.
والراجح أنهم ثمانية صفوف.
لما صحّ عن عبدالله بن عباس، الصحابي، أنه قال: "ثمانية صفوف من الملائكة لا يعلم عدتهم إلا الله".
رواه عبدالله بن حنبل في السنة، والطبري في تفسيره، بأسانيد حسنه وضعيفة، يقويّ بعضها بعضاً، إلى درجة الصحّة.
ومنهم الملائكة الحجبة
عن أنس بن مالك، في حديث الشفاعة الطويل، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " فأستأذن على ربي في داره فيؤذن لي عليه، فإذا رأيته وقعت ساجدا".
رواه البخاري.
وقوله: "فأستأذن على ربي في داره، فيؤذن لي عليه" دليل على أن لهذه الدار حجبة، يحجبون الله تعالى، ولا يسمحون لأحد من ملائكة الله أو أنبياءه بالولوج على الله تعالى في داره، إلّا بعد أن يأخذوا هم الإذن من الله تعالى له بالدخول، فإن أذن الله تعالى له أدخلوه، وإن لم يأذن له صرفوه.
ومنهم الملائكة خزّان الجنّة
قال اللهُ تعالى في سورة الزمر: (وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إلى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ)
وعن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "آتي باب الجنة يوم القيامة فأستفتح، فيقول الخازن: من أنت؟ فأقول: محمد، فيقول: بك أمرت لا أفتح لأحد قبلك".
رواه مسلم.
وعن أبي هريرة، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من أنفق زوجين في سبيل الله دعاه خزنة الجنة كل خزنة باب: هلم .. ".
رواه البخاري ومسلم.
الخزنة جمع خازن، وهو المؤتمن على الشيء.
فالخزنة، هم طائفة من الملائكة، موكلون بالجنّة.
وأما ما روي عن عبدالله بن عباس من أن الجِنّ، هم خزنة الجنّة، وأنهم من الملائكة، وأن إبليس كان رئيسهم، فهذا كله من الموضوعات، التي وضعها القصّاص، فخزنة الجنّة، طائفة من الملائكة، مخلوقون من نور، كسائر الملائكة، وليس للجن علاقة بهم، لا من قريب ولا من بعيد.
ومنهم الملائكة خزنة النار
قال اللهُ تعالى في سورة الزمر: (وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إلى جَهَنَّمَ زُمَرًا حتَّى إِذَا جَاؤُوها فُتِحَتْ أبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا)
وقال اللهُ تعالى في سورة غافر: (وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِنَ الْعَذَابِ قَالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا بَلَى قَالُوا فَادْعُوا وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ)
وقال اللهُ تعالى في سورة الملك: (تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ)
وعن عبدالله بن عباس، قال: "كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي، فجاء أبو جهل فقال: ألم أنهك عن هذا؟ ألم أنهك عن هذا؟ ألم أنهك عن هذا؟ فانصرف النبي صلى الله عليه وسلم فزبره ، فقال أبو جهل: إنك لتعلم ما بها ناد أكثر مني، فأنزل الله: (فَلْيَدْعُ نَادِيَهْ سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ) [العلق] فقال ابن عباس: فوالله لو دعا ناديه لأخذته زبانية الله".
وفي رواية: (أخذته زبانية العذاب من ساعته).
والزبانية، جماع زبن وزابن، ومعناه: الدفع، وسمي بذلك بعض الملائكة؛ لدفعهم أهل النار إليها.
وقال تعالى في سورة المدّثر: (عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ)
أي عليها تسعة عشر قائداً، ومالك رئيسهم كلهم.
ومنهم ملائكة الموت
وهم نوع من الملائكة، مكلّفون بقبض أرواح الموتى.
قال تعالى في سورة الأعراف: (حَتَّى إِذَا جَاءَتهُم رُسُلُنَا یَتَوَفَّونَهُم)
قال اللهُ تعالى في سورة الأنعام: حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ * ثُمَّ رُدُّوا إلى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ أَلا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ)
وقال اللهُ تعالى في سورة السجدة: (قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ)
عن عبدالله بن عباس، الصحابي قال: "إن لملك الموت أعوانًا من الملائكة".
رواه الطبري.
عن قَتادة بن دعامة، التابعي قال: "ملك الموت يتوفاكم، ومعه أعوان من الملائكة".
رواه الطبري.
وعن قتادة أيضاً قال: "إن ملك الموت له رسل، فيرسل ويرفع ذلك إليه".
رواه الطبري.
وعن إبراهيم النخعي، التابعي قال: "الرسل توفَّى الأنفس، ويذهب بها ملك الموت".
رواه الطبري وابن أبي حاتم.
وعن أبي جعفر الرازي قال: سألت الربيع بن أنس – التابعي - عن ملك الموت، أهو وحده الذي يقبض الأرواح؟ قال: "هو الذي يلي أمرَ الأرواح، وله أعوان على ذلك، ألا تسمع إلى قول الله تعالى ذكره: (حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ)، وقال: (تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ)، غير أن ملك الموت هو الذي يسير كل خطوة منه من المشرق إلى المغرب". قلت: أين تكون أرواح المؤمنين؟ قال: "عند السدرة في الجنة".
رواه الطبري.
وقوله: "عند السدرة في الجنة" فيه نظر، لأنه ورد في الروايات أن السدرة فوق السماء السابعة، قريب من الجنة، وليست في الجنة.
وعن البراء بن عازب، في حديث قبض الأرواح وفتنتها، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن العبد المؤمن إذا كان في انقطاع من الدنيا، وإقبال من الآخرة، نزل إليه ملائكة من السماء بيض الوجوه، كأن وجوههم الشمس، معهم كفن من أكفان الجنة، وحنوط من حنوط الجنة، حتى يجلسوا منه مد البصر، ثم يجيء ملك الموت عليه السلام، حتى يجلس عند رأسه، فيقول: أيتها النفس الطيبة، اخرجي إلى مغفرة من الله ورضوان" .. إلى أن قال: " وإن العبد الكافر إذا كان في انقطاع من الدنيا، وإقبال من الآخرة، نزل إليه من السماء ملائكة سود الوجوه، معهم المسوح، فيجلسون منه مد البصر، ثم يجيء ملك الموت حتى يجلس عند رأسه، فيقول: أيتها النفس الخبيثة، اخرجي إلى سخط من الله وغضب" .. الحديث.
رواه أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي.
وعلى هذا، فقول إبراهيم النخعي: "يذهب بها ملك الموت" فيه نظر، والصواب: أن ملك الموت الرئيس، له قوّاد، وكل قائد له أعوان، وهم قسمان: قسم موكل بقبض أرواح المؤمنين، ووجوهم كالشمس وضاءة وجمالاً، وقسم موكل بقبض أرواح الكافرين، سود الوجوه. فيأخذ ملك الموت الرئيس أسماء الموتى في اليوم الذي يُتوفّون فيه، من الله تعالى مباشرة، إما مشافهة أو مناولة في ورقة أو ما شابه، فيجمع ملك الموت الرئيس قواده ويناول كل واحدٍ منهم اسماً، فينطلق بأعوانه حتى يأتي إلى الشخص المراد قبض روحه، فيقبض روحه، ويناولها أعوانه، فيصعد بها أعوانه إلى السماء.
ومنهم الملائكة فتانوا القبور
وهم نوع يقال لهم: المنكر والنكير.
إذا مات الرجل جاءه ملك من المنكر وملك من النكير، ففتناه في قبره.
عن أنس بن مالك، أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا وُضِع العبد في قبره، وتولى عنه أصحابه حتى إنه ليسمع خفق نعالهم، أتاه ملكان فيقعدانه في قبره" .. الحديث.
رواه أبو بكر بن أبي عاصم
وعن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا قبر أحدكم أتاه ملكان أسودان أزرقان، يقال لأحدهما: المنكر، والآخر: النكير" .. الحديث.
رواه الترمذي والحارث وأبو بكر بن أبي عاصم..
وعن أبي سعيد الخدري، قال: كنا مع نبينا صلى الله عليه وسلم في جنازة فقال: "يا أيها الناس إن هذه الأمة تبتلى في قبورها، فإذا الإنسان دفن، فتفرق عنه أصحابه، جاءه ملك في يده مطراق، فأقعده" .. الحديث.
رواه أحمد وأبو بكر بن أبي عاصم.
وقوله: "جاء ملك في يده مطراق فأقعده" أي: أن أحد الملكين، معه مطراق.
وعن جابر بن عبدالله، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا دخل المؤمن قبره، فأتاه ملكان، فانتهراه، فيقوم يهب كما يهب النائم" .. الحديث.
رواه أحمد وأبو بكر بن أبي عاصم.
والدليل على أن المنكر والنكير نوع، هو أنه قد يفتن الفئام من الناس في قبورهم في نفس الوقت، وفي أراضٍ متباعدة، فمحال أن يقال بأن المنكر والنكير شخصان منفردان، بل كل ميت يفتن في قبره، يأتيه ملك من المنكر وملك من النكير، فيفتنانه.
ومنهم الملائكة الحفظة
قال اللهُ تعالى في سورة الزخرف: (أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُـمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ)
وقال تعالى في سورة الانفطار: (وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ كِرَامًا كَاتِبِينَ يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ)
وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قال الله عز وجل: إذا هم عبدي بسيئة فلا تكتبوها عليه، فإن عملها فاكتبوها سيئة، وإذا هم بحسنة فلم يعملها فاكتبوها حسنة، فإن عملها فاكتبوها عشرا".
رواه البخاري ومسلم.
وفي رواية، قال: "قالت الملائكة: رب ذاك عبدك يريد أن يعمل سيئة -وهو أبصر به- فقال: ارقبوه، فإن عملها فاكتبوها له بمثلها، وإن تركها فاكتبوها له حسنة؛ إنما تركها من جراي".
رواه مسلم.
قوله: "من جِراي" بكسر الجيم المعجمة، مخفّفة من جَرّائي، أي: بسببي ومن أجلي.
ومنهم الملائكة المعقبات
قال تعالى في سورة الرعد: (لَهُ مُعَقِّبَـات مِّن بَينِ یَدَیهِ وَمِن خَلفِهِ یَحفَظُونَهُ مِن أَمرِ اللَّهِ)
وقد اختلف في تأويل هذه الآية على قولين:
الأول: أن المراد بالمعقبات هم الكرام الكاتبين.
عن عبدالله بن عباس الصحابي قال: "هم الملائكة، تُعقِّب بالليل والنهار تكتب عمل ابن آدم".
رواه ابن أبي حاتم.
وعن عطاء بن رباح، التابعي قال: هم الكرام الكاتبون، حفظة من الله على ابن آدم، أُمِروا بذلك".
رواه ابن أبي حاتم.
والثاني: أن المراد بالمعقبات ملائكة خلقهم الله تعالى لحفظ بني آدم من أن ينالهم سوء حتى إذا جاء أمر الله خلّو بينه وبينها.
عن عبدالله بن عباس قال: "فالمعقبات هن من أمر الله، وهي الملائكة".
رواه الطبري.
وعن عبدالله بن عباس أيضاً قال: "ملائكة يحفظونه من بين يديه ومن خلفه، فإذا جاء قدره خَلَّوا عنه".
رواه الطبري وابن أبي حاتم.
وعن مجاهد بن جبر، التابعي قال: "مع كل إنسان حَفَظَةٌ يحفظونه من أمر الله".
رواه الطبري.
ومعنى قول عبدالله بن عباس ومجاهد هنا، أي: أن الله قيّض لكل آدمي، حفظة من الملائكة، يحفظونه من كل شر، فيحفظونه من شر الإنس والجن والدواب وغير ذلك، حتى إذا جاء قدر الله الذي قدّر أن يقع به، خلّوا بينه وبينه.
قلت: والآيات التي قبل هذه الآية، تفيد أن المراد بالمعقبات، هم الملائكة الكرام الكاتبين، الذين يحفظون أعمال العباد، والآيات التي بعدها، تفيد أن المعقبات، ملائكة يحفظون العباد من الشرور التي تحيق بهم.
وقوله تعالى: (مِن أَمرِ اللَّهِ) أي: بإذن الله.
ومنهم ملائكة الأرحام
عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله عز وجل وكل بالرحم ملكا، يقول: يا رب نطفة، يا رب علقة، يا رب مضغة، فإذا أراد أن يقضي خلقه قال: أذكر أم أنثى، شقي أم سعيد، فما الرزق والأجل، فيكتب في بطن أمه".
رواه البخاري ومسلم.
وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق: "إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوما، ثم يكون في ذلك علقة مثل ذلك، ثم يكون في ذلك مضغة مثل ذلك، ثم يرسل الملك فينفخ فيه الروح، ويؤمر بأربع كلمات: بكتب رزقه وأجله وعمله، وشقي أو سعيد".
رواه البخاري ومسلم.
وملك الأرحام اسم نوع، وليس اسم شخص، ذلك أنه في اللحظة الواحدة، وفي أماكن متباعدة، قد تبلغ آلاف الأجنة أربعة أشهر، ومحال أن يقال أن الذي ينفخ فيها الروح ويكتب جنسها وقدرها ملك واحد، فدلّ هذا على أن ملك الأرحام اسم نوع، وليس اسم شخص.
والذي يظهر لي أن ملائكة الأرحام مثل ملائكة الموت، لهم رئيس، يقبض أسماء الأجنة من الله تعالى مشافهة أو مناولة في ورقة أو ما شابه، ثم يقوم ملك الأرحام الرئيس، بتوزيع الأسماء على أعوانه، لأنه ليس له قواد كملك الموت، بل كلهم أعوان، وكل ملك ينطلق إلى من أمر به من الأرحام والأجنّة.
ومنهم الملائكة الموكلون بالجبال
عن عائشة رضي الله عنها أنها سألت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله، هل أتى عليك يوم كان أشد من يوم أحد؟ فقال: "لقد لقيت من قومك! وكان أشد ما لقيت منهم يوم العقبة، إذ عرضت نفسي على ابن عبد ياليل بن عبد كلال فلم يجبني إلى ما أردت، فانطلقت وأنا مهموم على وجهي، فلم أستفق إلا بقرن الثعالب، فرفعت رأسي فإذا أنا بسحابة قد أظلتني فنظرت فإذا فيها جبريل، فناداني، فقال: إن الله عز وجل قد سمع قول قومك لك، وما ردوا عليك، وقد بعث إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم، قال: فناداني ملك الجبال وسلم علي، ثم قال: يا محمد، إن الله قد سمع قول قومك لك، وأنا ملك الجبال وقد بعثني ربك إليك لتأمرني بأمرك، فما شئت، إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئا".
رواه البخاري ومسلم.
وفي هذا الحديث دليل على أن للجبال ملك يرعاها، ويقوم وينظم شؤونها، وهذا الملك الذي تكلَّم مع النبي صلى الله عليه وسلم، هو الرئيس، وله أعوان.
وهذا يفيدنا أن لكل أمة في الأرض والسماء ملائكة موكلون بها بأمر الله تعالى، ليس لهم من الأمر شيء، سوى أنهم يطيعون الله فيما يأمرهم به من الأوامر، فإذا جاءهم الأمر من الله قاموا به على الوجه الذي يرضي الله تعالى، بمشيئة الله.
ومنهم الملائكة السياحون الذين يبتغون حلق الذكر
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن لله ملائكة يطوفون في الطرق يلتمسون أهل الذكر، فإذا وجدوا قوما يذكرون الله تنادوا: هلموا إلى حاجتكم، فيحفونهم بأجنحتهم إلى السماء الدنيا، فيسألهم ربهم وهو أعلم منهم، ما يقول عبادي؟ قالوا: يقولون: يسبحونك ويكبرونك ويحمدونك ويمجدونك، فيقول: هل رأوني؟ فيقولون: لا والله ما رأوك، فيقول: وكيف لو رأوني؟! يقولون: لو رأوك كانوا أشد لك عبادة، وأشد لك تمجيدا وتحميدا، وأكثر لك تسبيحا، يقول: فما يسألوني؟، قال: يسألونك الجنة، يقول: وهل رأوها؟ يقولون: لا والله يا رب ما رأوها، يقول: فكيف لو أنهم رأوها؟! يقولون: لو أنهم رأوها كانوا أشد عليها حرصا، وأشد لها طلبا، وأعظم فيها رغبة، قال: فمم يتعوذون؟ يقولون: من النار، يقول: وهل رأوها؟ يقولون: لا والله يا رب ما رأوها، يقول: فكيف لو رأوها؟! يقولون: لو رأوها كانوا أشد منها فرارا، وأشد لها مخافة، فيقول: فأشهدكم أني قد غفرت لهم، يقول ملك من الملائكة: فيهم فلان ليس منهم، إنما جاء لحاجة! قال: هم الجلساء لا يشقى بهم جليسهم".
رواه البخاري ومسلم.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة وغشيتهم الرحمة وحفتهم الملائكة وذكرهم الله فيمن عنده".
رواه مسلم.
ومنهم الملائكة عمّار السماوات السبع
قال تعالى في سورة الزمر: (وَنُفِخَ فِی ٱلصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِی ٱلسَّمَـٰوَ ٰتِ وَمَن فِی ٱلۡأَرۡضِ إِلَّا مَن شَاۤءَ ٱللَّهُۖ ثُمَّ نُفِخَ فِیهِ أُخۡرَىٰ فَإِذَا هُمۡ قِیَام یَنظُرُونَ)
وقوله: (فَصَعِقَ مَن فِی ٱلسَّمَـٰوَ ٰتِ) يراد به الملائكة عمّار السماوات.
وفي حديث المعراج، عن أنس بن مالك، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " فاسْتَفْتَحَ جِبْرِيلُ، فقِيلَ: مَنَ أنْتَ؟ قالَ: جِبْرِيلُ، قيلَ: ومَن معكَ؟ قالَ: مُحَمَّدٌ، قيلَ: وقدْ بُعِثَ إلَيْهِ؟ قالَ: قدْ بُعِثَ إلَيْهِ، فَفُتِحَ لَنا" .. الحديث.
وفيه دليل على أن لكل سماء خازن من الملائكة، وأن لكل سماء باب يفتح ويغلق.
ومنهم الملائكة قرناء الإنس
قال تعالى في سورة ق: (وَقَالَ قَرِینُهُۥ هَـٰذَا مَا لَدَیَّ عَتِیدٌ)
قال قتادة: "الملك".
رواه الطبري.
أي: الملك الذي وكّل به، يأمره بالخير وينهاه عن الشر.
وعن عبد الله بن مسعود، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما منكم من أحد إلا وقد وكِّل به قرينه من الجن، وقرينه من الملائكة". قالوا: وإياك يا رسول الله؟ قال: "وإياي، ولكن الله أعانني عليه، فلا يأمرني إلا بخير".
رواه أحمد ومسلم.
فدلّت هذه الآية على أن لكل إنسان قرين من الملائكة، يأمره بالخير وينهاه عن الشر، وهو مقابل للقرين الشيطاني، الذي يأمر الإنس بالشر وينهاهم عن الخير، ثم الإنسان يطيع هذا أو ذاك.