سيرة يعقوب عليه السلام

قال تعالى في سورة الأنبياء: (وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلا جَعَلْنَا صَالِحِينَ)

وقوله: (وَهَبۡنَا لَهُۥۤ إِسۡحَـٰقَ وَیَعۡقُوبَ) أي: وهبنا له إسحاق، وبعده حفيده يعقوب، وكأن إبراهيم عليه السلام، أدرك ميلاد حفيده يعقوب، أو أنه بشّر به دون أن يراه.

وقوله: (نَافِلَةً) والنافلة، ما كان زيادة على الأصل، أي: وهبنا له ابنه إسحاق، ثم زدناه، ووهبنا له حفيده يعقوب.

قلت: وأهل الكتاب، يزعمون أن إسحاق أعقب ولدين توأمين، هما: عيسى ويعقوب، جاء في كتب اليهود، ما نصّه: "فَلَمَّا كَمُلَتْ ايَّامُهَا لِتَلِدَ اذَا فِي بَطْنِهَا تَوْامَانِ، فَخَرَجَ الاوَّلُ احْمَرَ كُلُّهُ كَفَرْوَةِ شَعْرٍ فَدَعُوا اسْمَهُ عِيسُوَ، وَبَعْدَ ذَلِكَ خَرَجَ اخُوهُ وَيَدُهُ قَابِضَةٌ بِعَقِبِ عِيسُو فَدُعِيَ اسْمُهُ يَعْقُوبَ". اهـ

وعيسو، هي اللفظة العبرانية لاسم: عيسى. 

وقولهم: "فَخَرَجَ الاوَّلُ احْمَرَ" أي: أبيض اللون، والعرب تطلق على الإنسان الأبيض اللون: أحمر. كما تطلق على من كان لونه أبيضاً: أعيس، ولذلك أسماه والده: عيسى، كون لونه أبيضاً.

وأما مؤرخوا المسلمين، فقد حرّفوا ترجمة الاسم إلى العيس، والعيص، لكيلا يشتبه اسمه باسم عيسى بن مريم عليهما السلام.

وقوله: "وَبَعْدَ ذلِكَ خَرَجَ أَخُوهُ وَيَدُهُ قَابِضَةٌ بِعَقِبِ عِيسُو، فَدُعِيَ اسْمُهُ يَعْقُوبَ" وفي هذا الخبر، دلالة على أن عيسى سبق يعقوب في الخروج من بطن أمه، وأن يعقوب جاء عقِبَه، لذلك سمّاه أبوه: يعقوب.

وهذا تصريح من أهل الكتاب، بأن اسم يعقوب مشتق من الإعقاب، وهذا يعني، أن اسم يعقوب اسم عربي محض، وهذا خلاف ما يدّعيه الجهلة من المتفقِّهَة المتعالمين، من المفسِّرين واللغويين، من أن اسم يعقوب، اسم أعجمي، وأنه لا يجوز البحث عن اشتقاق له في العربيَّة.

فإن كان هذا حقّاً – أي أن يعقوب له أخٌ توأم، اسمه: عيسى -  فهذا يعني، أن الله تعالى بشّر إبراهيم وسارة، بولادة ابنهما يعقوب، من ابنهما إسحاق، تخصيصاً دون عيسى، لما سوف يكرمه به من النبوّة.

وسمّاه الله تعالى إسرائيل، فكان من عقبه بنو إسرائيل. وإسرائيل كلمة مركبة من شِقّين، هما: إسراء، وتعني: الساري، وإيل، وتعني: الله عز وجل، فيكون معنى الاسم الإجمالي: الساري إلى الله، ويظهر أنه سُمّي بهذا الاسم، لأنه سرى ليلاً في سبيل الله، فسمّاه الله تعالى بهذا الاسم تكريماً له.

ويزعم رواة اليهود، أن يعقوب تزوج بامرأتين: 

الأولى: اسمها لينة، وأنجبت له: رأوبَيْن وهو أكبر أبنائه ويهودا ولاوي وشمعون وزبولون وياسَّاكر وبنتاً واحدة اسمها دينه.

والثانية راحيل، وأنجبت له ولدان هما: يوسف وبنيامين.

ثم يذكرون أنه تسرّى بجاريتين:

الأولى: اسمها بيلهة، وأنجبت له ولدان هما: دان ونفتال.

والثانية: اسمها زيلفة، وأنجبت له ولدان هما: جاد وأشير.

وهذه الأسماء حُرِّفت ألفاظها العربيَّة، بعد أن استعجمت ألسنت بني إسرائيل، وقد نقلت في ترجمتها العربية، بصيغتها الأعجمية المحرَّفة، ولا يمكننا معرفة الألفاظ العربيّة لأسماء أبناء يعقوب إلا بالظنّ والتخمين.

فأول أبناء يعقوب هو: راوبين، وأصل الاسم روبين، ولكنه رسم في التوراة المترجمة بالألف، وإذا علمنا أنه في العبرية الأعجمية يتم استبدال حرف الألف بحرف الياء، يظهر لنا أن أصل الاسم: روبّان. وأما الواو، فقد تبدو أنها ليست سوى ضمّة على حرف الألف، تم إشباعها في العبرية الأعجمية لتصبح واواً، فيكون الاسم: رُبَّان. إذا اسم ابن يعقوب، قد يكون: رُبَّان.

ويظهر أنه مشتق من "رَبِنْ" ومعناه: "شيء حديث أو جديد أو طري" قال ابن فارس في معجمه: "الراء والباء والنون إن* جُعِلت النونُ فيه أصليّةً فكلمةٌ واحدة، وهي الرُّبَّان. يقال: أخَذْتُ الشّيء برُبَّانِهِ، أي بجميعه. وقال آخَرون: رُبّان كُلِّ شيءٍ: حِدْثانُه. وقال ابنُ أحمر: وإنّما العَيْش برُبّانِهِ * وأنتَ من أفْنَانِه مُعْتَصِرْ. يريد برُبّانِه: بجِدَّتِه وطَراءَته." اهـ

فيكون اسم روبين، مشتق من الحّدّثّان والجِدَّة والطراوة، ويثبت ذلك ويدلّ عليه، أنه ورد في كتب أهل الكتاب، أن روبين، هو الابن البِكر ليعقوب عليه السلام، أي أحد أبناءه وأجدّهم وأطراهم، ولذلك سمّاه: رُبَّان، وحُرِّف في العبريّة إلى رُوبين.

والابن الثاني هو: يهودا، والذي يتضح بجلاء أنه محرّف عن اللفظة العربيّة لاسم: هود.

والابن الثالث هو: لاوي، وهو في العربية مشتق من اللوي، وهو اللفّ والدوران، ويظهر لي أنه محرّف عن اللفظة العربيّة لاسم: لؤي.

والابن الرابع هو: شمعون، فإذا علمنا أنه في العبرية الأعجمية قد يتم استبدال السين بالشين، واستبدال الألف بالواو، يظهر لنا أن شمعون، محرّف عن اللفظة العربيّة لاسم: سمعان.

والابن الخامس هو: زبولون، ويظهر أن هذا لاسم، محرّف عن اللفظة العربيّة لاسم: زُبْلان أو زُبالة، وقد سمّت العرب زُبَالة، منهم زُبالة بن عمرو بن تميم، وهي هنا إما تعني الرجل الذي يحمل الأشياء، فهو كالزبيل، أو الرجل القصير، قال ابن منظور: " والزَّبِيل والزِّنْبِيل: الجِراب، وقيل الوِعاء يُحْمل فيه، فإِذا جَمَعوا قالوا زَنابيل، وقيل: الزِّنْبِيل خطأ وإِنما هو زَبِيل، وجمعه زُبُل وزُبْلان. والزَّأْبَل: القصير؛ قال: حَزَنْبَل الحِضْنَيْن فَدْم زَأْبَل.

والابن السادس هو: ياساكر، وإذا علمنا أنه في العبرية الأعجمية قد يُستبدل حرف الشين بحرف السين، وأن الألف زائدة، فيكون الاسم محرّف عن اللفظة العربيّة لاسم: يشكر.

والابن السابع هو: دان، وهو اسم عربي، ويظهر أنه مشتق من الداني، وهو الهيِن.

والابن الثامن هو: نفتالي، ولم اهتد إلى ما يقاربه من الألفاظ العربيّة، إلّا أن تكون النون هنا زائدة، ويكون الاسم محرّف عن اللفظة العربيّة لاسم: فتَّال، وهو مشتق من الفتل. والعرب في بعض الأحيان قد يزيدون في الأسماء أو الألقاب أحرف لا معنى لها. فقد يكون هذا من ذاك.

والابن التاسع هو: جاد، وهو اسم عربي، مشتقٌ من الجِدّ. 

والابن العاشر هو: أُشير، ويتّضح أنه محرّف عن اللفظة العربيّة لاسم: عشير، وهو اسم عربي، مشتق من العِشرة، وقد يكون صوابه: عسير، لأنه في العبرية الأعجمية، يبدلون السين شيناً والعكس.

والابن الحادي عشر هو: يوسف، وهو مشتق من الأسف، وهو الغضب، قال تعالى: (فلما آسَفُونا انْتَقَمْنا منهم) وقد تكون مشتقة من الأسف وهو الحزن على أمر مضى. والأول أرجح، لأنه معنىً يدل على القوة، بينما المعنى الأخر يدل على الضعف، وليس الأنبياء بضعفاء.

والابن الثاني عشر هو: بنيامين، وهو اسم مركب من شِقيّن: "ابن" و "يامين" وابن تعني: ولد. ويامين تعني: اليمين، فاسم بنيامين، مشتق من ابن اليمين. ويراد باليمين هنا: اليُمن، وهو التوفيق، ويراد به: البركة، أي: ابن البركة.

ويزعم رواة اليهود، أن راحيل لم تلد ابنيها، إلا في وقتٍ متأخِّر، وكانت أخر من أنجب من زوجات وسراري يعقوب عليه السلام.

ويذكرون أن يوسف كان أكبر من شقيقه بنيامين، وعلى هذا، فيوسف يعتبر الابن الحادي عشر، في قائمة أبناء يعقوب، وهذا ما أشارت إليه الآيات القرآنية، الواردة في قصة يوسف.

وزعم رواة اليهود، أن لينة وراحيل أختان، وأن راحيل أم يوسف وبنيامين ماتت ويوسف وأخوه صغيران، وهذا من وضعهم.

فأما قولهم إن لينة وراحيل أختان: فإن الله تعالى، حرم الجمع بين الأخوات، فلم يحرمه في شرعنا ويبيحه في شرعهم.

وما حرم الله تعالى الجمع بين الأخوات، أو بين المرأة وعمتها، أو المرأة وخالتها، إلّا لما قد يقع بسبب ذلك من البغضاء وقطيعة الأرحام، وهذه العلّة لا تزول، فتبيّن أنها محرّمة في شرعنا وشرع من قبلنا.

 وما حرّم الله عزّ وجلّ نكاح الأمهات والأخوات وبنات الأخوات وبنات الإخوان والخالات والعمات، إلّا لأنه يستقبحه، فهو حرام منذ زمن آدم وإلى أن تقوم الساعة. 

ولم يحلّ الله سوى نكاح الأخوات، ولم يحلّه إلّا لضرورة عدم وجود نساء غيرهن، إن صحّ ما يزعمه القصّاص من أن الله أباح لأبناء آدم لصلبه نكاح أخواتهم، وإلّا فهو زعم لم يثبت، ثم حرّمه الله تعالى بعدُ، فهو حرام إلى يوم القيامة.

والصواب عندي، أنه إن كانت لينة وراحيل أُختان حقاً، فهذا يعني، أن يعقوب تزوّج لينة أولاً، ثم توفيت، ثم تزوج راحيل، كونها أمّ بنيه الصِغار.