بلاد قبيلة عاد

الأحقاف، جمع: حقْف، وهو كل ما إعوجّ من جبل أو رمل أو جدار.

وقد اختلف العلماء في موضع الأحقاف، الذي كانت تنزله قبيلة عاد، على ثلاثة أقوال:

القول الأول: أنها بالشام، عن عبدالله بن عباس قال: الأحقاف: جبل بالشام.

رواه الطبري.

والقول الثاني: عن مجاهد بن جبر قال: حِشاف من حسْمى.

رواه الطبري.

وقوله: "حشّاف" أي: جبال في أرض سهلة، ومفردها: حشفة.

وحسمى هي الفلاة الواسعة، التي تقع فيها مدينة تبوك، في شمال غرب الجزيرة العربيّة.

والقول الثالث: أنها باليمن، عن عبدالله بن عباس قال: الأحقاف الذي أنذر هود قومه واد بين عمان ومهرة.

رواه الطبري.

والقول الرابع: أنهم باليمن، في مدينة تدعى: الشحر، على ساحل بحر العرب. عن قتاده بن دعامة قال: ذكر لنا أن عادا كانوا حيا باليمن، أهل رمل مشرفين على البحر، بأرض يقال لها الشّحْر.

رواه الطبري.

والقول الخامس: أنها الفلاة الواسعة التي تقع فيها مدينة الإسكندريّة بمصر، عن القرظي قال: (إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ) الإسكندرية.

فأما الجغرافيون، فزعموا أنها باليمن، ولكن اختلفوا في موضعها.

قال الحسن الهمداني (توفي سنة 344هـ) في كتابه صفة جزيرة العرب: ثوبة قرية بسفلى حضرموت في واد ذي نخل، ويفيض وادي ثوبة إلى بلد مهرة، وحيث قبر هود النبي عليه السلام وقبره في الكثيب الأحمر، ثم منه في كهف مشرف في أسفل وادي الأحقاف وهو واد يأخذ من بلد حضرموت إلى بلد مهرة مسيرة أيام، وأهل حضرموت يزورونه هم وأهل مهرة في كل وقت.

فزعم الهمداني، أن الأحقاف، واد ينشأ من حضرموت، ويصبّ في بلاد مهرة، وبلاد مهرة مما يلي مدينة الشحر، على ساحل بحر العرب.

قلت: وهذا الادعاء منه باطل، فالأحقاف جمع، فكيف يسمّى الوادي وهو مفرد بالأحقاف! 

وقال الإصطخري (توفي بعد سنة 346هـ) في كتابه مسالك الممالك: وحضرموت في شرقي عدن بقرب البحر، وبها رمال كثيرة تعرف بالأحقاف، وحضرموت في نفسها مدينة صغيرة ولها أعمال عريضة، وبها قبر هود النبي عليه السلام، وبقربها برهوت بئر عميقة لا يكاد يستطيع أحد أن ينزل إلى قعرها.

فزعم الإصطخري، أن الأحقاف رمال تقع في إقليم حضرموت.

وقول الاصطخري، بأن حضرموت موضع قرب البحر، وأن بها رمال كثيرة تعرف بالأحقاف، قول غير صحيح، فحضرموت إقليم واسع، يحده شمالا الرمال، التي تعرف بالرملة، ويحده جنوبا البحر، وشرقا عمان، وغربا سروات اليمن، والرمال الكثيرة، ليست في حضرموت، بل تقع شمالا عنها، حيث تفصل بينها وبين عالية نجد، وتحدّها من الشرق، تفصل بينها وبين عمان.

وقول الإصطخري بأن حضرموت مدينة صغيرة، فيه نظر، فالهمداني وهو من أهل اليمن، وأقدم منه، لم يذكر ذلك، بل كلّ ما ذكره عن حضرموت، أنها إقليم باليمن، وأن الأحقاف واد ينبع منها ويصب في بلاد مهرة بالشحر. والذي يظهر لي، أن الإصطخري إنما زار بعض مدن حضرموت، فظنّ أن اسم تلك المدينة حضرموت.

وقال ابن حوقل، في كتابه صورة الأرض، عن بلاد حضرموت: هي في شرق عدن بقرب البحر ومدينتها صغيرة، ولها أعمال عريضة، وبينها وبين عمان من الجهة الأخرى رمال كثيرة تعرف بالأحقاف، وكانت مواطن لعاد، وبها قبر هود عليه السلام.

قلت: وابن حوقل، يظهر أنه ناقل عن الاصطخري، وقد حاول ابن حوقل أن يستدرك الخطأ الذي وقع فيه الاصطخري، بخصوص الرمال الكثيرة، فذكر أن الرمال الكثيرة ليست في حضرموت، بل شرقا منها، والصواب أنها تحدها من الشرق والشمال أيضا، إلا أن ابن حوقل، أخطأ أيضا عندما قال، بان قبر هود في تلك الرمال، وقبر هود - المزعوم - في الحقيقة قرب تريم شرقا منه، بعيد جدا عن تلك الرمال.

وقال شمس الدين المقدسي (توفي 380هـ) في كتابه أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم: وحضرموت هي قصبة الأحقاف موضوعة في الرمال عامرة نائية عن الساحل آهلة لهم في العلم والخير رغبة إلّا أنهم شراة شديد سمرتهم.

فزعم شمس الدين، أن الأحقاف إقليم واسع، وأن حضرموت قصبتها، أي: مدينتها الكبرى، وهذا قول من لا يدري ما حضرموت، فحضرموت قديما وحديثا إقليم واسع، يضم العديد من المدن والقرى، وقصبتها قديما مدينة شبام، وأما اليوم فقصبتها مدينة المكلا، فكيف تكون حضرموت قصبة للأحقاف!

وقال البكري (توفي سنة 487هـ) في كتابه معجم ما استعجم: "الأحقاف، التى كانت منازل عاد، اختلف فيها، فقيل: هو جبل بالشام، عن الضّحّاك. وقال مجاهد: الأحقاف حشاف من حسمى؛ هكذا رواه الحربى عنه؛ والحشاف: الحجارة فى الموضع السهل. وروى أبو عبيد الهروىّ عن الأزهرىّ أنه قال: الأحقاف منازل عاد، رمال مستطيلة بشحر عمان، ويقال للرمل إذا عظم واستدار: حقف؛ وقيل إذا أشرف واعوجّ قال الهمدانى: الأحقاف بحضرموت".

ثم ساق البكري خبرا موضوعا عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، يسأل حضرميّا عن قبر هود عليه السلام، مما يؤكد أن الادعاء بأن الأحقاف موطن هود وقبيلته عاد بحضرموت، من فرى بعض الحضارمة.

وقال ياقوت الحموي (توفي 626هـ) في كتابه معجم البلدان: وحضرموت ناحية واسعة في شرقي عدن بقرب البحر، وحولها رمال كثيرة تعرف بالأحقاف، وبها قبر هود عليه السلام.

وهؤلاء الباحثون ينقل بعضهم عن بعض، وأن بعض الحضارمة، ادّعوا أن الأحقاف ببلادهم ليدعوا بذلك أن نبي الله هود وقومه عاد كانوا ببلادهم، ويحوزوا بذلك الشرف، ولا أدل على ذلك، من أن الكثبان الرمليّة لا وجود لها عند القبر المنسوب لنبي الله هود عليه السلام، ولا في الإقليم الذي تقع فيه، ولا الوادي الذي عناه الهمداني هو الأحقاف، لاستحالة تسمية واد باسم يحمل صيغة الجمع.

والحقيقة، أن سبب تخبّط الرواة والجغرافيين في تحديد موضع الأحقاف، أن العرب لم يكونوا يعرفون موضعا يعرف بهذا الاسم في جزيرة العرب، ولا حتى في الشام، ولكن بعض اليمنيين، استغل هذا الأمر، فادعى أن الأحقاف هو الوادي الذي يقبل من حضرموت حتى يلج في بلاد مهرة، ناحية الشحر، ومنه أخذ الهمداني، بينما أدعى بعضهم أن الأحقاف هي الرمال التي بين حضرموت وعمان، ومنهم أخذ الاصطخري، وتناقله الجغرافيّون بعده.

وأما الرمال التي بين حضرموت وعمان، فتعرف اليوم باسم: الرملة، كما تعرف بالربع الخالي، وهي ليست في حضرموت، بل تقع شمالا عنها، ثم تمتد هذه الرمال حتى تدخل عمان وتتجه إلى جنوب عمان الشرقي.

والأحقاف الواردة في القرآن ليست أحقافا رمليّة، بل أحقاف جبليّة، نجد ذلك وبصراحة في قوله تعالى: (أتبْنون بكلّ ريع آية تعْبثون) والريع، وجمعه: ريعان، وصف لا يطلق في لغة العرب؛ إلا على المناقب التي تكون في المناطق الجبلية.

قال ابن منظور في لسان العرب: "والرّيعة والرّيع والرّيْع: المكان المرْتفع، وقيل: الرّيع مسيل الوادي من كل مكان مرْتفع .. والجمع أرْياع وريوع ورياع، الأخيرة نادرة .. والرّيع: الجبل، والجمع كالجمع، وقيل: الواحدة ريعة، والجمع رياع .. والرّيع: السّبيل، سلك أو لم يسْلك .. والرّيْع: الطريق المنْفرج عن الجبل؛ عن الزّجاج، وفي الصحاح: الطريق ولم يقيّد .. وقوله تعالى: أتبْنون بكل ريع آية، وقرئ: بكل ريْع؛ قيل في تفسيره: بكل مكان مرتفع. قال الأزهري: ومن ذلك كم ريْع أرضك أي كم ارتفاع أرضك؛ وقيل: معناه بكل فج، والفجّ الطّريق المنْفرج في الجبال خاصّة، وقيل: بكل طريق" اهـ

مما يؤكد لنا، أن ما يشاع من أن الأحقاف التي كان يحلها بنو عاد هي الرمال الممتدة بين حضرموت وعمان، قول غير صحيح.

إلا أنه في المقابل، عثر على نقوش حجريّة في منطقة مأرب باليمن، تحمل أسماء مثل: يهر عد، وذو عد، ويعتقد الباحثون أن عد تصحيف لكلمة عاد، وأما يهر، فتأتي بمعنى بيت، بينما تأتي كلمة ذو بمعنى جماعة أو قبيلة أو عشيرة.

كما ورد ذكر لاسم مدينة تدعى إرم في النقوش المسنديّة في منطقة مأرب باليمن، حيث ورد النص ( أهجر إرم ) و أهجر تعني مُدُن، وهذا النقش يعدد المدن و من ضمنها "إرم" التي تقع بالقرب من مأرب عاصمة سبأ باليمن.

كل هذه البيانات، تجعل الباحث في حيرة من أجل تحديد الموضع الذي كانت تنزله قبيلة عاد قوم نبي الله صالح عليه السلام، ويظهر أن تعدد المواضع التي تحمل اسم إرم، وتعدد القبائل التي تحمل اسم عاد، هو من أوقع الرواة قديماً في هذا الخلط.

ولكني أقول، إن وجود مدينة تحمل اسم إرم في منطقة مأرب، لا يعني بالضرورة أنها مدينة قبيلة عاد، خصوصاً وقد بلغنا الخبر من الله تعالى، بأنهم غلبوا أمم الأرض قوة، وما ذكر في النقش يشير إلى مدينة مغلوبة، ثم إن اسم عد الذي ورد في النقوش، ليس بالضرورة يراد به قبيلة عاد، فقد يكون المراد به عدي، أو عديّة، أو عادية.

والراجح، أن بلاد عاد في الجزء الشمالي الغربي من جزيرة العرب، حيث لا يزال يعرف موضع في حسمى باسم: إرم، وهو واد فسيح، تحف به جبال كثيرة، تعرف بجبال إرم، وبها بئر تعرف ببئر إرم، والعرب المتأخرون يسمونها: رمّ، على وجه الاختصار.

قال الهمداني في صفة جزيرة العرب: "وبحسمى بئر إرم من مناهل العرب المعروفة" اهـ

وقال ياقوت الحموي في معجم البلدان: "إرم: بالكسر، ثم الفتح .. وهو اسم علم لجبل من جبال حسمى من ديار جذام، بين أيلة وتيه بني إسرائيل، وهو جبل عال عظيم العلو، يزعم أهل البادية أنّ فيه كروما وصنوبرا. وكان النبي، صلى الله عليه وسلم، قد كتب لبني جعال بن ربيعة بن زيد الجذاميين، أنّ لهم إرما" اهـ

فالأحقاف، هي المنطقة المحيطة بوادي إرم، لكثرة الأحقاف الجبليّة فيها.

لذلك، فإن ما ذهب إليه مجاهد بن جبر، في أن الأحقاف، هي حشاف بحسمى، هو الراجح بإذن الله تعالى.

ويظهر أن مدينة عاد كانت مبنيّة على جانبي وادي إرم، وحملت اسم الموضع الذي بنيت فيه، فالعرب تطلق على مدنهم، أسماء المواضع التي يبنون عليها مدنهم.

وقد ورد في نقش عثر عليه في جبال إرم، يشير إلى تواجد قبيلة تدعى عاد في هذه المنطقة، حيث جاء فيه ما نصّه: ل غث بن أسله بن ثكم وبنى بت الت ذأل عد. وترجمته حسب ما يرى الباحثون: لغيث بن أسلة بن ثكم، وبنى بيت اللات، ذي آل عاد. 

ولكن ترجمة عد إلى عاد، هي الأخرى ظنيّة، إذ قد يكون معنى عد، أي: عدي، أو عديّة، أو عادية.

فإن كان هذا النصّ صحيحاً في الإشارة إلى قبيلة عاد، فهذا يعني أن اللات كانت تعبد منذ زمن طويل، وليس هذا بغريب، فقد ذكر مؤرخ اليونان، هيرودوست، وهو الذي يقدّر بأنه عاش قبل المسيح عيسى عليه السلام بخمسمائة سنة، في تاريخه، أن اللات كانت من معبودات المشركين في الشام، بينما كانت اللات من معبودات قريش في زمن النبي، وهذا يعني أن اللات عبدت على مدى ألف سنة، وإذا جاز هذا، جاز أن تعبد اللات لآلاف السنين، وليس لألفيّة واحدة، لأن هذه الآلهة الكاذبة، يتوارثها الأجيال جيلاً بعد جيل.

وقال تعالى: (وَعَادًا وَثَمُودَ وَقَد تَّبَيَّنَ لَكُم مِّن مَّسَاكِنِهِمْ) أي: أن مشركي قريش كانوا يرون أطلال منازل قبيلتي عاد وثمود، ولكن أطلال منازل عاد لا وجود لها اليوم، فقد أفنتها عوادي الزمان.