قال تعالى في سورة الكهف: (وَيَسْأَلُونَكَ عَن ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُم مِّنْهُ ذِكْرًا إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِن كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا فَأَتْبَعَ سَبَبًا حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِندَهَا قَوْمًا قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَن تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَن تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا قَالَ أَمَّا مَن ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُّكْرًا وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاء الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَّمْ نَجْعَل لَّهُم مِّن دُونِهَا سِتْرًا كَذَلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْرًا ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِن دُونِهِمَا قَوْمًا لّا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلا قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَن تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا فَمَا اسْطَاعُوا أَن يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِّن رَّبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاء وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا)
قوله: (ذِي الْقَرْنَيْنِ) لا يعرف هل كان ذو القرنين نبياً أم رجلاً صالحاً، وإن كان الراجح في شأنه أنه نبي، وإذا كان نبياً، فإلى أي أمة بعث؟ ولا يعرف عن نسبه أي شيء، كما لا يعرف متى عاش ذو القرنين، كل هذه المسائل صارت مجهولة، ولا يمكن معرفتها، إلّا أنه كما يظهر من القرآن، كان ملكاً من الملوك.
وذو القرنين، لقب عربي، والقرنان هما الغديرتان، أو صياصي البقر والماعز والكباش، وسمّي القرنان بذلك، لأنهما قرينان، أي: شبيهان لبعضهما، وتأتي بمعنى: المضمومان لبعضهما. وذو، كما قدمنا معناها الصاحب، أي: صاحب القرنين.
وقوله: (إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الأَرْضِ) أي: جعله الله تعالى ملكاً.
وقوله: (وَآتَيْنَاهُ مِن كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا) والمراد بالسبب هنا العِلم، فأوتي من كل شيء عِلماً ومعرفة.
وقوله: (فَأَتْبَعَ سَبَبًا) والمراد بالسبب هنا الطريق، أي: فاتّبع طريقاً، أي: سار فيه.
وقوله: (بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ) أي: بلغ ساحل البحر من جهة الغرب.
وقوله: (عَيْنٍ حَمِئَةٍ) أي: وجدتها وكأنها تغرب في الماء والطين، عندما رآها وكأنها تغرب في البحر.
وقوله: (وَوَجَدَ عِندَهَا قَوْمًا) أي: أنه بلغ مدينة تقع على ساحل البحر الغربي.
وقوله: (قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَن تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَن تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا) أي: إما أن تغير عليهم وتقتلهم وتنهب أموالهم وتسبي نساءهم وذراريهم، إن أبو قبول الإسلام، أو تعفو عنهم إن آمنوا ووحّدوا الله تعالى، وتعلّمهم ما يهتدون به إلى ربهم، وهذا فيه إشارة إلى أن ذا القرنين كان نبيّاً، بدلالة أن الله تعالى قال: (قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ) فالله يخبرنا أنه قال له، وهذا يعني أن الله تعالى كان يوحي إليه.
وقوله: (حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ) أي: عاد أدراجه، متجهاً إلى الشرق، فما زال يسير حتى بلغ ساحل البحر من جهة الشرق.
وقوله: (وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَّمْ نَجْعَل لَّهُم مِّن دُونِهَا سِتْرًا) أي: أنه وصل إلى مدينة على ساحل البحر الشرقي، إذا طلعت عليهم الشمس، لم يكن بينهم وبينها ساتر، والمراد بالستر هنا: الجبال والأشجار ونحو ذلك، فهم على ساحل البحر، لا يحول بينهم وبين الشمس شيء.
وقوله: (وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْرًا) أي: وقد أحطنا بما عند مطلع الشمس علما لا يخفى علينا ما هنالك من الخلق وأحوالهم وأسبابهم، ولا من غيرهم شيء.
وقوله: (ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا) أي: أنه سلك جهة لم يفصح الله تعالى عنها، فهي جهة مجهولة.
وقوله: (حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ) أي: الجبلين، وقيل عن الجبل سدّ، لانه يسدّ ما وراءه، ولا أحد يعلم أين الجبلين اللذين أرادهما الله تعالى، وكل من زعم أنه يعرف موضعهما فهو كاذب.
وقوله: (وَجَدَ مِن دُونِهِمَا قَوْمًا لّا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلا) أي: قوم لا يكادون يفقهون قول قائل سوى كلامهم.
وقوله: (إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ) وهما قبيلتان من الناس.
وقوله: (مُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ) أي: كثيروا الإغارة على جيرانهم، كثيروا القتل والنهب والسلب والأسر فيهم، ما لهم من ذلك حاجة سوى الإفساد في الأرض.
وقوله: ( فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَن تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا) أي: نجعل لك أجراً، والخرج هو الأجر.
وقوله: (فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ) أي: بعزم وحزم واجتهاد.
وقوله: (أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا) والردم يأتي على معانٍ، الأول: هو وضعه الأشياء بعضها فوق بعض، متراصّة، والثاني: هو التغطيّة، يقال: ردم الشيء أي: غطّاه. والمراد به هنا: التغطية.
وقوله: (حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ) أي: ساوى وعدّل بين الجبلين.
وقوله: ( قَالَ انفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا) أي: أمرهم بإيقاد النيران على ذلك الحديد والنفخ فيها حتى انصهر الحديد.
وقوله: (قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا) أي: أفرغ عليه النحاس المذاب.
وقوله: (فَمَا اسْطَاعُوا أَن يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا) أي لم يستطع يأجوج وماجوج أن يعلو عليه من فوق، لأنه ردم، ولا أن ينقبوه من تحت، لقوته وصلابته.
وقوله: ( قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِّن رَّبِّي) أي: رحمة من الله أن مكّنهم وأعانهم على بناء هذا الردم.
وقوله: (فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاء وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا) أي: إذا جاء اليوم الموعود لخروجهم، سوف يضعف الله تعالى هذا الردم العظيم، ليتمكن يأجوج ومأجوج من هدّه والخروج منه.
وعن زينب بنت جحش، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل عليها يوما فزعا، يقول: "لا إله إلا الله ويل للعرب من شر قد اقترب فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه وحلق بإصبعيه الإبهام والتي تليها". قالت زينب بنت جحش: فقلت يا رسول الله: أفنهلك وفينا الصالحون؟ قال: "نعم إذا كثر الخبث".
رواه البخاري.
قول النبي: "فتح من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه" وحلق بأصبعيه الإبهام والسبابة، دليل على أن الردم شيء مصمت، فلو كان سداً عادياً لكان مفتوحاً من أعلاه.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن يأجوج ومأجوج يحفرون كل يوم حتى إذا كادوا يرون شعاع الشمس قال الذي عليهم ارجعوا فسنحفره غدًا فيعيده الله أشد ما كان حتى إذا بلغت مدتهم وأراد الله أن يبعثهم على الناس حفروا حتى إذا كادوا يرون شعاع الشمس قال الذي عليهم ارجعوا فستحفرونه غدًا إن شاء الله تعالى واستثنوا فيعودون إليه وهو كهيئته حين تركوه فيحفرونه ويخرجون على الناس" .. الحديث
صحيح رواه ابن ماجه.
وقوله: "حتى إذا كادوا يرون شعاع الشمس" ففيه دلالة ظاهرة، على أنهم لا يرون الآن شعاع الشمس، فإن قيل: كيف يبصرون وهم في باطن الأرض؟ فالجواب: إنما يبصرون بما يوقدونه من مشاعل، يحتطبونها من الأشجار التي تنموا في باطن الأرض، أو أن الله يهيئ لهم نوراً يبصرون به في تلك المغاور.
فهذه أدلة صحيحة صريحة، على أن يأجوج ومأجوج، يعيشون في مغاور وكهوف في باطن الأرض.
فإن سألت كيف يعيشون في تلك المغاور؟ فالجواب: انهم يشربون من أودية تجري في باطن الأرض، تتخلل تلك المغاور، ويكون أكلهم مما ييسره الله لهم من كائنات تعيش في باطن الأرض، والذي رزق بني آدم فوق الأرض، لن يعجزه رزقهم في جوف الأرض.
وأما عن كثرتهم، فالله لا يعجزه أن يعمر باطن الأرض بهم كما عمر ظاهرها بالخلق، ولكن ربما تكون كثرتهم فيما بعد، بسبب تغلبهم على باقي الشعوب، وإخضاعهم لها، ودخولهم تحت سلطانهم.
والله وحده أعلم وأحكم.