الحِجْر هي منازل قبيلة ثمود، ولكن بعد ارتحال مسلمي ثمود من الحِجر، وهلاك كفارهم، توارثت بلادهم في الحِجر قبائل شتى.
وأقدم من ذكر أنه تملّك بلادهم من بعدهم، قومٌ يقال لهم: المعينيون، وهم شعب قدم من أقاصي اليمن، وكانت لهم دولة في اليمن تعرف بالدولة المعينية، ويظهر أن المعينيين، انتقلوا إلى الحجر ووادي القرى، بعد أن كثر البشر في جزيرة العرب، وامتلأت بهم، مما اضطر بعض من يقيم في أقاصيها، بالهجرة شمالاً طلباً للمتسع والمعاش، فخرجت هذه الطائفة من المعينيّين، واستقرّ بها القرار في الحجر ووادي القرى، حيث تركوا لهم آثاراً من النقوش، والتي هي عبارة عن خطوط معينيّة يمنيّة، عُرِفت بالخطّ المعيني، حيث توجد بكثرة في بلادهم باليمن.
ويذكر الخبراء، أن شعباً يقال لهم اللحيانيّون، استولوا على الحِجر ووادي القرى بعد المعينيّين، أو أن اللحيانيين استولوا على الحِجر ووادي القُرى، وأخضعوا المعينيّون لسلطانهم.
ويقدّر الخبراء أن هؤلاء اللحيانيين قدموا من اليمن، لأنهم عثروا في النقوش الخطيّة في اليمن، على اسم ملك يماني أسمه: أب يدع ذو لحيان. وذو لحيان، تشير إلى قبيلة يمنية تدعى: ذو لحيان. وقد يكون هؤلاء اللحيانيّون من قبيلة لحيان إحدى قبائل هذيل، أي: أنها قدمت من جهات مكة والطائف، لتتغلب على المعينيين وتستقر في الحجر ووادي القرى، وقد ترك اللحيانيون بدورهم آثاراً من النقوش، والتي هي عبارة عن خطوط عُرِفت بالخط اللحياني.
ثم لما عظمت مملكة الأنباط بالأردن، وتوسّعوا في البلاد، استولوا على الجزء الشمالي الغربي من جزيرة العرب، واستحوذوا بذلك على الحجر ووادي القرى وقبائلها، حيث تأثرت تلك القبائل بالثقافة النبطيّة، وكتبوا بالخط النبطي.
وظلّت الحجر بحوزة القبائل الخاضعة لسلطان الأنباط دهرا من الزمان، ثم تُرِكت بعد ذلك، فلم يعمرها بشر إلى اليوم.
ويذكر الخبراء، أن قصور الثموديين الحجريّة، قد تمّ تحويلها في زمن الأنباط إلى أضرحة لسادات تلك القبائل، حيث شاعت في المنطقة في تلك الحقبة عمليّة بناء الأضرحة على قبور السادات والأشراف، مما دفع تلك القبائل إلى تحويل تلك المنازل إلى أضرحة، من باب الفخر والمباهاة.
وتصميم تلك القصور الحجرية من الداخل، يدلّ على أنها أعدّت للسكنى، فعندما تلج إلى داخل تلك التجاويف، تفضي بك إلى غرفة فسيحة، وبعض تلك الغرف، لها تجاويف جانبيّة على جدران الكهف، هي أشبه بالرفوف التي توضع عليها الحاجات، كما هو الحال في البيوت المبنيّة باللبن، حيث كان بناتها يضعون رفوفاً في الجدران لرفع الأشياء التي لا ينبغي أن توضع على الأرض، كما يوجد في بعض تلك الكهوف تجاويف أكبر، هي أشبه بمخازن للطعام أو المال أو البضائع.
وقد شاعت أيضا في تلك الفترة النبطيّة، عملية توثيق ملكية العقارات لأصحابها، حيث كانوا ينقشون بالخط النبطي، أسماء من قام بإصلاح وتأهيل وإعداد تلك المباني للسكن أو القبر، أو اتخاذها مكاناً للعبادة. وكانت عادة تصدر بعبارة: "دنه كفر أدي عبّد - بصيغة المفرد المذكر إن كان رجلاً - أو عبّدت - بصيغة المفرد المؤنث إن كانت امرأة - أو عبّدو - بصيغة الجمع إن كان من قام بتجديد القصر مجموعة من الرجال أو مجموعة من النساء-.
ودنه، تعني: هذه. وكفر، تعني هنا: قبر، وأدي، تعني: الذي أو اللتي، وعبّد، تعني: أصلح وهيأ وأعدّ. وكلها يراد بها: التجديد والتأهيل، كون هذه المباني موجودة سلفاً قبل أن تستولي تلك القبائل على تلك المنحوتات.
وقد رجّح بعض الخبراء، أن يكون المعينيّون هم ثمود، وهذا رأيٌ مرجوح، إذ أن الثموديين، يعتبرون من أقرب الشعوب زمانا لنوح عليه السلام، بعد قبيلة عاد، وبالتالي فمن الراجح أنهم من أوائل الشعوب التي دخلت إلى جزيرة العرب قادمة من الشمال.
والذي دفع الخبراء إلى الاعتقاد بأن ثمود هم طائفة من المعينييّن، هو أنهم لم يجدوا أيّ أثر لشعب سكن هذه المنطقة قبل المعينيّين.
وتفسير ذلك، أن الثموديين لم يكونوا يحسنون القراءة والكتابة، ولم يبتدعوا رسم أحرف تخصّهم، أو يوثّقوا ملكيّتهم لهذه المنحوتات، إذ يظهر أن الاهتمام بالكتابة، وتوثيق الملكيّات، لم يكن شائعاً في ذلك الزمان، وإنما شاعت بعدهم، ولذلك لا نجد لهم خطوطاً ولا وثائق في جبال الحِجر.
وكون الثموديين لا يحسنون القراءة والكتابة، لا يتعارض مع كونهم يحسنون النحت والنقش، فلا تلازم بين هذا الفن وذاك، فكثيرٌ من الصُنّاع والحِرَفيّين، كانوا لا يجيدون القراءة والكتابة.
وما ذهب إليه الخبراء، هو ما دفع بعض الباحثين إلى القول بأن ثمود قدموا من اليمن، واحتج على ذلك بحجّتين:
الأولى: أنه يوجد في اليمن وفي حضرموت تحديداً، مدينة تسمى: ثمود. والجواب على ذلك: أن مدينة ثمود الموجودة اليوم في حضرموت، لم تعرف بهذا الاسم إلّا في وقتٍ متأخر، والدليل على ذلك، أن هذه المدينة لم يذكرها أحد من الجغرافيين العرب، بل إن لسان اليمن الحسن الهمداني، صاحب كتاب صفة جزيرة العرب، الذي لم يترك موضعاً من جزيرة العرب إلّا وذكر اسمه، لم يذكر مطلقاً أن في اليمن أو حضرموت مدينة أو إقليم أو جبل أو وادٍ يسمى ثمود، فتبيّن أن مسمّى هذه المدينة حادث.
والثانية: أنه عثر على نقوش بالخط الذي يسمى بالخط الثمودي في اليمن. والجواب على ذلك: أن ما عُثِر عليه من الخط الثمودي في اليمن، قليل جدّاً، إذ أن هذا الخطّ ينتشر بكثرة في الجزء الشمالي من جزيرة العرب، ثم إن الخبراء يؤكدون أنه لا علاقة لهذا الخط بقبيلة ثمود قوم نبي الله صالح، ولذلك يفضّلوا تسميته بالخطّ العربي الشمالي، ولهذا لا يعتبر وجود نقوش لهذا الخط في اليمن دليلاً على أن قبيلة ثمود قدمت من اليمن، وتفسير وجود هذا الخطّ في اليمن، أن بعض التجّار من عرب الشمال، نقشوا بهذا الخط في اليمن، عند قدومهم إلى اليمن للتجارة، أو قد يكون بطناً من عرب الشمال هاجروا إلى اليمن، لسبب من الأسباب التي تستدعي القبائل إلى الانتقال من بلادها إلى بلاد أخرى.
ويظهر أن الأنباط أعجبوا بالتصميم الذي أحدثه الثموديون في الحِجر، لذلك عملوا مثلها أو أفضل منها في عاصمتهم البتراء، وقد أثّر ذلك الفن في قبائل الشام، حيث أصبحوا يبنون قصورهم ومعابدهم على النمط المعماري النبطي، الذي يعتبر نسخة مطوّرة عن الطرازي المعماري الثمودي.
وعندما زار القائد الروماني بومبي البتراء سنة خمس وستين قبل الميلاد، أعجب بهذا الفن المعماري، مما دفعه إلى أن يطلب من الأنباط، أن يبنوا مثيلات لها في روما، ومن هنا انتقل هذا الفنّ المعماري إلى روما.
نقلت وكالة الأنباء الأردنية بتاريخ 7 / 5 / 2012م عن الدكتور نبيل خيري، ما نصّه: "أن الباحثين الغربيين يرجعون الواجهات الصخرية المنحوتة مثل الخزنة داخل مدينة البتراء الى فترة ما بعد احتلال الرومان للبتراء في أواخر حكم آخر ملوك الأنباط رابيل الثاني عام 106م ، ويسندون هذه المنجزات الحضارية الى غير أهلها – أي: إلى الروما حيث يزعم الخبراء الغربيّين أن هذا الطراز المعماري ابتدعه الرومان - وأشار الخيري الى أنه في ضوء اعتماد ما ورد في نقوش نبطية في ثاني أكبر مدينة للأنباط وهي مدائن صالح فإن عشرين نقشاً ترجع الى عهد الملك النبطي الحارث الرابع – يقدّر أنه حكم بين سنتي 9 قبل الميلاد إلى 40 بعد الميلاد - وثمانية منها أرّخت لفترة الملك مالك الثاني – حكم بين سنتي 40 ميلادية إلى 70 ميلادية - ونقشين أرخا لآخر ملوك الأنباط – وهو الملك ربّ إيل الثاني والذي حكم بين سنتي 70 ميلادية إلى 106 ميلادية -. وأوضح أن أسماء الآلهة الواردة في النقوش هي الآلهة التي كانت تعبد في الجزيرة العربية قبل الإسلام وهي مقترنة بأسماء الهة نبطية ولم يعثر على اسم أي الهة أعجمي أو روماني مبيناً أن مدائن صالح هي الشقيقة الكبرى للبتراء مما يؤكد بشكل قاطع عروبة هذه المدينة الأردنية الخالدة حضارياً" اهـ
فبحسب الدراسات التي قام بها الدكتور نبيل خيري وفريقه، فإن الجبال المنحوتة في الحِجر، أقدم إحداثاً من الجبال المنحوتة في البتراء، مع أن الأنباط عندما احتلوا مدينة الحِجر، كانوا في أوجّ قوتهم وثروتهم، وهذا يدل على أن الأنباط هم من تأثر بالطراز المعماري الثمودي، بمعنى أن الأنباط لم يستحدثوا هذا الطراز.
وتؤكد تلك الدراسة بناء على هذه النتائج، أن البتراء وجميع الآثار التي تحتضن ذات الطراز المعماري في الأردن وسوريا وفلسطين ولبنان، هي آثار نبطيّة وليست رومانيّة، وتستدل الدراسة على ذلك، بأن النقوش النبطيّة الموجودة في مدينة الحِجر بوادي القرى، أقدم تاريخياً من النقوش النبطية والرومانية الموجودة في البتراء، وهذا يعني أن مدينة الحِجر قطعاً بُنيت قبل مدينة البتراء، وأن بُناة مدينة البتراء، كانوا متأثرين بشدّة، بالفن المعماري في مدينة الحِجر، ولذلك وصف الدكتور خيري مدينة الحِجر، بأنها: الشقيقة الكُبرى لمدينة البتراء.
وهذا يدل على أن الطراز المعماري في الشام، طراز نبطي عربي محض، وليس رومانياً كما يشاع مؤخراً.
ومما يؤكد ذلك، ما ذكرته وكالة الأنباء الأردنية، حيث قالت: "وتناول الدكتور بجورن بيتر أندرسون، من جامعة مانيسوتا بالولايات المتحدة الأميركية، وجود الأنباط التجاري في إيطاليا، ومعبدهم الذي يقع في ميناء بيتولى، جنوبي مدينة روما، والذي يرجع حسب النقش النبطي الملحق بهذا المعبد، إلى عام ثمانية قبل الميلاد، أي بداية حكم الملك النبطي الحارث الرابع، الذي عرف باسم " اينياس"" اهـ
قلت: وقد عثر على بقايا هذا المعبد، غارقاً تحت الماء، قبالة الساحل الغربي للبحر الأبيض المتوسط لمدينة بوتسوولي، وهذا يعني، أن الأنباط كانوا قد بنو لهم معبداً على ضفاف الساحل الروماني، قبل الميلاد، وهذا يشير إلى أنهم هم من نقل هذا الفن المعماري إلى روما، ومن روما انتقل هذا الفن إلى مناطق متفرقة جنوب أوروبّا وشمال أفريقيا.
وخلاصة هذا البحث: أن الأنباط لم يكونوا هم من نحت جبال الحِجر أو قام بزخرفتها، فالنقوش الخطّيّة الموجودة في مدينة الحِجر، أقدم تاريخياً من النقوش الخطيّة الموجودة في مدينة البتراء، عاصمة دولة الأنباط، مع أن الأنباط عندما استولوا على مدينة الحِجر كانوا في أوجّ قوتهم وثروتهم، وهذا يعني، أن الأنباط تأثروا بالفن المعماري في مدينة الحِجر، مما دفعهم إلى بناء البتراء على غِرار الطراز المعماري في مدينة الحِجر وطوّروه أكثر، ويظهر وبجلاء، أن حواضر الشام أعجبوا بها الطراز النبطي المطوّر، لذلك قاموا باستحداث مدنهم على هذا الطراز، وعندما احتك الرومان بدولة الأنباط، أعجبوا بدورهم بهذا الفن، ونقلوا الحرفيّين العرب من الأنباط إلى روما، ولعل هؤلاء الحرفيين الذين أقاموا بإيطاليا، هم من بنا المعبد الذي عُثِر عليه في ميناء بيتولي الإيطالي، ثم بعد أن استولى الرومان على دولة الأنباط، آلت ملكيّة بعض هذه الجبال المنحوتة إلى بعض كبار الرومان، والذين وثّقوا ملكيّتهم لها بالخط الروماني، كما آلت الجبال المنحوتة الثمودية إلى القبائل الوافدة على وادي القرى ومنطقة الحِجر، واستحوذوا على تلك الجبال، ووثّقوا ملكيتهم لها بالخط النبطي، بعد أن استولى الأنباط عليهم، وتعلموا منهم الكتابة بذلك الخطّ.