سيرة نوح عليه السلام

قال تعالى في سورة الأعراف: (لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّيَ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ قَالَ الْمَلأُ مِن قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلالٍ مُّبِينٍ قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلالَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي وَأَنصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ أَوَعَجِبْتُمْ أَن جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِّن رَّبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِّنكُمْ لِيُنذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُواْ وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ)

وقال تعالى في سورة يونس: (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُم مَّقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُواْ أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لاَ يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُواْ إِلَيَّ وَلاَ تُنظِرُونِ فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُم مِّنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ)

وقال تعالى في سورة هود: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ أَن لاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ اللَّهَ إِنِّيَ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ فَقَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلاَّ بَشَرًا مِّثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّيَ وَآتَانِي رَحْمَةً مِّنْ عِندِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنتُمْ لَهَا كَارِهُونَ وَيَا قَوْمِ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالاً إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ وَمَا أَنَاْ بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّهُم مُّلاقُوا رَبِّهِمْ وَلَكِنِّيَ أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ وَيَا قَوْمِ مَن يَنصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِن طَرَدتُّهُمْ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ وَلاَ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلاَ أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلاَ أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلاَ أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَن يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْرًا اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنفُسِهِمْ إِنِّي إِذًا لَّمِنَ الظَّالِمِينَ قَالُواْ يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ قَالَ إِنَّمَا يَأْتِيكُم بِهِ اللَّهُ إِن شَاء وَمَا أَنتُم بِمُعْجِزِينَ وَلاَ يَنفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدتُّ أَنْ أَنصَحَ لَكُمْ إِن كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَن يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرَامِي وَأَنَاْ بَرِيءٌ مِّمَّا تُجْرِمُونَ)

قوله: (وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا) الأراذل، هم ضعفة القوم، ومساكينهم، وفقراؤهم، ورعاتهم.

وقوله: (بَادِيَ الرَّأْيِ) أي: ظاهر الرأي، والبادي، معناه: الظاهر، أي: اتبعوك على ما ظهر من قولك، من غير أن يتدبروا أو يتفكّروا.

وقوله: (وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ) أي: لستم من أهل الشرف والسيادة والجاه والمال، ولستم بأعقل وأعلم منّا، والفضل، هو الزيادة. أي: لم تزيدوا علينا في شيء، فكيف نظن أن عندكم علم ليس عندنا.

وقوله: (فعمّيت عليكم) أي: أعماكم الله تعالى عن رؤية الحق، جزاء استكباركم وعتوّكم.

وقوله: (وَمَا أَنَاْ بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُواْ) فيه دليل على أن أشراف قومه، سألوه أن يطرد أولئك الضعفة والمساكين والفقراء والرعاة من مجلسه ليجلسوا إليه.

وقوله: (وَلَكِنِّيَ أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ) وتجهلون بمعنى تخطئون، بمطالبتكم لي بطرد الذين آمنوا من مجلسي، وتخطئون بعدم قبولكم للحق الذي جئت به.

وقوله: (وَمَا أَنتُم بِمُعْجِزِينَ) أي: لن تعجزوا الله تعالى، إذا أراد أن ينتقم منكم، بسبب تكذيبكم لنبيّه، وإعراضكم عن الحقّ الذي جاء به.

وقال تعالى في سورة المؤمنين: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن قَوْمِهِ مَا هَذَا إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُرِيدُ أَن يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شَاء اللَّهُ لَأَنزَلَ مَلائِكَةً مَّا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الأَوَّلِينَ إِنْ هُوَ إِلاَّ رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ)

قوله: (يُرِيدُ أَن يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ) أي:  يريد أن يصير له الفضل عليكم، فيكون متبوعاً وأنتم له تبع.

وقوله: (وَلَوْ شَاء اللَّهُ لَأَنزَلَ مَلائِكَةً) أي: ولو شاء الله أن لا نعبد شيئًا سواه؛ لأنزل ملائكة يدعون الناس إلى عبادة الله وحده، ولم يرسل بشراً منكم، يكون له الفضل عليكم.

وقوله: (مَّا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الأَوَّلِينَ) أي: لم نسمع بمثل ما يدعونا إليه نوح من عبادة الله وحده، في آبائنا الذين مضوا قبلنا.

وقال تعالى في سورة الشعراء: (كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلا تَتَّقُونَ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الأَرْذَلُونَ قَالَ وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ إِنْ حِسَابُهُمْ إِلاَّ عَلَى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الْمُؤْمِنِينَ إِنْ أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ مُّبِينٌ قَالُوا لَئِن لَّمْ تَنتَهِ يَا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ)

قوله: (أَخُوهُمْ نُوحٌ) أي: أنه منهم نسباً، فليس حليفاً لهم، ولا مولى، ذلك أن العرب لا تقول فلان أخو القوم، إلّا إذا كان منهم نسباً.

لا يعرف عن نسب نوح عليه السلام، أكثر من أنه من ولد آدم عليه السلام، إلّا أن رواة اليهود والنصارى، يزعمون أن نوحاً من ولد شيث.

ولا يعرف كم بين نوح وآدم، أو نوح وشيث، من الآباء، ولا يعرف اسم القبيلة التي ينتمي إليها، وكل ما ورد من ذلك في كتب التاريخ الإسلامي، منقول من كتب اليهود، وبعضه موضوع من قِبَل قُصَّاص المسلمين.

وأكثر ما ورد في كتب أهل الكتاب من أنساب مفصّلة، إن لم يكن كلّه، فهو ملفّق موضوع.

ونوح اسم عربيّ، من النًوْحًة والنَيْحَة، وهي: القوة. وقد يكون مشتقاً من النوح، وهو البكاء بصوت، مما يدلّ على أن نوح، عربي اللسان، كأبيه آدم، عليهم السلام.

وقوله: (الْمَرْجُومِينَ) أي: المطرودين.

وقال تعالى في سورة القمر: (كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ)

قوله: (وَازْدُجِر) أي: أن قوم نوحٍ زجروه، ومعنى زجروه، أي: نهروه ونهوه عن الاستمرار في دعوته.

وقال تعالى في سورة نوح: (إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنذِرْ قَوْمَكَ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ يَغْفِرْ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلا وَنَهَارًا فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلاَّ فِرَارًا وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَارًا وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَارًا مَّا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا وَاللَّهُ أَنبَتَكُم مِّنَ الأَرْضِ نَبَاتًا ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ بِسَاطًا لِتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلا فِجَاجًا)

قوله: (وَيُؤَخِّرْكُمْ) أي: يؤخِّر في آجالكم فلا يهلككم بالعذاب، لا بغَرَق ولا غيره.

وقوله: (إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى) أي: إلى الحين الذي سمّاه، أي: كتب أنه يبقيكم إليه، بمعنى يتمّ لكم أعماركم، ولا ينقصكم منها شيئاً، إن أنتم أطعتموه وعبدتموه، في أمّ الكتاب.

وقوله: (إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لا يُؤَخَّرُ) أي:أن أجل الله الذي قد كتبه على خلقه في الكتاب، إذا جاء عنده، لا يُؤخر عن ميقاته.

وقوله: (فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَارًا وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَارًا) أي: أن كثرة الاستغفار، سبب في حلول البركة، وكثرة الخيرات.

وقوله: (مَّا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا) أي: ما لكم لا تعظّمون الله تعالى، والوقار، الهيبة والعظمة.

وقوله: (وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا) أي: طور بعد طور، والطور هو المرحلة، أي: كنتم نطفاً في أصلاب أبائكم وأرحام أمهاتكم، ثم صرتم علقة، ثم صرتم مضغة مخلقة وغير مخلقة، ثم صرتم عظاماً، ثم كُسِيَت عظامكم لحماً، ثم أُخْرِجتم من بطون أمهاتكم أطفالاً.

وقوله: (وَاللَّهُ أَنبَتَكُم مِّنَ الأَرْضِ نَبَاتًا) أي: خلق أباكم آدم من تراب الأرض، ثم جعل طعامكم الذي تنبت أجسامكم منه ينبت منها أيضاً.

وقوله: (ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا) أي: يعيدكم فيها بالدفن بعد الموت، ثم يخرجكم منها عند البعث، وقوله: (إِخْرَاجَاً) للتوكيد.

وقوله: (لِتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلا فِجَاجًا) أي: طرقاً واسعة، فالسبيل معناه الطريق، والفجّ معناه الواسع.

وقال تعالى في سورة الأعراف: (فَكَذَّبُوهُ فَأَنجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْمًا عَمِينَ)

قوله: (الْفُلْكِ) أي: السفينة.

وقال تعالى في سورة يونس: (فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَمَن مَّعَهُ فِي الْفُلْكِ وَجَعَلْنَاهُمْ خَلائِفَ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنذَرِينَ)

قوله: (وَجَعَلْنَاهُمْ خَلائِفَ) أي: جعل للمؤمنين الذي صعدوا في الفلك مع نوح عليه السلام، ذريّةً يخلف بعضهم بعضاً على هذه الأرض، وفي هذا دليل، على أن من آمن مع نوح، لم تنقطع أعقابهم مباشرة، بل توالدوا وتناسلوا.

وقال تعالى في سورة هود: (وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إِلاَّ مَن قَدْ آمَنَ فَلاَ تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلاَ تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُواْ إِنَّهُم مُّغْرَقُونَ وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلأٌ مِّن قَوْمِهِ سَخِرُواْ مِنْهُ قَالَ إِن تَسْخَرُواْ مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُّقِيمٌ حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ وَقَالَ ارْكَبُواْ فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَب مَّعَنَا وَلاَ تَكُن مَّعَ الْكَافِرِينَ قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاء قَالَ لاَ عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلاَّ مَن رَّحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاء أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاء وَقُضِيَ الأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ وَنَادَى نُوحٌ رَّبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلاَ تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلاَّ تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُن مِّنَ الْخَاسِرِينَ قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِّنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِّمَّن مَّعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُم مِّنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ)

وقوله: (وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلأٌ مِّن قَوْمِهِ سَخِرُواْ مِنْهُ) أي: يسخرون منه، لأنه يصنع السفينة في مكان لا بحار فيه.

وقوله: (حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا) أي: أمر الله بعذابهم.

وقوله: (وَفَارَ التَّنُّورُ) أي: أن الله تعالى جعل علامة بداية العذاب أن يفور التنور ماءً، والتنور، وجمعه تنانير، هي الأفران المبنيّة بالطين، والمعدّة لخبز الخبز، حيث يوقد الخبّاز النار في داخل التنور، لطهي الخبز، فعادة التنانير تفور فيها النيران، فإذا كانت التنانير تفور ماءُ، كانت هذه علامة بارزة، لمخالفتها ما جرت به عادة التنانير، فجعلها الله علامة بينه وبين نوح، أن هذا إيذان ببداية الطوفان.

وقوله: (قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ) أي: أمره أن يحمل من كل نوع من الدواب البريّة والطيور، ذكرين وأنثيين. وهذا يدل على أن الطوفان، عَمّ جميع الأرض، لأنه لو لم يًعمّ جميع الارض، ما أحوج الله تعالى نوحا إلى حمل زوجين اثنين من كل نوع من الحيوانات.

وقوله: (وَأَهْلَكَ) أي: أهل بيته، والأهل يطلق على الزوجة والأبناء والبنات.

وقوله: (إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ) أي: من سبق في علم الله أنه لا يؤمن، وأنه سوف يهلك مع الهالكين، والمراد به هنا زوجة نوح وأحد أبناءه، لأنهما كانا كافرين.

ويزعم رواة اليهود، أن زوجة نوح كانت فيمن ركب السفينة معه، وهذا كذب؛ لأنها لم تكن مؤمنة، ولم يركب السفينة مع نوح إلا من آمن، وأهل نوح، إلّا من استثنى الله تعالى، وهم الكفرة من أهل بيته، والذي تبيّن من خلال آيات القرىن الكريم، أنهم زوجته وأحد أبنائه.

والصابئة، يزعمون أن اسم ابن نوح الهالك: يام. وقد انفردوا بهذا القول.

بينما يجمع رواة أهل الكتاب، بأن لنوح ثلاثة أبناء أخرين، وهم: سام وحام ويافث.

ولم يرد ذكر لاسم زوجة نوح في القرآن الكريم، أو الأحاديث النبويَّة، وأما رواة اليهود والنصارى، فيختلفون في اسمها على عِدَّة أقوال، فأحياناً يسمونها: أيمزارا، وأحياناً: أميزارا، وأحياناً: بارثين، وأحياناً: هايكال، وأحياناً: سِتّ، وأحياناً: نِعْمَة.

وأما الصابئة، فيزعمون أن نوحاً تزوّج بامرأتان، هما: نهريثا ورُها.

ويدعي الصابئة، أن نهريثا هي أم سام، بينما رها، هي أم يافث وحام ويام.

ويمكن الجمع بين هذه الأقوال، بأن نوحا، كان متزوِّجا بامرأتين: فأما أحدهما، فأنجبت له: يافث وحام ويام، وأما الأخرى، فأنجبت له: سام. حيث كان يام وأمه كافرين، وهلكا في الطوفان، وبقي ابناه: يافث وحام، كما بقيت زوجته الأخرى، وابنها سام.

وهناك احتمال أخر، وهو: ان نوحاً كان متزوّجاً بأم يافث وحام ويام، قبل الطوفان، ثم تزوّج نوح أم سام، بعد الطوفان، لأنني لا أظن أنه سوف يبقى أعزباً بعد الطوفان، وهذا يعني أن سام لم يدرك الطوفان، بل ولد بعده. ولعل هذا يفسّر لنا أن الصابئة، لم يذكروا أن أمه أنجبت سواه، فيكون نوح، لم ينجب سام إلا على كِبَر. ولكن، قد يقول قائلٌ: قد يكون تزوّجها قبل الطوفان، ولم تنجب له ولدا ذكرا سوى سام، بينما بقيّة ولدها منه، إناث. وهذا محتمل. 

والحقيقة أن جميع ما ذكر عن أسماء زوجات نوح وأبنائه، لا يمكن الوثوق به، ولو صحّت، فلا يمكن التأكيد على صحة ترجمة أسماء زوجات نوح، لأنها مترجمة عن لغة أعجمية، بينما تبدو أسماء أبناء نوح، أسماء مقبولة لفظاً، ولكن أقرب الأسماء إلى الصحة، هي: نِعمَة، ورُها، خصوصاً وأنها أسماء عربيّة، فتكون رُها هي أم يافث وحام ويام، بينما نِعمَة، هي أم سام.

وكل ما سبق، مجرد افتراضات لا أكثر.

وقوله: (وَمَنْ آمَنَ) أي: واحمل معك من آمن من قومك.

وقوله: (وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ) أي: اعتدلت في استقرارها على جبل الجودي، وجبل الجودي، جبل بالجزيرة الفراتية، قاله مجاهد، رواه البخاري. والعرب لا تقول استوى الشيء على الشيء، إلّا إذا كان مستقراً عليه، مماسّاً له.

وقال تعالى في سورة الأنبياء: (وَنُوحًا إِذْ نَادَى مِن قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ)

وقال تعالى في سورة المؤمنين: (قَالَ رَبِّ انصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ فَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا فَإِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيهَا مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ وَلا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُم مُّغْرَقُونَ فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنتَ وَمَن مَّعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانَا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ وَقُل رَّبِّ أَنزِلْنِي مُنزَلا مُّبَارَكًا وَأَنتَ خَيْرُ الْمُنزِلِينَ)

وقال تعالى في سورة الفرقان: (وَقَوْمَ نُوحٍ لَّمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْنَاهُمْ وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً وَأَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ عَذَابًا أَلِيمًا)

وقال تعالى في سورة الشعراء: (قَالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحًا وَنَجِّنِي وَمَن مَّعِي مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَأَنجَيْنَاهُ وَمَن مَّعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ ثُمَّ أَغْرَقْنَا بَعْدُ الْبَاقِينَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ)

قوله: (الْمَشْحُونِ) أي: الممتلئ، بالإنس والدواب والطيور.

وقال تعالى في سورة العنكبوت: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلاَّ خَمْسِينَ عَامًا فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ فَأَنجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْنَاهَا آيَةً لِّلْعَالَمِينَ)

قوله: (فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلاَّ خَمْسِينَ عَامًا) أي: أنه مكث يدعو قومه خمسين وتسعمائة سنة، وصدر الآية، يدل على أن هذه المدّة، هي المدّة التي مكثها نوح في دعوة قومه إلى الإسلام، لا أنه عمر نوح كُلُه، ولم يرد في الكتاب ولا في السنّة الصحيحة، ما يدلنا كم عاش نوح عليه السلام.

وقال تعالى في سورة الصافات: (وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمْ الْبَاقِينَ وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخِرِينَ سَلامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ ثُمَّ أَغْرَقْنَا الآخَرِينَ)

قوله: (وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ) يثني الله تعالى على نفسه.

وقوله: (الْكَرْبِ) أي: الهمّ.

وقوله: (وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمْ الْبَاقِينَ) أي: جعلنا ذريّة نوح هي الذُريَّة الباقية، فكل من بقي اليوم، هو من ولد نوح فقط، دون غيره من المؤمنين، وهذا لا يعني أن المؤمنين الذين آمنوا معه لم يكن له ذرية، بل كانت لهم ذرية، وإنما تكاثر بنو نوح وأبناء المؤمنين الذين آمنوا معه، حتى صاروا أمة من الناس، فأخذت أعقاب من آمن مع نوح تنحسر وتقل شيئاً فشيئاً، يقابل ذلك ثراءً وازدياداً في ذرية نوح، حتى لم يبقى من ذرية من آمن مع نوح أحد، فكان جميع من بقي من الناس، هم من ولد نوح عليه السلام.

وقوله: (وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخِرِينَ) أي: تركنا له ذَكراً حسناً في الأجيال التي جاءت بعده.

وقال تعالى في سورة القمر: (فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانتَصِرْ فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاء بِمَاء مُّنْهَمِرٍ وَفَجَّرْنَا الأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاء عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاء لِّمَن كَانَ كُفِرَ وَلَقَد تَّرَكْنَاهَا آيَةً فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ)

قوله: (فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاء بِمَاء مُّنْهَمِرٍ) أي: أن الماء الذي صبّ على قوم نوح، أرسله الله تعالى من فوق السماء الدنيا، أنشأ الله سحابه من حيث يشاء، وفتحت له أبواب السماء حتى اجتمع فوق رؤوسهم، وانهمر عليهم.

وقوله: (وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ) أي: على السفينة، والدُسُر، هي المسامير.

وقوله: (وَلَقَد تَّرَكْنَاهَا آيَةً فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ) أي: تركناها آية لمن بعدهم.

عن قتادة قال: ألقى الله سفينة نوح على الجوديّ حتى أدركها أوائل هذه الأمة.

رواه الطبري.

قلت: في قوله نظر، والذي يظهر لي، أن المراد بذلك، أن الله تعالى أبقى أثر السفينة على جبل الجودي، فهو موجود إلى اليوم.

وقال تعالى في سورة التحريم: (ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا لِّلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَةَ نُوحٍ وَامْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ)

قوله: (فَخَانَتَاهُمَا) أي: خانتاهما في دعوتهما، فكذبتا بما جاء به أزواجهن من الحق.

وقوله: (فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا) أي: لم يغني عنهما من الله تعالى، أن كانتا زوجتا نبيّين من أنبياءه، فلم يكفّ عنهما العذاب، وهذا دليل، على أن قرابة الأنبياء لا تغني عن الكافر والفاسق شيئاً، وإنما يغني عن العبد طاعته لربه.

وقال تعالى في سورة نوح: (قَالَ نُوحٌ رَّبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَن لَّمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلاَّ خَسَارًا وَمَكَرُوا مَكْرًا كُبَّارًا وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُوَاعًا وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلاَّ ضَلالا مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا فَلَمْ يَجِدُوا لَهُم مِّن دُونِ اللَّهِ أَنصَارًا وَقَالَ نُوحٌ رَّبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا إِنَّكَ إِن تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلاَّ فَاجِرًا كَفَّارًا رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَن دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلاَّ تَبَارًا)

قوله: (وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُوَاعًا وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا) أي: أصنامهم التي يعبدون من دون الله تعالى، ويتخذونها وسائط وشفعاء لهم عند الله تعالى.

عن عبدالله بن عباس رضي الله عنهما قال: "أسماء رجال صالحين من قوم نوح، فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم، أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون أنصابا وسموها بأسمائهم، ففعلوا، فلم تعبد، حتى إذا هلك أولئك وتنسخ العلم عبدت".

رواه البخاري. 

وعن عبدالله بن عباس قال: "صارت الأوثان التي كانت في قوم نوح في العرب بعد، أما ود كانت لكلب بدومة الجندل، وأما سواع كانت لهذيل، وأما يغوث فكانت لمراد، ثم لبني غطيف بالجوف، عند سبإ، وأما يعوق فكانت لهمدان، وأما نسر فكانت لحمير لآل ذي الكلاع".

رواه البخاري.

فإن قيل: كيف وصلت أصنام قوم نوح إلى العرب؟

فالجواب: أن هذه الأصنام لما ضربها الطوفان، تَدفّّنّت في بطحاء تهامة، قريب مكّة، فلما كثر ولد إسماعيل بتهامة، ودخلهم الشرك وعبادة الأوثان، وكثر فيهم الكهنة والمشعوذون، دلّتهم شياطينهم على هذه الأصنام، وأخبرتهم بأسمائها، وأمرتهم أن يدعو العرب إلى عبادتها، فنصبوها بمكة، ودعوا الناس إلى عبادتها، واحتاروا من كل أهل ناحية حيّاً من العرب، فأعطوه صنماً ليعبدوه، ويدعو أهل ناحيتهم لعبادته.

وهذا يدل على أن نوحا وقومه كانوا يقيمون بمكة ونواحيها، وإلا لما تدفّنت اصنامهم ببطحاء مكة.

ولهذا فإن السفينة أقلعت من مكة حتى استوت على الجودي، أي أنها قطعت ما يقارب ألف ميل.

وقوله: (رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ) دعا لوالديه بالمغفرة، وقد يكون دعاء نوح لوالديه قبل أن يتوفيا، وقد يكونا ماتا على الإسلام، فدعا لهما بالمغفرة.

وأما ما روي من أن نوحا لما انتهى الطوفان، بعث الغراب، فلم يعد، ثم بعث الحمامة، فجاءت وفي رجليها طين، وفي فمها غصن زيتون، فهذا من أوضاع الرواة، فهذه الرواية توحي وكأن نوحا والذين معه، لا يستطيعون الخروج من السفينة، ولا يستطيعون رؤية الأرض، ومعرفة ما إذا جفّت من الماء أم لا! وهنا نتسائل: فكيف إذا استطاع أن يطلق الغراب والحمامة؟! وكيف استطاعتا أن تخرجا من السفينة؟! إن في هذا دليل قاطع، على كذب هذه الرواية، وأنها مختلقة.

والله أعلم وأحكم.