قال تعالى في سورة المائدة: (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِن أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ لَئِن بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَاْ بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ إِنِّي أُرِيدُ أَن تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاء الظَّالِمِينَ فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ)
ولم يبيّن الله تبارك وتعالى لنا في كتابه العزيز اسم ابني آدم، ولا ما هي القرابين التي قدماها، ولا كيف عرفا أن الله تقبل قربان أحدهما ولم يتقبل قربان الأخر، ولم يرد في ذلك خبر صحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم.
إلّا أن اليهود رووا خبر ابني آدم بزياداتٍ الله أعلم بصحتها، وهي لا تخلوا من شيء من أكاذيبهم التي كانوا يضيفونها إلى قصص الماضين.
فقد جاء في تاريخ اليهود ما نصّه: "وَعَرَفَ آدَمُ حَوَّاءَ ٱمْرَأَتَهُ فَحَبِلَتْ وَوَلَدَتْ قَايِينَ. وَقَالَتِ: «ٱقْتَنَيْتُ رَجُلًا مِنْ عِنْدِ ٱلرَّبِّ». ثُمَّ عَادَتْ فَوَلَدَتْ أَخَاهُ هَابِيلَ. وَكَانَ هَابِيلُ رَاعِيًا لِلْغَنَمِ، وَكَانَ قَايِينُ عَامِلًا فِي ٱلْأَرْضِ. وَحَدَثَ مِنْ بَعْدِ أَيَّامٍ أَنَّ قَايِينَ قَدَّمَ مِنْ أَثْمَارِ ٱلْأَرْضِ قُرْبَانًا لِلرَّبِّ، وَقَدَّمَ هَابِيلُ أَيْضًا مِنْ أَبْكَارِ غَنَمِهِ وَمِنْ سِمَانِهَا. فَنَظَرَ ٱلرَّبُّ إِلَى هَابِيلَ وَقُرْبَانِهِ، وَلَكِنْ إِلَى قَايِينَ وَقُرْبَانِهِ لَمْ يَنْظُرْ. فَٱغْتَاظَ قَايِينُ جِدًّا وَسَقَطَ وَجْهُهُ. فَقَالَ ٱلرَّبُّ لِقَايِينَ: «لِمَاذَا ٱغْتَظْتَ؟ وَلِمَاذَا سَقَطَ وَجْهُكَ؟ إِنْ أَحْسَنْتَ أَفَلَا رَفْعٌ؟ وَإِنْ لَمْ تُحْسِنْ فَعِنْدَ ٱلْبَابِ خَطِيَّةٌ رَابِضَةٌ، وَإِلَيْكَ ٱشْتِيَاقُهَا وَأَنْتَ تَسُودُ عَلَيْهَا». وَكَلَّمَ قَايِينُ هَابِيلَ أَخَاهُ. وَحَدَثَ إِذْ كَانَا فِي ٱلْحَقْلِ أَنَّ قَايِينَ قَامَ عَلَى هَابِيلَ أَخِيهِ وَقَتَلَهُ. فَقَالَ ٱلرَّبُّ لِقَايِينَ: «أَيْنَ هَابِيلُ أَخُوكَ؟» فَقَالَ: «لَا أَعْلَمُ! أَحَارِسٌ أَنَا لِأَخِي؟» فَقَالَ: «مَاذَا فَعَلْتَ؟ صَوْتُ دَمِ أَخِيكَ صَارِخٌ إِلَيَّ مِنَ ٱلْأَرْضِ. فَٱلْآنَ مَلْعُونٌ أَنْتَ مِنَ ٱلْأَرْضِ ٱلَّتِي فَتَحَتْ فَاهَا لِتَقْبَلَ دَمَ أَخِيكَ مِنْ يَدِكَ. مَتَى عَمِلْتَ ٱلْأَرْضَ لَا تَعُودُ تُعْطِيكَ قُوَّتَهَا. تَائِهًا وَهَارِبًا تَكُونُ فِي ٱلْأَرْضِ». فَقَالَ قَايِينُ لِلرَّبِّ: «ذَنْبِي أَعْظَمُ مِنْ أَنْ يُحْتَمَلَ. إِنَّكَ قَدْ طَرَدْتَنِي ٱلْيَوْمَ عَنْ وَجْهِ ٱلْأَرْضِ، وَمِنْ وَجْهِكَ أَخْتَفِي وَأَكُونُ تَائِهًا وَهَارِبًا فِي ٱلْأَرْضِ، فَيَكُونُ كُلُّ مَنْ وَجَدَنِي يَقْتُلُنِي». فَقَالَ لَهُ ٱلرَّبُّ: «لِذَلِكَ كُلُّ مَنْ قَتَلَ قَايِينَ فَسَبْعَةَ أَضْعَافٍ يُنْتَقَمُ مِنْهُ». وَجَعَلَ ٱلرَّبُّ لِقَايِينَ عَلَامَةً لِكَيْ لَا يَقْتُلَهُ كُلُّ مَنْ وَجَدَهُ. فَخَرَجَ قَايِينُ مِنْ لَدُنِ ٱلرَّبِّ، وَسَكَنَ فِي أَرْضِ نُودٍ شَرْقِيَّ عَدْنٍ". اهـ
وقوله: "فَقَالَ ٱلرَّبُّ لِقَايِينَ" يوحي بأن الله تعالى كان يكلم قايين مكافحة، ليس بينه وبينه وسيط، وإذا كان الله سبحانه وتعالى، يتعالى عن أن يكلم أنبيائه مكافحة، إلا من شاء منهم، كما كلم آدم وموسى، فما بالك بمن ليس هو نبي، بل ولم يكن من الصالحين أيضاً، فهذا أبعد من أن يكلّمه الله كفاحاً.
ومع أن القصص الديني، وهذا موجود في القرآن الكريم، تأتي أحياناً بصيغة تفيد بأن الله تعالى يتكلم مع نبيه، إلا أنه لا يريد بذلك الكلام معه مكافحة، وإنما عن طريق واسطة أو منامٍ أو بالإلهام، إلا أنه كما يتّضح من هذا النص اليهودي، أنهم يريدون بذلك، أن الله تعالى كلم قايين كفاحاً، وهذا هو الباطل حقاً.
ولكن، من الذي كلّم قايين؟ هل هو ملاك مرسلٌ من الله؟ أم أن أباه هو من سأله عن ذلك بوحيٍ من الله تعالى؟ الراجح، أن أباه هو من سأله عن ذلك بأمر من الله تعالى له بذلك، مما فضح قايين، وأبان عن أنه قتل أخاه. ويُستبعد أن يكون ملاكاً، فالملائكة لا تنزل إلّا على أنبياء الله تعالى.
وقوله: "لَا أَعْلَمُ! أَحَارِسٌ أَنَا لِأَخِي؟!" يظهر أن هذا القول، ظهر منه بسبب ما أصابه من الجزع، فأراد أن يتظاهر بالقوّة والثقة بالنفس، كي لا يُشكّ فيه.
وقوله: "وَجَعَلَ ٱلرَّبُّ لِقَايِينَ عَلَامَةً لِكَيْ لَا يَقْتُلَهُ كُلُّ مَنْ وَجَدَهُ". والمراد بقوله: "عَلَاَمَة" أي: علامة تفيد أن الله تعالى نهى عن قتله، والقَصاص منه، والمراد بقوله: "كُلُّ مَنْ وَجَدَهُ" أي: آدم وبنيه، لأنه لم يكن هناك إنسيٌّ على وجه الأرض سوى آدم أبيه، وإخوته أبناء آدم.
وقوله: "وَسَكَنَ فِي أَرْضِ نُودٍ شَرْقِيَّ عَدْنٍ". وهذا النصّ يفيد أن جنّة عدن التي أسكنها آدم عليه السلام في الأرض وليست الجنّة التي في السماء، ومن هنا أخذت بعض الفرق الضالة في الإسلام القول بأن الجنّة التي أدخلها آدم ليست في السماء بل هي جنة كان قد أعدها الله له في الأرض، وهذا هراء، وباطل، بنصّ القرآن العظيم والأحاديث النبويّة الصحيحة، ومع أن من زعم أن الجنّة التي أُدخِلها آدم في الأرض أدلى ببعض الأخبار التي تشير إلى ذلك، إلا أن تلك الأخبار باطلة من جهة السند، والأحاديث الصحيحة تثبت بأن الجنّة التي أدخلها آدم، كانت الجنّة السماوية.
وأما كيف علما بقبول قربان أحدهما ورفض قربان الأخر، فلا يخرج عن أمرين:
الأول: أن الله أوحى إلى آدم بذلك، فأخبرهما، ليزداد المحسن إحساناً، ويراجع المسيء نفسه.
والثاني: أن الله جعل للعبد علامة يعرف بها قبول قربانه، فإذا لم يرى هذه العلامة، فهذا دليل على عدم قبول القربان.
ويظهر من الآيات، أن هابيل، كان أول ميّتٍ وأول قتيل من بني آدم، بل إنه قُتِل قبل موت أبيه آدم عليه السلام، بدليل أن قايين لم يدري كيف يصنع به بعد موته، حتى أراه الغراب، كيف يدفن أخاه، ويواريه بالتراب، فلو كان هناك ميِّت قبل هابيل، لعرف قايين كيف يدفن أخاه؛ لأن أباه كان ولا بد أنه سوف يخبرهم بما علَّمه ربه، كيف يدفن الميّت.
وعن عبدالله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تُقتَل نفسٌ ظلمًا، إلا كان على ابن آدم الأول كِفل من دمها، لأنه كان أول من سن القتل".
رواه البخاري ومسلم.
وهذا يدل على أن القاتل لم يتب من فعلته، وإنما شعر بالسوء لمّا لم يستطع أن يعرف كيف يتخلص من جثمان أخيه.
وقوله تعالى: (فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِینَ) أي: بعد موته، ندم حيث لا ينفع الندم، عندما عاين سوء عاقبة قتله لأخيه في قبره.
لأن التائب من الذنب كمن لا ذنب له، وإذا زال الذنب زالت عقوباته وموجباته؛ إلّا أن يكون في حق أحد من خلق الله، فإنه لا محالة سوف يقتص منه، إلا أن يشاء الله تعالى، ولكن التائب من الذنب لا يؤاخذ إن شاء الله بما أحدث أو سنّ، ويكون كل من قلّده على فعلته متحملاً لخطيئة نفسه.
والدليل على أن القاتل له توبة، ما رواه البخاري ومسلم عن أبي سعيد الخدري، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "كان فيمن كان قبلكم رجل قتل تسعة وتسعين نفسًا، فسأل عن أعلم أهل الأرض فدُل على راهب فأتاه فقال: إنه قتل تسعة وتسعين نفسًا، فهل له من توبة؟ فقال: لا، فقتله فكمل به مائة، ثم سأل عن أعلم أهل الأرض، فدُل على رجل عالم، فقال: إنه قتل مائة نفس، فهل له من توبة؟ فقال: نعم، ومن يحول بينه وبين التوبة؟ انطلق إلى أرض كذا وكذا، فإن بها أناسًا يعبدون الله تعالى فاعبد الله معهم، ولا ترجع إلى أرضك، فإنها أرض سوء، فانطلق حتى إذا نصف الطريق أتاه الموت، فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب، فقالت ملائكة الرحمة: جاء تائبًا مقبلاً بقلبه إلى الله تعالى، وقالت ملائكة العذاب: إنه لم يعمل خيرًا قط، فأتاهم ملك في صورة آدمي، فجعلوه بينهم -أي حكمًا- فقال: قيسوا ما بين الأرضيْن، فإلى أيتهما كان أدنى فهو له، فقاسوه فوجدوه أدنى إلى الأرض التي أراد، فقبضته ملائكة الرحمة".
رواه مسلم.
وفي رواية البخاري: "كان في بني إسرائيل رجل قتل تسعة وتسعين إنسانا، ثم خرج يسأل، فأتى راهبا فسأله فقال له: هل من توبة؟ قال: لا، فقتله، فجعل يسأل، فقال له رجل: ائت قرية كذا وكذا، فأدركه الموت، فناء بصدره نحوها، فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب، فأوحى الله إلى هذه أن تقربي، وأوحى الله إلى هذه أن تباعدي، وقال: قيسوا ما بينهما، فوجد إلى هذه أقرب بشبر، فغفر له".
وروي عن أبي عبيدة بن عبدالله بن مسعود، عن أبيه عبدالله بن مسعود، أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "التائب من الذنب كمن لا ذنب له".
ورجاله كلهم ثقات، إلا أن أبا عبيدة لم يسمع من أبيه عبدالله، فالسند منقطع، إلا أنه سمع من كبار أصحاب أبيه، فالحديث إسناده حسن على أقل تقدير.
ويدّعي رواة اليهود والنصارى، أن الله تتبارك وتعالى رزق أدم وحواء بعد مقتل هابيل، بولد أسمياه: شيث. وزعموا أن معناه: العِوَض. أي: أن الله تعالى عَوَّضَهم به عن ابنهم هابيل.
والصابئة يسمونه: شيتل، ويدّعون أنه كان نبيّا.
والله وحده أعلم وأحكم.