قال تعالى في سورة الأنبياء:(وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَّكُمْ لِتُحْصِنَكُم مِّن بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنتُمْ شَاكِرُونَ)
قوله: (سَخَّرْنَا) أي: جعلهن متّبعات لداوود، إذا سبّح سبّحن بتسبيحه.
وقوله: (دَاوُود) ويختصر إلى داود، قد يكون مشتقاً من الوِدّ، وهو المحبّة، وقد يكون على معنى أُدّ وأُدَد، ومعناه: القوي أو العظيم. وقد يكون مشتقاً من الدَوداة، وهي الجلبة والضوضاء، وبه سمّيت الأرجوحة: دَوداة، لما تحدث من جلبة وضوضاء، وعلى هذا فهو اسم عربيّ.
وفي اللغة الإنجليزية، يسمونه: دافيد، يبدلون الواو فاءاً، ويبدلون الهمزة ياءاً، وربما خفّفوا نطق الاسم فقالوا: ديفد، وهذا بسبب عجمة ألسنتهم، فلم يحسنوا نطق الاسم بلفظه العربي.
واليهود والنصارى يضعون له سلسلة نسب غير موثوق بها، ويزعمون أنه من سبط يهوذا بن يعقوب.
وقوله: (وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَّكُمْ لِتُحْصِنَكُم مِّن بَأْسِكُمْ) أي: علّمه الله صناعة الدروع والخِوَذ، وسائر أنواع الأسلحة. لتكون وقاية لكم من بأس بعضكم على بعض.
وقال تعالى في سورة سبأ: (وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلا يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ)
قوله: (أَوِّبِي) أي: ردِّدي. وهذا في معنى التسخير في الآية السابقة، وهو أنها تردد وراءه التسبيح.
وقوله: (وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ) أي: جعل الحديد يلين في يده بسهولة.
وقوله: (أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ) أي: أي: الدروع التامة، التي تحفظ الجسد من الضرب والطعن.
وقوله: (وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ) وهذا أمرٌ من الله له بأن يحسن في سرد الدروع.
وقوله: (وَاعْمَلُوا صَالِحًا) أي: اعملوا بطاعة الله.
وقال تعالى في سورة ص: (اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالإِشْرَاقِ وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَّهُ أَوَّابٌ وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُودَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُم بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاء الصِّرَاطِ إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنْ الْخُلَطَاء لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَّا هُمْ وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِندَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ)
قوله: (اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ) أي: الضمير هنا عائد إلى النبي محمد صلى الله عليه وسلم، أي: اصبر على ما يقوله كفّار قريش من تكذيبك والسخرية بك وبدعوتك.
وقوله: (ذَا الأَيْدِ) أي: ذو القوّة.
وقوله: (سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ) أي: جعلناها تسبّح الله تعالى مع داود.
وقوله: (يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالإِشْرَاقِ) العشي عند العرب، يطلق على فترتين، وهي: من وقت زوال الشمس في الظهيرة إلى غروب الشمس، ومن وقت غروب الشمس إلى العتمة. وأما الإشراق، فالمراد به الفجر، إلى ارتفاع الشمس عن الأفق.
قوله: ( إِنَّهُ أَوَّابٌ) أي: كثير الأوب، وهو الرجوع بالتوبة والتسبيح.
وقوله: (وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَّهُ أَوَّابٌ) كان إذا سبّح اجتمعت الطير حوله تسبّح الله تعالى.
وقوله: (وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ) أي: جعلنا ملكه قويّاً مهيباً مخيفاً.
وقوله: (وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ) أي: القدرة على حلّ النزاعات بما يرضي جميع الأطراف.
وقوله: (إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ) أي: تسلّقوا عليه في مسجده، وكان يغلقه عليه في الليل، يتهجد لله تعالى.
وقوله: (وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ) أي: ألّح علي في ذلك.
وقوله: (فَتَنَّاَه) أي: امتحنّاه.
وقوله: (وَأَنَاب) أي: رجع وتاب.
ولم يخبرنا الله تبارك وتعالى عن الذنب الذي اقترفه نبيه داود عليه السلام، وكل من ادعى معرفة ذلك على وجه التفصيل فهو كاذب، ولكن نستطيع أن نعلم على الظن لا على اليقين، من خلال موعظة الله تعالى لنبيّه، أن نبي الله أعجبه مال رجلٍ من جنّده، فأراد أن يضمّه إلى ماله، إما أن يبيعه إيّاه، أو ويشاركه فيه، ويظهر أن الرجل لم يكن يريد ذلك، ويخشى غضب داود إن هو رفض ذلك، فأراد الله تعالى أن يصرف داود عنه، فنهاه عنه، والله أعلم بحقيقة ما وقع.
وأما ما يرويه رواة اليهود في كتبهم، ورموا به نبي الله داود، ونقله قصّاص المسلمين، مع شيء من التحريف، فهو من كذب رواة اليهود، فإن الأنبياء معصومون من الوقوع في الكبائر، ولكن اليهود، قوم ليس للأنبياء عندهم قدر، ويظنونهم كآحاد الناس، ولا يعتقدون فيهم العِصمَة.
وقوله: (لَزُلْفَى) أي قربى.
وقوله: (خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ) أي: خلّفناك فيها، لتحكم بين الناس نيابة عنّا.