هل إدريس هو أخنوخ؟ وهل هو هرمس؟

يزعم بعض رواة المسلمين أن إدريس هو أخنوخ.

والذي دفعهم إلى ذلك، هو ما ذكره رواة اليهود، من أن أخنوخ كان نبيّاً بعث قبل نوح عليه السلام، ونسبوا له سفر أسموه سفر أخنوخ.

وورد في هذا السفر أن أخنوخ رفع بروحه وجسده إلى السماوات، فهو بها إلى قيام الساعة!

ورواة اليهود يزعمون أنه كان أباً من آباء نبي الله نوح عليه السلام، وتبعهم على ذلك قصّاص المسلمين!

والصابئة يسمونه: دنانوخت.

وهذا السفر من الواضح أنه موضوع، وضعه أحد وعّاظ اليهود، أو أحد وعّاظ النصارى، لذلك حتى اليهود والنصارى، لم يقبلوا ذاك السفر، لكثرة الأكاذيب التي حشي بها.

مما يرجح أن شخصية أخنوخ أو دنانوخت شخصيّة أسطورية أكثر منها واقعية، أو ربما كان نبيّاً ولكن تم العبث بسيرته من قبل رواة القوم حتى انحرفت بالكليّة.

وقد لا يكون نبيّاً، قد يكون رجلاً، ولا يشترط أن يكون صالحاً، قد يكون صالحاً وعالماً من العلماء، وقد يكون طالحاً ودجّال من الدجاجلة.

وأيّاً يكن، فإن السفر المنسوب له، مختلق، ودعوى أنه رفع إلى السماء بروحه وجسده كذب، ويظهر أن من ادعى ذلك من رواة اليهود، أراد أن ينحل أخنوخ شرف الرفع إلى السماء حيّاً، عوضاً عن عيسى الذي لم يكن معترفاً به من قبل اليهود! بينما نحل يهوديٌ أخر هذا الشرف - أعني شرف الرفع إلى السماء حياً - إلى إلياس عليه السلام! والحقيقة أنه لم يرفع إلى السماء سوى عيسى عليه السلام، وما رفعه الله إلى السماء حيّاً، إلّا لغاية، فلأي سبب يُرفع أخنوخ وإلياس؟!

ولأن الله تعالى قال عن إدريس: (وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا) [مريم].

فلما رأى رواة المسلمين أن رواة اليهود يزعمون أن أخنوخ رفع بروحه وجسده، وأن الله قال عن إدريس بأنه رفعه مكاناً عليّا، رجّحوا أن يكون إدريس هو أخنوخ، وأن مراد الله تعالى من أنه رفع إدريس، أي: أنه رفعه بروحه وجسده.

ولا أدلّ على بطلان هذا القول، من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في حديث المعراج: "ثم صعد بي حتى أتى السماء الرابعة، فاستفتح، قيل: من هذا؟ قال: جبريل، قيل: ومن معك؟ قال: محمد، قيل: أوقد أرسل إليه؟ قال: نعم، قيل: مرحبا به؛ فنعم المجيء جاء، ففتح، فلما خلصت إلى إدريس، قال: هذا إدريس فسلم عليه، فسلمت عليه، فرد ثم قال: مرحبا بالأخ الصالح والنبي الصالح".

رواه البخاري وغيره.

والشاهد من الحديث هو قول إدريس للنبي: "مرحبا بالأخ الصالح والنبي الصالح" فلو كان إدريس والدٌ للنبي صلى الله عليه وسلم كما يزعمون، لقال له كما قال آدم وإبراهيم عليهما السلام: "مرحبا بالابن الصالح والنبي الصالح" ولكنه لم يقل ذلك، بل قال: "مرحبا بالأخ الصالح" فدلّ هذا دلالة قطعيّة أنه ليس والداً له.

وقد حاول البعض تعليل ذلك، فقال: لعل إدريس قال للنبي صلى الله عليه وسلم: "مرحبا بالأخ الصالح" من باب التواضع! وأقول: هل من التواضع أن يقول الأب لابنه: مرحبا بالأخ الصالح! هذا لا يعقل ولا يكون.

ولا يقف الأمر عند هذا الحدّ.

فرواة اليهود يزعمون أن أخنوخ هذا هو هرمس.

وهرمس لا علاقة له بأخنوخ أو دنانوخت، لأن هرمس هذا، كان تلميذاً لزردشت مؤسس الديانة الزردشتية المجوسية، وزردشت فيلسوف ملحد، نشأ ببلاد العراق، يقال أنه كان من أهل بابل، ودعا الناس إلى عبادة الطبيعة، حيث يزعم أن الإله حلّ في الطبيعة، واتحد معها، وأن الإله هو الوجود والوجود هو الإله، وأمر الناس بتقديس النار، لأنها عنده أعظم الموجودات، وأكثرها نفعاً، هذا مع كونه كان مشعوذاً دجالاً، وساحراً ممخرقاً، وما دعا الناس إلى نحلته الرديئة، إلا بأمر من شياطينه، وما دعاهم إلى تقديس النيران، إلا طاعة لهم، وتعظيماً لعنصرهم الذي خلقوا منه. 

فتلقى هرمس هذا تعاليمه من زردشت، وانتقل إلى مصر، وتنقل بين الإسكندرية وصعيد مصر الأعلى، وبث سمومه هناك، وصنف الكثير من الكتب في الفلسفة والسحر والشعوذة، فذاع أمره، ووفد إليه طلاب الحكمة، يظنونها عنده، فعظم شأنه، وعلت منزلته، حتى صار أسطورة تذكر عبر الأجيال.

وينسب الفلاسفة إلى هرمس هذا، اختراع الكتابة والموسيقى والتنجيم والأوزان والمقادير. وكلّ هذا اختراع وتلفيق، وتفخيم لهذه الشخصيّة التي يعظمونها، إذ يعتبر هرمس هذا من كبار الفلاسفة، حتى أطلقوا عليه لقب: مثلّث الحكمة.

فلما اختلط اليهود بالفلاسفة، وتأثروا بهم، ورأوا الفلاسفة يصفون هرمس بأنه من كبار الحكماء، مع ما أتي هرمس من ذيوع الصيت، أرادوا أن يجعلوه من أنبياءهم، فزعموا أن هرمس هذا هو أخنوخ، وورث عنهم هذا القول، النصارى والصابئة، واللتان تعتبران طائفتان منشقتان عن اليهودية.

أما رواة المسلمين، فإنهم نظروا إلى وصف الفلاسفة لهرمس بانه أوّل من اخترع الكتابة، ثم نظروا في اسم إدريس، وإذ هو مشتق من الدراسة، فاستظهروا أنه ما سمّي بذلك إلّا لأنه كان مجيداً للكتابة، ثم رجّحوا أن إدريس لم يوصف بأنه كان مجيداً للكتابة، إلّا لأنه أوّل من اختراع الكتابة - وهذه محاولة منهم لتقريب إدريس من هرمس - وهنا استنتجوا أن إدريس هو هرمس، وبما أن فلاسفة اليهود يزعمون أن أخنوخ هو هرمس، للسبب الذي قدّمنا، فبالتالي استنتجوا أن إدريس هو هرمس وهو أخنوخ في نفس الوقت.

لذلك فمن زعم أن إدريس بعث قبل نبي الله نوح عليه السلام، فإنما اعتمد على ظنّه أن إدريس هو أخنوخ، وأما وقد ثبت بطلان ذلك، وأن هذا مجرد ظنون وأوهام، فالحقيقة أنه لا يعرف متى بعث إدريس عليه السلام، ولا إلى أي أمّة بعث.

ولم يقف رواة المسلمين عند هذا الحدّ، حتى زعموا أن إدريس هو إلياس، وقد بيّنت بطلان هذا القول، أثناء الحديث عن نبي الله إلياس عليه السلام، فجعل رواة المسلمين إدريس هو إلياس وهو هرمس وهو أخنوخ، وكل هذا أوهام وتلفيق.

والعجيب أن البخاري رحمه الله، ممن أخذ بقول من يقول بأن إدريس هو أخنوخ، وأنه أحد أجداد نبي الله نوح، فقال في صحيحه: "وهو جد أبي نوح، ويقال جد نوح، عليهما السلام" اهـ 

وهذا دليل على أنه لم يأخذ بتلك الرواية عن ابن مسعود وابن عباس في أن إدريس هو إلياس.

ولكنه أيضاً أخطأ بأخذه لرواية من يقول بأن إدريس هو أخنوخ، لأن هذه أبعد عن الصواب، بعداً لا يمكن معه تصديقها، لما أخبر عنه النبي في الحديث الصحيح الذي رواه البخاري نفسه، وغيره، من أن النبي لما مرّ على إدريس في السماء الرابعة، قال له إدريس: "مرحباً بالأخ الصالح والنبي الصالح". 

وهذا دليل على أن إدريس ليس أباً للنبي محمد صلى الله عليه وسلم، بل أخوه.

فثبت بذلك أنه لا علاقة لإدريس بأخنوخ، وأن أخنوخ شخصيّة قد تكون أسطوريّة، فلا أحد يعلم حقيقة ما أسماء الآباء الذين بين نوح وآدم عليهما السلام، ولا كم عددهما، وكل ما عثر عليه في التراث منقول عن رواه اليهود.

والله أعلم وأحكم.