اضغط على الرابط
خبر قوم تُبَّع
قال تعالى في سورة الدخان: (أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ ۚ أَهْلَكْنَاهُمْ ۖ إِنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ)
وقال تعالى في سورة ق: (وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ ۚ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ)
قوله: (قَوْمُ تُبَّعٍ) أي: قبيلة تُبَّع، وعشيرته ورهطه.
وتبَّع اسم رجل، وقد زعم بعض قّصَّاص اليمن، أن تًبَّع من اليمن، وأن تُبَّع لقب له، وليس اسماً، ثم زعموا أن تُبَّع لقب لملوك حِمْيَر، حتى صاروا يلقّبون كل ملكٍ حميري: تًبَّع.
والحقيقة أن كتب النقوش الحجريّة التي عًثِر عليها في اليمن، لا تشير إلى شيء من ذلك، بل الذي عُثِر عليه في النقوش الحجريّة اليمنيّة، وكتب التاريخ، أن ملوك حمير، كانوا يلقّبون بالملوك.
وكل ما عُثِر عليه، هو اسم أهل بيت يقال لهم: بنو بتع - وليس تُبَّع - وهي أسرة ذات حكم قبلي، نشأ في منطقة حاشد، إحدى قبائل همدان الكبيرة. فالأسرة البتعيّة، أسرة همدانية، وليست حميريّة، ثم إن هناك فارق بين الاسمين كبير في المعنى، وإن كان قريباً في الرسم.
ويظهر أن هذه الدعوى، لم تظهر إلّا بعد انتشار الإسلام، وكثرة ما أُدخِل في القَصَص القرآني من الأكاذيب، حتى راج ذلك بين الناس، ونقله المؤرخون والكُتَّاب.
وقد كثر الكذب في القّصّص الديني من قِبَل بعض ضِعاف النفوس من الحميرين خصوصاً، حسداً ونفاسة، فقد كان للحميريّين مُلْكٌ عريض باليمن، أزاله الإسلام، وجعل الشرف لقبيلة قريش، إذ أخرج النبي صلى الله عليه وسلّم منهم، فأرادوا أن يجعلوا لهم نصيباً من ذلك الشرف، فادعوا أن تًبَّع منهم، بل اختلقوا أنبياء لا وجود لهم في الحقيقة إلّا في الأساطير الحِميريّة، مثل النبي صفوان، والنبي شعيب بن ذي مهدم، وغيرهم!
والحقيقة، أن تُبَّع لا يُدرى من أي شعبٍ هو، ولا من أي أرضٍ هو، بل لا يدرى هل هو نبيٌّ أم لا، وإن كان الراجح أنه نبيّ، ولكن الله تعالى ذكره وقومه في معرض الأمم التي كذبت رُسُلها، وعاقبها الله تعالى في الدنيا قبل الأخرة.
خبر أصحاب الرس
قال تعالى في سورة الفرقان: (وَعَادًا وَثَمُودَ وَأَصْحَابَ الرَّسِّ وَقُرُونًا بَيْنَ ذَٰلِكَ كَثِيرًا)
وقال تعالى في سورة ق: (كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ)
فقوله: (وَأَصْحَابَ الرَّسِّ) يراد به أن موضعهم الذي يقيمون به يدعى: الرسّ.
ولا يعرف في أي مكان يقع الرسّ، أو في أي زمان عاشت تلك الأمة، ولم يذكر الله لنا اسم نبيهم، ولا شيء من خبره، وكل ما يذكر في ذلك، إنما هو من أوضاع القصّاص.
وإنما ذكرها الله تعالى إخبارا منه سبحانه، بأنها من الأمم التي أوقع الله بها العذاب في الدنيا، ليتعظ الناس ويتقوا غضب الله.
خبر أصحاب القرية
قال تعالى في سورة يس: (وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلاً أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُم مُّرْسَلُونَ قَالُوا مَا أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا وَمَا أَنزَلَ الرَّحْمَن مِن شَيْءٍ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ تَكْذِبُونَ قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ وَمَا عَلَيْنَا إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِن لَّمْ تَنتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُم مِّنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَئِن ذُكِّرْتُم بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ مُّسْرِفُونَ وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ اتَّبِعُوا مَن لاَّ يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُم مُّهْتَدُونَ وَمَا لِي لاَ أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ أَأَتَّخِذُ مِن دُونِهِ آلِهَةً إِن يُرِدْنِ الرَّحْمَن بِضُرٍّ لاَّ تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلاَ يُنقِذُونِ إِنِّي إِذًا لَّفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ إِنِّي آمَنتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِن بَعْدِهِ مِنْ جُندٍ مِّنَ السَّمَاء وَمَا كُنَّا مُنزِلِينَ إِن كَانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ)
قوله: (أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ) لم يبيّن الله تعالى ما اسم هذه القرية، ولا أين تقع، وكل ما روي من الأخبار عن اسمها ومكانها فهو كذب.
وقوله: (إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ) أي: أن الله تعالى أرسل لهم ثلاثة أنبياء.
وقوله: (إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ) أي: تشاءمنا بكم.
وقوله: (طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ) أي: أن شؤمكم، هي: أعمالكم السيئة، التي سوف تجر عليكم الشر، وهو العذاب من الله تعالى، إن لم تتوبوا.
وقوله: (أَئِن ذُكِّرْتُم) أي: أتتطيرون بنا لأجل أننا قمنا بتذكيركم!
وقوله: (وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى) كان رجلاً من تلك القرية، يقيم في أقصى المدينة، آمن بدعوة الأنبياء الثلاثة، واتبع المرسلين، فقدم ناصحاً لقومه، مشفقاً عليهم.
وقوله: (إِنِّي آمَنتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ) أي: أنه أعلن إيمانه بالمرسلين بين ملأٍ من قومه، ونبّههم على أن يسمعوا قوله عندما أعلن إيمانه.
وقوله: (قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ) أي: أنه مات، وأن الله تعالى بشَّره بالجنَّة، وفتح له باباً يأتيه من روحها وريحها. وقد يكون المراد بذلك، يوم القيامة، إذا بعث هو وقومه، وأدخله الله الجنَّة، وأدخلهم النار، فيقول: ياليت قومي الذين أدخلهم الله النار يعلمون ما أنا فيه من الكرامة.
وقوله: (ن كَانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ) أي: أن العذاب حلّ بقومه بعد موته، فأنزل عليهم صيحة من السماء، أهلكتهم.
سيرة لقمان عليه السلام
قال تعالى في سورة لقمان: (وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ)
قوله: (وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ) أي: العِلم والفطنة والفهم.
ولا يعرف على وجه التحديد هل كان لقمان نبياً أم رجلاً صالحاً، وإن كان الراجح أنه نبيّ، وإذا كان نبياً، فإلى أي أمة بعث؟ ولا يعرف عن نسبه أي شيء، كما لا يعرف متى عاش ذو القرنين، كل هذه المسائل صارت مجهولة، ولا يمكن معرفتها، إلّا أنه ومن خلال القرآن الكريم، يتبيّن لنا أن لقمان عليه السلام، كان رجلاً صالحاً تقياً ورعاً، وكان ملتزما بأوامر الله تعالى، مجتنبا لنواهيه، قدر استطاعته.
ولقمان اسم عربي، مشتق من اللَقْم، أي: أكل اللقمة، واللقمة، هي ملء الفم من الطعام.
وقوله: (وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ) أي: من رجع إليّ، بمعنى: تاب إلى الله.
وقوله: (يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ) يريد أن يبيّن سعة علم الله تعالى، وأنه لا يعزب عن علمه شيء.
وقوله: (وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ) أي: اصبر على ما يصيبك من الأذى في سبيل الله تعالى.
وقوله: (وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ) أي: لا تصد بوجهك عن الناس تكبّراً وتجبّراً عليهم.
وقوله: (وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا) أي: المرح الذي يدعو إلى الكِبر والغرور والتعالي على الناس.
وقوله: ( وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ) أي: امش مشياً ليس بالسريع ولا بالبطيء، أي: امش بتؤدة وأناة، مشياً فيه سكينة ووقار.
وقوله: ( وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ) أي: لا تجعله عالياً جدّاً بل اجعله هادئاً.
وقوله: (إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ) شبّه الصوت المرتفع، بصوت الحمار عندما ينهق.
من هو ذو القرنين؟
تخبّط الناس في شخص ذي القرنين، من يكون؟ وممّن يكون؟ ومن أي بلد هو؟ والسبب في ذلك، أن القرآن الكريم لم يعطي تفاصيل دقيقة عنه؟ كل ما ذكره القرآن عنه، هي معلومات مقتضبة جدّاً. ولم يرد في الأحاديث النبويّة الصحيحة شيئاً عنه.
فذهب طائفة إلى أن ذي القرنين، هو الملك الأكادي نارام سين، لأنهم عثروا على نقش حجري، يصوّر الملك الأكادي، وهو يرتدي تاجاً له قرنين.
وذهب طائفة أخرى، إلى أن ذي القرنين هو الملك قورش ملك فارس، بحجة أنهم وجدوا نقشاً حجريّاً لقورش وهو يلبس تاجاً له قرنين!
وذهب طائفة إلى أن ذي القرنين، هو الكسندر المقدوني، أحد أباطرة الرومان القدماء، ورواة العرب يسمونه: الإسكندر ، لأنهم ينقلون عن مؤرخي اليونان، أنه باني مدينة الإسكندرية، فلمّا رأوا أن اسمه لا يتوافق مع اسم المدينة، حرّفوا اسمه لذلك.
واعتضد القائلون بأن الكسندر هو ذو القرنين، بأن الكسندر المقدوني سار بجيشه من مقدونيا حتى بلغ حدود الصين، ولكن الكسندر، قطع ذلك في عشر سنوات.
وبسبب هذا التشابه الجزئي البسيط، زعموا أن الكسندر هو ذو القرنين!
بل زعموا أنهم عثروا على عُمُلات نقديّة، سُكَّت في زمن الكسندر المقدوني، ظهرت فيها صورته وبدا أن في رأسه قرناً، فزعموا أن هذا شاهد أخر على أنه ذو القرنين، وأنه لقّب بذلك لوجود قرنين في رأسه! والحقيقة أني نظرت إلى تلك العُمُلات، فتبيّن لي، أن ما يزعمون أنه قرن لم يكن قرناً، بل كان مجرد خصلة شعر ظهرت من مقدّم رأسه، فالقرون لا تخرج من مقدمة الرأس، بل من قُلّة الرأس، وهي أعلى نقطة فيها، فالقوم كل ما وجدوا نقشاً لصورة أحد الملوك المتقدمين، يرتدي تاجاً له قرنين، زعموا أنه ذو القرنين!
ولكن كما ذكرت سابقاً، فإن دعوى أن ذي القرنين لًقِّب بذلك لأنه كان يلبس تاجاً له قرنين، إنما هو ادعاء قائم على هذا النقوش، وهو قول لا يمكن القطع به.
وهذا قول باطل، فالكسندر المقدوني، عرف عنه أنه كان رجلاً كافراً، فضلاً عن أن يُعرف بصلاح أو تقوى، ويقال أنه كان تلميذاً للفيلسوف الوثني الملحد أرسطوطاليس.
كما أنه لم يعرف بحسن السيرة والسلوك، حتى أن ضبّاط جيشه عدو عليه وقتلوه لما قفل من بلاد الصين.
ثم إن المؤرخين، يذكرون أن الكسندر قطع المسافة من بلاده وحتى حدود بلاد الصين في عشر سنين.
فأين الكسندر هذا، من ذي القرنين، الرجل الصالح، الذي طويت له الأرض، حتى بلغ مغاربها ومشارقها في وقت وجيز؟!
وبذلك نعلم، أن كل ما ذكره المتنطعون في محاولة معرفة شخصيّة ذي القرنين، عن شخصه باطل، بل هو كذب، وأن ذي القرنين لا أحد يعرف اسمه ونسبه وبلده إلّا الله عزّ وجل.
سيرة ذي القرنين عليه السلام
قال تعالى في سورة الكهف: (وَيَسْأَلُونَكَ عَن ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُم مِّنْهُ ذِكْرًا إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِن كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا فَأَتْبَعَ سَبَبًا حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِندَهَا قَوْمًا قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَن تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَن تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا قَالَ أَمَّا مَن ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُّكْرًا وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاء الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَّمْ نَجْعَل لَّهُم مِّن دُونِهَا سِتْرًا كَذَلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْرًا ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِن دُونِهِمَا قَوْمًا لّا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلا قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَن تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا فَمَا اسْطَاعُوا أَن يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِّن رَّبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاء وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا)
قوله: (ذِي الْقَرْنَيْنِ) لا يعرف هل كان ذو القرنين نبياً أم رجلاً صالحاً، وإن كان الراجح في شأنه أنه نبي، وإذا كان نبياً، فإلى أي أمة بعث؟ ولا يعرف عن نسبه أي شيء، كما لا يعرف متى عاش ذو القرنين، كل هذه المسائل صارت مجهولة، ولا يمكن معرفتها، إلّا أنه كما يظهر من القرآن، كان ملكاً من الملوك.
وذو القرنين، لقب عربي، والقرنان هما الغديرتان، أو صياصي البقر والماعز والكباش، وسمّي القرنان بذلك، لأنهما قرينان، أي: شبيهان لبعضهما، وتأتي بمعنى: المضمومان لبعضهما. وذو، كما قدمنا معناها الصاحب، أي: صاحب القرنين.
وقوله: (إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الأَرْضِ) أي: جعله الله تعالى ملكاً.
وقوله: (وَآتَيْنَاهُ مِن كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا) والمراد بالسبب هنا العِلم، فأوتي من كل شيء عِلماً ومعرفة.
وقوله: (فَأَتْبَعَ سَبَبًا) والمراد بالسبب هنا الطريق، أي: فاتّبع طريقاً، أي: سار فيه.
وقوله: (بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ) أي: بلغ ساحل البحر من جهة الغرب.
وقوله: (عَيْنٍ حَمِئَةٍ) أي: وجدتها وكأنها تغرب في الماء والطين، عندما رآها وكأنها تغرب في البحر.
وقوله: (وَوَجَدَ عِندَهَا قَوْمًا) أي: أنه بلغ مدينة تقع على ساحل البحر الغربي.
وقوله: (قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَن تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَن تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا) أي: إما أن تغير عليهم وتقتلهم وتنهب أموالهم وتسبي نساءهم وذراريهم، إن أبو قبول الإسلام، أو تعفو عنهم إن آمنوا ووحّدوا الله تعالى، وتعلّمهم ما يهتدون به إلى ربهم، وهذا فيه إشارة إلى أن ذا القرنين كان نبيّاً، بدلالة أن الله تعالى قال: (قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ) فالله يخبرنا أنه قال له، وهذا يعني أن الله تعالى كان يوحي إليه.
وقوله: (حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ) أي: عاد أدراجه، متجهاً إلى الشرق، فما زال يسير حتى بلغ ساحل البحر من جهة الشرق.
وقوله: (وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَّمْ نَجْعَل لَّهُم مِّن دُونِهَا سِتْرًا) أي: أنه وصل إلى مدينة على ساحل البحر الشرقي، إذا طلعت عليهم الشمس، لم يكن بينهم وبينها ساتر، والمراد بالستر هنا: الجبال والأشجار ونحو ذلك، فهم على ساحل البحر، لا يحول بينهم وبين الشمس شيء.
وقوله: (وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْرًا) أي: وقد أحطنا بما عند مطلع الشمس علما لا يخفى علينا ما هنالك من الخلق وأحوالهم وأسبابهم، ولا من غيرهم شيء.
وقوله: (ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا) أي: أنه سلك جهة لم يفصح الله تعالى عنها، فهي جهة مجهولة.
وقوله: (حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ) أي: الجبلين، وقيل عن الجبل سدّ، لانه يسدّ ما وراءه، ولا أحد يعلم أين الجبلين اللذين أرادهما الله تعالى، وكل من زعم أنه يعرف موضعهما فهو كاذب.
وقوله: (وَجَدَ مِن دُونِهِمَا قَوْمًا لّا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلا) أي: قوم لا يكادون يفقهون قول قائل سوى كلامهم.
وقوله: (إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ) وهما قبيلتان من الناس.
وقوله: (مُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ) أي: كثيروا الإغارة على جيرانهم، كثيروا القتل والنهب والسلب والأسر فيهم، ما لهم من ذلك حاجة سوى الإفساد في الأرض.
وقوله: ( فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَن تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا) أي: نجعل لك أجراً، والخرج هو الأجر.
وقوله: (فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ) أي: بعزم وحزم واجتهاد.
وقوله: (أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا) والردم يأتي على معانٍ، الأول: هو وضعه الأشياء بعضها فوق بعض، متراصّة، والثاني: هو التغطيّة، يقال: ردم الشيء أي: غطّاه. والمراد به هنا: التغطية.
وقوله: (حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ) أي: ساوى وعدّل بين الجبلين.
وقوله: ( قَالَ انفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا) أي: أمرهم بإيقاد النيران على ذلك الحديد والنفخ فيها حتى انصهر الحديد.
وقوله: (قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا) أي: أفرغ عليه النحاس المذاب.
وقوله: (فَمَا اسْطَاعُوا أَن يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا) أي لم يستطع يأجوج وماجوج أن يعلو عليه من فوق، لأنه ردم، ولا أن ينقبوه من تحت، لقوته وصلابته.
وقوله: ( قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِّن رَّبِّي) أي: رحمة من الله أن مكّنهم وأعانهم على بناء هذا الردم.
وقوله: (فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاء وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا) أي: إذا جاء اليوم الموعود لخروجهم، سوف يضعف الله تعالى هذا الردم العظيم، ليتمكن يأجوج ومأجوج من هدّه والخروج منه.
وعن زينب بنت جحش، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل عليها يوما فزعا، يقول: "لا إله إلا الله ويل للعرب من شر قد اقترب فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه وحلق بإصبعيه الإبهام والتي تليها". قالت زينب بنت جحش: فقلت يا رسول الله: أفنهلك وفينا الصالحون؟ قال: "نعم إذا كثر الخبث".
رواه البخاري.
قول النبي: "فتح من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه" وحلق بأصبعيه الإبهام والسبابة، دليل على أن الردم شيء مصمت، فلو كان سداً عادياً لكان مفتوحاً من أعلاه.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن يأجوج ومأجوج يحفرون كل يوم حتى إذا كادوا يرون شعاع الشمس قال الذي عليهم ارجعوا فسنحفره غدًا فيعيده الله أشد ما كان حتى إذا بلغت مدتهم وأراد الله أن يبعثهم على الناس حفروا حتى إذا كادوا يرون شعاع الشمس قال الذي عليهم ارجعوا فستحفرونه غدًا إن شاء الله تعالى واستثنوا فيعودون إليه وهو كهيئته حين تركوه فيحفرونه ويخرجون على الناس" .. الحديث
صحيح رواه ابن ماجه.
وقوله: "حتى إذا كادوا يرون شعاع الشمس" ففيه دلالة ظاهرة، على أنهم لا يرون الآن شعاع الشمس، فإن قيل: كيف يبصرون وهم في باطن الأرض؟ فالجواب: إنما يبصرون بما يوقدونه من مشاعل، يحتطبونها من الأشجار التي تنموا في باطن الأرض، أو أن الله يهيئ لهم نوراً يبصرون به في تلك المغاور.
فهذه أدلة صحيحة صريحة، على أن يأجوج ومأجوج، يعيشون في مغاور وكهوف في باطن الأرض.
فإن سألت كيف يعيشون في تلك المغاور؟ فالجواب: انهم يشربون من أودية تجري في باطن الأرض، تتخلل تلك المغاور، ويكون أكلهم مما ييسره الله لهم من كائنات تعيش في باطن الأرض، والذي رزق بني آدم فوق الأرض، لن يعجزه رزقهم في جوف الأرض.
وأما عن كثرتهم، فالله لا يعجزه أن يعمر باطن الأرض بهم كما عمر ظاهرها بالخلق، ولكن ربما تكون كثرتهم فيما بعد، بسبب تغلبهم على باقي الشعوب، وإخضاعهم لها، ودخولهم تحت سلطانهم.
والله وحده أعلم وأحكم.
هل إدريس هو أخنوخ؟ وهل هو هرمس؟
يزعم بعض رواة المسلمين أن إدريس هو أخنوخ.
والذي دفعهم إلى ذلك، هو ما ذكره رواة اليهود، من أن أخنوخ كان نبيّاً بعث قبل نوح عليه السلام، ونسبوا له سفر أسموه سفر أخنوخ.
وورد في هذا السفر أن أخنوخ رفع بروحه وجسده إلى السماوات، فهو بها إلى قيام الساعة!
ورواة اليهود يزعمون أنه كان أباً من آباء نبي الله نوح عليه السلام، وتبعهم على ذلك قصّاص المسلمين!
والصابئة يسمونه: دنانوخت.
وهذا السفر من الواضح أنه موضوع، وضعه أحد وعّاظ اليهود، أو أحد وعّاظ النصارى، لذلك حتى اليهود والنصارى، لم يقبلوا ذاك السفر، لكثرة الأكاذيب التي حشي بها.
مما يرجح أن شخصية أخنوخ أو دنانوخت شخصيّة أسطورية أكثر منها واقعية، أو ربما كان نبيّاً ولكن تم العبث بسيرته من قبل رواة القوم حتى انحرفت بالكليّة.
وقد لا يكون نبيّاً، قد يكون رجلاً، ولا يشترط أن يكون صالحاً، قد يكون صالحاً وعالماً من العلماء، وقد يكون طالحاً ودجّال من الدجاجلة.
وأيّاً يكن، فإن السفر المنسوب له، مختلق، ودعوى أنه رفع إلى السماء بروحه وجسده كذب، ويظهر أن من ادعى ذلك من رواة اليهود، أراد أن ينحل أخنوخ شرف الرفع إلى السماء حيّاً، عوضاً عن عيسى الذي لم يكن معترفاً به من قبل اليهود! بينما نحل يهوديٌ أخر هذا الشرف - أعني شرف الرفع إلى السماء حياً - إلى إلياس عليه السلام! والحقيقة أنه لم يرفع إلى السماء سوى عيسى عليه السلام، وما رفعه الله إلى السماء حيّاً، إلّا لغاية، فلأي سبب يُرفع أخنوخ وإلياس؟!
ولأن الله تعالى قال عن إدريس: (وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا) [مريم].
فلما رأى رواة المسلمين أن رواة اليهود يزعمون أن أخنوخ رفع بروحه وجسده، وأن الله قال عن إدريس بأنه رفعه مكاناً عليّا، رجّحوا أن يكون إدريس هو أخنوخ، وأن مراد الله تعالى من أنه رفع إدريس، أي: أنه رفعه بروحه وجسده.
ولا أدلّ على بطلان هذا القول، من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في حديث المعراج: "ثم صعد بي حتى أتى السماء الرابعة، فاستفتح، قيل: من هذا؟ قال: جبريل، قيل: ومن معك؟ قال: محمد، قيل: أوقد أرسل إليه؟ قال: نعم، قيل: مرحبا به؛ فنعم المجيء جاء، ففتح، فلما خلصت إلى إدريس، قال: هذا إدريس فسلم عليه، فسلمت عليه، فرد ثم قال: مرحبا بالأخ الصالح والنبي الصالح".
رواه البخاري وغيره.
والشاهد من الحديث هو قول إدريس للنبي: "مرحبا بالأخ الصالح والنبي الصالح" فلو كان إدريس والدٌ للنبي صلى الله عليه وسلم كما يزعمون، لقال له كما قال آدم وإبراهيم عليهما السلام: "مرحبا بالابن الصالح والنبي الصالح" ولكنه لم يقل ذلك، بل قال: "مرحبا بالأخ الصالح" فدلّ هذا دلالة قطعيّة أنه ليس والداً له.
وقد حاول البعض تعليل ذلك، فقال: لعل إدريس قال للنبي صلى الله عليه وسلم: "مرحبا بالأخ الصالح" من باب التواضع! وأقول: هل من التواضع أن يقول الأب لابنه: مرحبا بالأخ الصالح! هذا لا يعقل ولا يكون.
ولا يقف الأمر عند هذا الحدّ.
فرواة اليهود يزعمون أن أخنوخ هذا هو هرمس.
وهرمس لا علاقة له بأخنوخ أو دنانوخت، لأن هرمس هذا، كان تلميذاً لزردشت مؤسس الديانة الزردشتية المجوسية، وزردشت فيلسوف ملحد، نشأ ببلاد العراق، يقال أنه كان من أهل بابل، ودعا الناس إلى عبادة الطبيعة، حيث يزعم أن الإله حلّ في الطبيعة، واتحد معها، وأن الإله هو الوجود والوجود هو الإله، وأمر الناس بتقديس النار، لأنها عنده أعظم الموجودات، وأكثرها نفعاً، هذا مع كونه كان مشعوذاً دجالاً، وساحراً ممخرقاً، وما دعا الناس إلى نحلته الرديئة، إلا بأمر من شياطينه، وما دعاهم إلى تقديس النيران، إلا طاعة لهم، وتعظيماً لعنصرهم الذي خلقوا منه.
فتلقى هرمس هذا تعاليمه من زردشت، وانتقل إلى مصر، وتنقل بين الإسكندرية وصعيد مصر الأعلى، وبث سمومه هناك، وصنف الكثير من الكتب في الفلسفة والسحر والشعوذة، فذاع أمره، ووفد إليه طلاب الحكمة، يظنونها عنده، فعظم شأنه، وعلت منزلته، حتى صار أسطورة تذكر عبر الأجيال.
وينسب الفلاسفة إلى هرمس هذا، اختراع الكتابة والموسيقى والتنجيم والأوزان والمقادير. وكلّ هذا اختراع وتلفيق، وتفخيم لهذه الشخصيّة التي يعظمونها، إذ يعتبر هرمس هذا من كبار الفلاسفة، حتى أطلقوا عليه لقب: مثلّث الحكمة.
فلما اختلط اليهود بالفلاسفة، وتأثروا بهم، ورأوا الفلاسفة يصفون هرمس بأنه من كبار الحكماء، مع ما أتي هرمس من ذيوع الصيت، أرادوا أن يجعلوه من أنبياءهم، فزعموا أن هرمس هذا هو أخنوخ، وورث عنهم هذا القول، النصارى والصابئة، واللتان تعتبران طائفتان منشقتان عن اليهودية.
أما رواة المسلمين، فإنهم نظروا إلى وصف الفلاسفة لهرمس بانه أوّل من اخترع الكتابة، ثم نظروا في اسم إدريس، وإذ هو مشتق من الدراسة، فاستظهروا أنه ما سمّي بذلك إلّا لأنه كان مجيداً للكتابة، ثم رجّحوا أن إدريس لم يوصف بأنه كان مجيداً للكتابة، إلّا لأنه أوّل من اختراع الكتابة - وهذه محاولة منهم لتقريب إدريس من هرمس - وهنا استنتجوا أن إدريس هو هرمس، وبما أن فلاسفة اليهود يزعمون أن أخنوخ هو هرمس، للسبب الذي قدّمنا، فبالتالي استنتجوا أن إدريس هو هرمس وهو أخنوخ في نفس الوقت.
لذلك فمن زعم أن إدريس بعث قبل نبي الله نوح عليه السلام، فإنما اعتمد على ظنّه أن إدريس هو أخنوخ، وأما وقد ثبت بطلان ذلك، وأن هذا مجرد ظنون وأوهام، فالحقيقة أنه لا يعرف متى بعث إدريس عليه السلام، ولا إلى أي أمّة بعث.
ولم يقف رواة المسلمين عند هذا الحدّ، حتى زعموا أن إدريس هو إلياس، وقد بيّنت بطلان هذا القول، أثناء الحديث عن نبي الله إلياس عليه السلام، فجعل رواة المسلمين إدريس هو إلياس وهو هرمس وهو أخنوخ، وكل هذا أوهام وتلفيق.
والعجيب أن البخاري رحمه الله، ممن أخذ بقول من يقول بأن إدريس هو أخنوخ، وأنه أحد أجداد نبي الله نوح، فقال في صحيحه: "وهو جد أبي نوح، ويقال جد نوح، عليهما السلام" اهـ
وهذا دليل على أنه لم يأخذ بتلك الرواية عن ابن مسعود وابن عباس في أن إدريس هو إلياس.
ولكنه أيضاً أخطأ بأخذه لرواية من يقول بأن إدريس هو أخنوخ، لأن هذه أبعد عن الصواب، بعداً لا يمكن معه تصديقها، لما أخبر عنه النبي في الحديث الصحيح الذي رواه البخاري نفسه، وغيره، من أن النبي لما مرّ على إدريس في السماء الرابعة، قال له إدريس: "مرحباً بالأخ الصالح والنبي الصالح".
وهذا دليل على أن إدريس ليس أباً للنبي محمد صلى الله عليه وسلم، بل أخوه.
فثبت بذلك أنه لا علاقة لإدريس بأخنوخ، وأن أخنوخ شخصيّة قد تكون أسطوريّة، فلا أحد يعلم حقيقة ما أسماء الآباء الذين بين نوح وآدم عليهما السلام، ولا كم عددهما، وكل ما عثر عليه في التراث منقول عن رواه اليهود.
والله أعلم وأحكم.
سيرة إدريس عليه السلام.
قال تعالى في سورة مريم: (وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَّبِيًّا وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا)
وقال تعالى في سورة الأنبياء: (وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِّنَ الصَّابِرِينَ)
ولم يرد عن إدريس في كتاب الله ولا في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم سوى ما ورد في الآيات أعلاه، ولم يرد عن الله ولا عن رسوله، اسم قوم إدريس، أو الزمن الذي بعث فيه، ولا يعرف من أخباره شيء، سوى أنه كغيره من الأنبياء، بعثه الله إلى قومه، فدعاهم إلى الإسلام، وإلى التقيّد بشرائع الله تعالى، وناله من الجهد والنصب والأذى ما لحق غيره من الأنبياء، وصبر على ذلك كما صبر غيره من الأنبياء، عليهم السلام.
وإدريس مشتق من الدرس، وهو المحو، يقال: درست الشيء، أي: محوته. ويقال لكل قديم: دارس، أي: ماحي، ويقال للمتعلم: دارس. كأنه درس الجهل، أي: محاه. ويقال للترويض: دراسة، فكل ما رضته من دابة أو متاع، فهو دارس، أي: مروّض مذلل معبّد، كأنك درسته، أي: محوت عنه صعوبته. فمعنى إدريس: أي، الماحي.
واختلف في معنى قوله تعالى: (وَرَفَعۡنَـٰهُ مَكَانًا عَلِیًّا) هل المراد رفعة المكانة والمنزلة في الدنيا والأخرة، أم أراد بذلك أنه رفع بنفسه.
وإذا كان رفع بنفسه، هل رفع بروحه وجسده، كما رفع عيسى عليه السلام، أم رفعت روحه فقط؟
فأما السؤال الأول: فالله أعلم أيّ ذاك أراد، قد يكون المراد بالآية رفعة المكانة، وقد يراد بها رفع المكان حقيقة.
وأما السؤال الثاني: فإن كان المراد رفع المكان، فالصواب، أن المراد هو رفع الروح دون الجسد، ولذلك ذكر النبي صلى الله عليه وسلم أنه قابل إدريس في السماء الرابعة، ولا يمكن القول بأنه رفع بجسده، ولا يقاس بعيسى، لأن عيسى عليه السلام، إنما رفع بروحه وجسده، لأنه سوف ينزل في أخر الزمان، ليكون علامة للساعة، وسوف يموت كما يموت أيّ بشري، ويدفن في الأرض، بينما إدريس لأي شيء يرفع بجسده؟! فهو لن ينزل في أخر الزمان كعيسى.
سيرة ذا الكفل عليه السلام
قال تعالى في سورة الأنبياء: (وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِّنَ الصَّابِرِينَ)
وقال تعالى في سورة ص: (وَاذْكُرْ إِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِّنْ الأَخْيَارِ)
ولم يخبرنا ربنا تبارك وتعالى ولا رسوله صلى الله عليه وسلم شيئاً عن سيرته، سوى أنه نبي من أنبياء الله تعالى، بعثه الله لقومه، ولاقى ما لاقى غيره من الأنبياء من أقوامهم من العنت والإعراض والأذيّة، وأنه صبر كما صبر غيره من الأنبياء.
وأما ما رواه الترمذي في جامعه من أن ذا الكفل كان رجلاً فاسقاً، وأنه تاب في أخر حياته، فأصبح ميّتاً، فهذا خبر بيّن الوضع، واضح البطلان، وإن حسّن الترمذي إسناده، لسببين:
الأول: أن ذا الكفل معدود في القرآن في زمرة الأنبياء، ودل هذا على أنه نبي، والأنبياء يُصطَفون منذ ولادتهم، ومنزهون عن كبائر الذنوب.
والثاني: أن الله ذكره في معرض من لحقه الأذى، وصبر عليه، لله تعالى، ووصفه الله أنه كان من الأخيار، وما ورد في الحديث لا يشير إلى شيء مما ورد في القرآن، حيث يشير إلى أنه كان فاجراً إلى أن دنا أجله، فلم يكن بين توبته ووفاته سوى ساعات قلائل!
بل إن ما وقع من ذي الكفل، يقع عادة من كثير من الناس، فلماذا خُصّ ذا الكفل بهذا الإطراء دون سائر الخلق!
وإنما أثنى الله تعالى على ذي الكفل لصبره وصلاحه، والمذكور في الحديث لم يعرف بصلاح ولا صبر، بل إنه مات حسب زعم الراوي في ليلته التي تاب فيها، فأي صبر أو صلاح كان عليه حتى يستحق المدح، ويقارن صبره وصلاحه بصبر وصلاح أنبياء الله تعالى، هذا محال!
وذا الكفل لقب، والِكفل - بكسر الكاف - في لغة العرب هو الحمل، وذو اسم من الأسماء الخمسة، وتأتي بمعنى: صاحب، أي: صاحب الحِمل.
سيرة نبي الله أيوب
قال تعالى في سورة النساء: (إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِن بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا)
وفي هذه الآية، دليل على أن أيّوب نبيّ أوحي إليه.
وقال تعالى في سورة الأنبياء: (وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِن ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُم مَّعَهُمْ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ)
وقوله: (أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ) كان قد أصابه ضُرٌّ أوجعه.
وقوله: (وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُم مَّعَهُمْ) أي: رجعناه إلى أهله، ووهبنا له مثلهم معهم.
وأهل الرجل زوجته، أي: أعاد إليه زوجته، وزوّجه بامرأة أخرى.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "بينما أيوب يغتسل عريانا، خرّ عليه رجل جراد من ذهب، فجعل يحثي في ثوبه، فنادى ربه: يا أيوب ألم أكن أغنيتك عما ترى؟ قال: بلى، يا رب، ولكن لا غنى بي عن بركتك".
رواه البخاري.
وفي وراية عند أحمد: "لما عافى الله أيوب عليه السلام أمطر عليه جرادًا من ذهب، فجعل يأخذ بيده ويجعل في ثوبه قال: فقيل له يا أيوب أما تشبع؟ قال: يا رب ومن يشبع من رحمتك".
وقال تعالى في سورة ص: (وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُم مَّعَهُمْ رَحْمَةً مِّنَّا وَذِكْرَى لِأُولِي الأَلْبَابِ وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِب بِّهِ وَلا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ)
قوله: (أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ) أي: نال مني الشيطان بالتعب والعذاب، وهو الضُرّ الذي أصابه.
وقوله: (ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ) أي: أن الله تعالى هيئ له عين ماء باردة، فأمره أن يغتسل منها ويشرب، حتى يذهب الضرّ الذي به، وهذا دليل على أن الضُرّ الذي أصابه، كان مرضاً ألمّ به.
وقوله: (وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِب بِّهِ وَلا تَحْنَثْ) أي: لا تحنث في يمينك، كأن نبي الله حلف أن يضرب شيئاً مائة سوط، ثم ندم على ذلك، فأمره الله تعالى أن يأخذ ضغثاً، والضغث هي عناقيد النخل، التي ينبت منها التمر، ويضرب بها من حلف أن يضربه بها، كي لا يحنث في يمينه.
عن قتادة بن دعامة قال: خذ عودا فيه تسعة وتسعون عودا، والأصل تمام المائة فضرب به امرأته، وذلك أن امرأته أرادها الشيطان على بعض الأمر، فقال لها: قولي لزوجك يقول كذا وكذا، فقالت له قل: كذا وكذا. فحلف حينئذ أن يضربها تلك الضربة، فكانت تحلة ليمينه، وتخفيفا عن امرأته.
رواه عبدالرزاق في تفسيره.
وعن عبد الرحمن بن جُبَير، قال: "لما ابتُلي نبيّ الله أيوب عليه السلام بماله وولده وجسده، وطُرح في مَزْبَلة، جعلت امرأته تخرج تكسب عليه ما تطعمه، فحسده الشيطان على ذلك، وكان يأتي أصحاب الخبز والشويّ الذين كانوا يتصدّقون عليها، فيقول: اطردوا هذه المرأة التي تغشاكم، فإنها تعالج صاحبها وتلمسه بيدها، فالناس يتقذّرون طعامكم من أجل أنها تأتيكم وتغشاكم على ذلك؛ وكان يلقاها إذا خرجت كالمحزون لمَا لقي أيوب، فيقول: لَجَّ صاحبك، فأبى إلا ما أتى، فوالله لو تكلم بكلمة واحدة لكشف عنه كلّ ضرّ، ولرجع إليه ماله وولده، فتجيء، فتخبر أيوب، فيقول لها: لقيك عدوّ الله فلقنك هذا الكلام؛ ويلك، إنما مثلك كمثل المرأة الزانية إذا جاء صديقها بشيء قبلته وأدخلته، وإن لم يأتها بشيء طردته، وأغلقت بابها عنه! لما أعطانا الله المال والولد آمنا به، وإذا قبض الذي له منا نكفر به، ونبدّل فيره! إن أقامني الله من مرضي هذا لأجلدنَّك مئةً".
رواه الطبري.
وهذا خبر متنه لا بأس به، إلّا قوله: "وطُرح في مَزْبَلة" فهي من زيادات الرواة، وتأليفاتهم على الأخبار، ولأي شيء يُطرح في مزبلة، فأين منزله، وهب أن زوجته أخرجته من منزله خشية أن يعديها ويعدي أبناءه، أما كان في أرض الله الواسعة، ما يغنيها عن أن تلقيه في المزبلة!
وقد ذكر أهل الكتاب أيّوب في كتبهم، مع كثيرٍ من التحريف والكذب في خبره، حيث زعموا أنه لم يصبر، وأنه تضجر وجزع، وقد بيّن الله تعالى لنا كذبهم فيما أورد لنا من خبره، للرد عليهم، وبيان افترائهم على نبيه أيّوب عليه السلام.
وأيّوب اسم عربي، مشتق من الأوب، وهو العود والرجوع.
سيرة زكريا ويحيى عيسى عليهم السلام
قال تعالى في سورة آل عمران: (إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا)
قوله: (إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ) فيه إشارة إلى أن عمران، وهو والد مريم، وجدّ عيسى ويحيى عليهما السلام، كان نبيّاً، لأن الله تعالى، ضمّ اسمه إلى أسماء الأنبياء، آدم ونوح وإبراهيم.
والدليل على أن عمران المراد به هنا، هو عمران والد مريم أم عيسى المسيح عليه السلام، هو أن الله تعالى أردف ذلك بخبر امرأة عمران وابنتها مريم، أم نبي الله عيسى، فتبيّن أن عمران المراد به هنا، هو والد مريم، أم نبي الله عيسى عليه السلام.
وعمران، اسم عربيّ، مشتق من الإعمار، وهو البناء والإصلاح.
ولم يرد في القرآن أو السنة أو كتب أهل الكتاب ذكر شيء عن نسب عمران والد مريم، بل إنهم لا يعرفون اسم والد مريم عليها السلام، ويضعون لها نسباً من عندهم، حيث يزعمون أن اسمها: مريم المجدليّة، نسبة إلى مدينة مجدل، وهي قرية تقع في أقصى الشمال الغربي لمنطقة سيناء، وكل هذا كذب وتزوير، فمريم أم عيسى، هي مريم بنت عمران، وعمران هو أبوها، وليس أبا موسى وهارون النبيّان، كما قدّمت في خبر موسى وهارون عليهما السلام.
وعمران والد مريم أم عيسى المسيح من بني إسرائيل، والنصارى أدلوا بما يفيد أن عمران والد مريم، من نسل هارون النبيّ، حيث يزعمون أن زوجة زكريّا وهي أخت مريم، من نسل هارون النبي، والله أعلم بصحة ذلك.
وأما النسب المذكور لعمران والد مريم أم عيسى المسيح، في كتب التاريخ الإسلامي، هي من وضع قصّاص المسلمين وأكاذيبهم.
وأما موضع سكناهم، فيزعم رواة النصارى، أن عمران وزكريا وذويهما، كانوا يقيمون في منطقة يهوذا الجبلية، وتحديداً في بيت لحم، ولكن هذا القول فيه نظر، لأن الأنبياء إنما يبعثون في أمّهات القُرى، وأمّ قرى الشام في ذلك الوقت، كانت القدس، لذلك، فإن القول بأن عمران وزكريا وذويهما، كانوا يقيمون في القدس، هو الأرجح.
يعضد ذلك، أن الصابئة يقولون: بأن يحيى عليه السلام، كان يقيم في القدس، وهذا يؤكّد ما رجّحته.
وفي السُنَّة النبويّة، ما يؤيّد ما ذكره الصابئة، فقد ورد في الحديث الصحيح الذي رواه الحارث الأشعري، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله أمر يحيى بن زكريا بخمس كلمات أن يعمل بها، ويأمر بني إسرائيل أن يعملوا بها، وإنه كاد أن يبطئ بها فقال عيسى: إن الله أمرك بخمس كلمات؛ لتعمل بها وتأمر بني إسرائيل أن يعملوا بها، فإما أن تأمرهم، وإما أن آمرهم، فقال يحيى: أخشى إن سبقتني بها أن يخسف بي أو أعذب، فجمع الناس في بيت المقدس، فامتلأ المسجد وقعدوا على الشرفات" .. الحديث. فالشاهد من هذا الخبر، هو قوله: "فجمع الناس في بيت المقدس". مما يُشير إلى أن يحيى وعيسى كانا يقيمان هناك، مما يعني أن ذويهما أيضاً كانوا يقيمون هناك.
وقوله: (ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ) أي: بعضهم من سلالة بعض، فعمران من سلالة إبراهيم، وإبراهيم من سلالة نوح، ونوح من سلالة آدم.
وقوله: (مُحَرَّرًا) أي: محرّراً من أعمال الدنيا، مفرّغاً لعبادتك، والقيام بخدمة المسجد.
وقوله: (وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ) أي: لم يكن سبحانه في حاجة إلى أن تقول بأنها وضعتها أنثى، لأن الله تعالى هو سبحانه من خلقها أنثى، ويعلم أنها أنثى.
ثم قال تعالى في سورة آل عمران، في خبر مريم عليها السلام: (وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِن لَّدُنكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاء فَنَادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِّنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِّنَ الصَّالِحِينَ قَالَ رَبِّ أَنَّىَ يَكُونُ لِي غُلامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ قَالَ كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاء قَالَ رَبِّ اجْعَل لِّيَ آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلاَّ رَمْزًا وَاذْكُر رَّبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالإِبْكَارِ)
وقوله: (وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا) لأن أباها عمران عليه السلام كان قد توفي وهي حمل في بطن أمها، ولا بدّ لها من كافل يكفلها، يقوم بالإنفاق عليها ورعايتها.
ولم يذكر عن نسب زكريا في كتب اليهود والنصارى، إلّا ما ذكره رواة النصارى من أنه من ولد رجل من ولد هارون النبي يدعى: أُبيّ. ويذكر رواة اليهود، أن أُبيّاً هذا، عيّنه داود النبي لخدمة المسجد الأقصى، حيث يذكرون أن النبي داود، عيّن أناساً لخدمة المسجد الأقصى، وقسمهم إلى أربع وعشرين فرقة، وكان على كل فرقة من هذه الفرق، أن تقوم بالخدمة في المسجد مدة أسبوع، ما عدا أيام الأعياد الكبرى، التي كانت تشترك فيها كل الفرق مع بقيّة الناس في الاحتفال.
وزكريّا اسم عربيّ، مشتق من الزَكَر، بالفتح، وهو الملآن أو المُجتمِع، يقال: زَكَر الإناء، أي: ملأه. وتقول العرب: ماعز حمراء زَكْريَّة، أي: أن لونها امتلأ حمرة.
وقوله: (كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ) أي: دخل عليها في مسجدها، ويظهر أنه كان له موضع في المسجد، تقيم فيه، تخدم المسجد، وتعود إليه للصلاة والتسبيح والتهليل.
وقوله: (وَجَدَ عِندَهَا رِزْقًا) أي: طعاماً وشراباً.
وقوله: (قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ) أي: رزق رزقها الله تعالى، ولم يبيّن الله تعالى من أين يأتيها هذا الرزق، وهل هو رزق تأتيه به الملائكة، أم صدقات كانت تأتيها من صالحي عباد الله.
وقوله: (هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ) أي: لمّا رأى الله تعالى يرزق مريم، ازداد يقيناً بالله تعالى، ولكونه حرم الولد، دعا الله تعالى أن يرزقه ولداً.
وقوله: (وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ) أي: يصلي في مسجده الذي اتخذه لنفسه لقيام الليل وصلاة النوافل.
وقوله: (أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى) ويحيى اسم عربيّ، مشتق من الحياة، والصابئة، يزعمون أنهم تلاميذه، ويزعمون أنه أنزل عليه كتاب اسمه: الكنز العظيم، وهذا باطل، فليس ليحيى كتاب سوى التوراة الذي أنزله الله على موسى، والزبور الذي أنزله الله على داود، والإنجيل الذي أنزله الله على عيسى، عليهم السلام. وقد نظرت في هذا الكتاب وتمعنته، فتبيّن لي، أنه وضع بعد يحيى، لأنه يشير إلى نهري النيل والفرات، ويحيى لم يعش هناك، بل عاش في القدس، مع والده، بإقرار الصابئة أنفسهم، فتبيّن أن هذا الكتاب، وضعه بعض أحبار الصابئة عندما انتقلوا إلى العراق.
ويذكر الصابئة أن يحيى، كان يلقّب يوحنّا، أي: ذو الحنان، وقد غلب لقبه على اسمه عند رواة اليهود والنصارى، فنجد يوسيفوس اليهودي في تاريخه، وكُتَّاب الأناجيل النصارى، يسمّونه: يوحنّا.
وقوله: ( مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِّنَ اللَّهِ) أي: مصدقاً بعيسى عليه السلام، وبنبوّته، لأن عيسى هو كلمة الله. وهذا يُفيد، أن يحيى عليه السلام، كان ملزماً بالعمل بالتوراة، ما لم تنزل آية من الإنجيل، فعندئذ يدع ما ورد في التوراة، لِما نزل من الإنجيل.
وقوله: (قَالَ رَبِّ اجْعَل لِّيَ آيَةً) أي: إن كانت البشارة منك يا الله، وليس من تلاعب الشيطان، فاجعل لي آية أعلم بها صدق هذه البشارة.
وقوله: (قَالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلاَّ رَمْزًا) أي: آية ذلك، أنك لا تستطيع الكلام مع الناس، إلا إشارةً.
وقال تعالى في سورة مريم: (ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاء خَفِيًّا قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُن بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِن وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَل لَّهُ مِن قَبْلُ سَمِيًّا قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِن قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا قَالَ رَبِّ اجْعَل لِّي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَن سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا وَحَنَانًا مِّن لَّدُنَّا وَزَكَاةً وَكَانَ تَقِيًّا وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُن جَبَّارًا عَصِيًّا وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا)
قوله: (نِدَاء خَفِيًّا) أي: دعا الله تعالى في خلوة من الناس، بينه وبين الله.
وقوله: (وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا) أي: كبرت سنّه، وكبير السنّ تضعف عظامه ويشيب رأسه.
وقوله: (وَلَمْ أَكُن بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا) أي: أنك كنت دائماً تجيب دعائي.
قوله: (وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِن وَرَائِي) وإنما قال ذلك، لأنه لم يكن يثق بالناس تجاه دين الله تعالى، وخشي أن يلي هذا الأمر من لا يخاف الله فيه، فيفسد على الناس دينهم.
وقوله: (لَمْ نَجْعَل لَّهُ مِن قَبْلُ سَمِيًّا) قيل معنى السمّي هنا: المثيل والشبيه، أي: لم تلد العواقر مثله في حكمته وحنانه وزكاته وتقواه. وقيل: بل معنى السمّي هنا مطابقة الاسم للاسم، أي: أن يحيى هو أول رجل تسمّى بهذا الاسم، وهذا فيه ردٌ على رواة اليهود، الذين يزعمون أن من أشرافهم من تسمى بهذا الاسم، قبل يحيى بن زكريا.
وقوله: (وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا) أي: جاوزت الحدّ في كبر السن، والعتوّ، هو: المجاوزة للحدّ.
وقوله: (فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَن سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا) أي أشار إليهم أن يسبحوا الله تعالى بكرة، وهو أوّل النهار، وعشيّاً، وهو أخر النهار.
وقوله: (خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا) أي: خذ الكتاب بجدّ وعزم وحزم، والكتاب المراد به هنا: التوراة، وقيل الإنجيل، الذي ينزل على عيسى عليه السلام، والصواب: أن يحيى كان مأموراً أن يأخذ بما في التوراة، حتى إذا نزل شيء من آيات الإنجيل، لزمه أن يأخذ بما أنزله الله تعالى على عيسى، فلفظ الكتاب في هذه الآية، يشمل الكتابين.
وقوله: (وَحَنَانًا مِّن لَّدُنَّا وَزَكَاةً) أي: أن الله تعالى حنّ عليه، أي: رحمه ولطف به، وزكاة، أي: طهارة، أي: طهّره من الذنوب والمعاصي.
وقال تعالى في سورة الأنبياء: (وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ)
قوله: (لا تَذَرْنِي فَرْدًا) لا تدعني وحيداً بلا وارث.
وقوله: (إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ) أي: أن من أسباب استجابة الدعاء، أو سرعة استجابة الدعاء، هو كثرة الأعمال الصالحة.
ثم قال تعالى في سورة مريم: (وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا فَاتَّخَذَتْ مِن دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَن مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيًّا قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلامًا زَكِيًّا قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِّنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَّقْضِيًّا فَحَمَلَتْهُ فَانتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنتُ نَسْيًا مَّنسِيًّا فَنَادَاهَا مِن تَحْتِهَا أَلاَّ تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيًّا فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدتُّ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ مَا كَانَ لِلَّهِ أَن يَتَّخِذَ مِن وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ)
قوله: (انتَبَذَتْ) أي: ابتعدت، والنبذ هو الإلقاء، والانتباذ هو الابتعاد.
وقوله: (مَكَانًا شَرْقِيًّا) أي: أن المكان الذي ابتعدت إليه، يقع شرقاً عن منزل أهلها، والمراد به هنا، محرابها الذي خصّصته لنفسها في المسجد، للصلاة والإقامة.
وقوله: (فَاتَّخَذَتْ مِن دُونِهِمْ حِجَابًا) أي: ساتراً لا يراها الرجال، ولم يبيّن الله تعالى ما هو هذا الحجاب، هل هو من قماش أو خشب أو جدار. وإن كان الراجح أنه من جدار.
وقوله: (فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا) يقال: هو جبريل عليه السلام.
وقوله: (فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا) أي: تجلى لها في صورة رجل من الإنس.
وقوله: (فَحَمَلَتْهُ) أي: حملت بعيسى.
وقوله: (فَانتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا) أي: ابتعدت به مكانا بعيداً عن منازلهم.
وقوله: (فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ) أي: كانت تسير حتى جاءها المخاض، فوجدت نخلة قريبة منها، فجلست تحتها.
وقوله: (فَنَادَاهَا مِن تَحْتِهَا) أي: ابنها بعد أن ولدته.
وقوله: (أَلاَّ تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا) والسريّ هو الجدول من الماء.
وقوله: (وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا) أمرها الله تعالى بالأخذ بالأسباب حتى في هذا الموقف.
وقوله: (إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيًّا) أي: تصوم عن الكلام، فلن تتكلم بشيء. أراد الله تعالى أن يتكلم الطفل، ويبرأها من الفاحشة، ويكون آية لبني إسرائيل.
وقوله: (يَا أُخْتَ هَارُونَ) أي: كان لها أخٌ اسمه هارون، وليس هو هارون بأخي موسى ولا مريم بمريم أخت موسى، ولكن تشابهت الأسماء، حيث كان بنو إسرائيل يسمون أبناءهم بأسماء أنبيائهم وصلحائهم.
عن المغيرة بن شعبة قال: لما قدمت نجران سألوني، فقالوا: إنكم تقرءون يا أخت هارون، وموسى قبل عيسى بكذا وكذا؟ فلما قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم سألته عن ذلك فقال : "إنهم كانوا يسمون بأنبيائهم والصالحين قبلهم" اهـ
رواه مسلم.
ولكن أهل الكتاب من اليهود والنصارى خلطوا بين الأسماء والأنساب، فلما كان لمريم أم عيسى المسيح أخو اسمه هارون، ظنوه هارون النبي أخو موسى، فجعلوا عمران والداً لموسى وهارون النبيان، وهذا التخليط منهم وقع قبل بعثة النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وقبل نزول القرآن.
قلت: وما ورد في كتاب الله عزّ وجل من خبر ميلاد عيسى المسيح عليه السلام، يثبت وبجلاء، أن ما ورد في جميع الأناجيل الخمسة، متى ومرقس ولوقا ويوحنّا وبرنابا، عن خبر ميلاد عيسى المسيح، كلّها كذب، ومن وضع القصّاص، وهذا يفيد أن هذه الأناجيل، بما فيها إنجيل برنابا، لم تكتب من قبل أصحاب عيسى عليه السلام، ولا علاقة لهم بها، بل كلها تستمد معلوماتها، من كتاب وضعه أحد قصّاص النصارى، لربما وضعه بعد رفع عيسى عليه السلام بسنين طويلة، وربما واضع هذه السيرة، لم يلق عيسى، ولا أصحابه ولا أصحاب أصحابه، ولا حتى أصحاب أصحاب أصحابه، بمعنى أنه مضت أجيال كثيرة، بينه وبين عيسى عليه السلام، وإنما نقل سيرته من قاصٍّ لم يكن حريصاً على حفظ القَصَص، لأنه إنما كان يروي القَصَص للمتعة والتسلية، ولم يكلّف كاتب السيرة نفسه للتثبّت مما رواه له ذلك القاص، الذي روى قصة ميلاد لعيسى المسيح لم تقع إلّا في مخيّلته، فجاء كُتّاب الأناجيل الخمسة، ونقلوا ما في تلك السيرة في كتبهم، ونحلوها بعض أصحاب عيسى عليه السلام، ليعطوها الصِبغة الشرعيّة، وتلقى رواجاً بين العامّة.
وهذه الأناجيل، ليست هي إنجيل عيسى عليه السلام، فإنجيل عيسى عليه السلام، كتاب أمر ونهي، وشرائع، ومواعظ، ووعد ووعيد، وهذه الكتب، ليست سوى كتب كُتِبت لتدوين سيرة عيسى عليه السلام، فهي كتب سِيَر وتاريخ، ولكن لما فقد كتاب الإنجيل، ولم تبقى منه نسخة، ظنّ الجهلة أن هذه الكتب، هي إنجيل عيسى، لذلك فإن تسميتها بالأناجيل، خطأ شنيع.
ثم قال تعالى في سورة آل عمران: (وَإِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاء الْعَالَمِينَ يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ ذَلِكَ مِنْ أَنبَاء الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُون أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ إِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَمِنَ الصَّالِحِينَ قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاء إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَرَسُولاً إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُم بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُم مِّنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُم بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ وَمُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُم بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُم بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ فَاتَّقُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُونِ إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنزَلْتْ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُواْ فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمَا لَهُم مِّن نَّاصِرِينَ وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُن مِّن الْمُمْتَرِينَ فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءنَا وَنِسَاءكُمْ وَأَنفُسَنَا وأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلاَّ اللَّهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ فَإِن تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ)
قوله: (وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُون أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ) أي: أن أحبار اليهود، اقترعوا أيهم يكفل مريم، فقرعهم زكريا.
عن عكرمة مولى عبدالله بن عباس قال: ألقوا أقلامهم فجرَت بها الجِرْية، إلا قلم زكريا اصّاعدَ، فكفلها زكريا.
رواه الطبري.
وعن الربيع بن أنس قال: ألقوا أقلامهم - يقول: عصَّيهم - قال: فألقوها تلقاء جِرْية الماء، فاستقبلت عصا زكريا جِرْيةَ الماء، فَقرَعهم.
رواه الطبري.
قلت: كانت الأقلام في ذلك الوقت، عبارة عن عِصِيَ، طولها شِبْر، يحدّون رؤوسها بالسكاكين، حتى تصبر مُدَبَّبَة، ثم يغمسون رؤوس عِصِيِّهم المُدبَّبة في الحِبْر.
وعن قتادة بن دعامة قال: كانت مريم ابنة إمامهم وسيّدهم، فتشاحّ عليها بنو إسرائيل، فاقترعوا فيها بسهامهم أيُّهم يكفلها، فقَرَعهم زكريا، وكان زوجَ أختها.
رواه الطبري.
قوله: (بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ) أي: بأمرٍ منه، حيث قال له: كن فكان. من غير أبّ.
وقوله: (اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ) أي: هذا اسمه الذي اختاره الله له.
وعيسى اسم عربيّ، مشتقٌ من العَيْس، وهو اسم لون عند العرب، وهو اللون الأبيض المشرئب بشقرة، لذلك تسمي العرب الإبل البيض: العِيْس، ويقال للذكر: أعيس، وللأنثى عيساء. وربما اشتق اسم عيسى من العسّ، وهو البحث، يقال لمن كان يعسّ شيئاً: عاسّ، وجمعه: عسس وعُسوس.
وقد بيّنت سابقاً، أن اشتقاق هذا الاسم عربيّ بإقرار رواة اليهود والنصارى، في ذكر عيسى بن إسحاق عليه السلام، مما يرد على من زعم أن هذا الاسم، وغيره من أسماء الأنبياء ليست عربيّة، ولا يجوز البحث لها عن اشتقاقات في العربية!
وفي اللغة الإنجليزية يسمون عيسى: جيسى، بحيث يبدلون العين جيماً، وهذا بسبب عجمتهم، وعدم تمكنهم من لفظ الاسم بلفظه الصحيح، ثم يضيفون الواو والسين للتعظيم، كما هي عادة اليونان، فيقولون: جيسوس.
والنصارى يسمّون عيسى أيضاً: يسوع، وهذا من تخليطهم، وربما يكون يسوع لقب لعيسى عليه السلام، فغلب لقبه على اسمه عند رواة اليهود والنصارى، فظنوه اسمه، كما ظنّوا أن اسم يحيى، يوحنّا.
ومعنى يسوع في العربية، الساعي، ولكن رواة النصارى، يزعمون أنها لفظة عبرانية، تعني: المخلّص، ولا أُراه إلّا من تحريفهم للمعاني.
ولقّبه بالمسيح، لأنه كان يمسح على مواضع المرض والجرح من جسم الإنسان فيبرأ بإذن الله تعالى، آية أعطاه الله إياها، ليثبت بذلك صدقه فيما ادعاه من النبوّة.
وقوله: (وَجِيهًا) أي: شريفاً عظيماً.
وقوله: (وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ) أي: مقرّب من الله تعالى.
وقوله: (وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً) أي: يكلم الناس في مهده ببراءتكِ، ويكلم الناس كهلاً إذا هبط في أخر الزمان، وهذا دليلٌ على أن عيسى إذا هبط يبلغ سنّ الكهولة.
وقوله: ( أَنِّي أَخْلُقُ لَكُم مِّنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُم بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ) وهذه هي الآيات التي أعطاها الله تعالى لنبيه عيسى عليه السلام، وهي أنه يخلق من الطين على صورة الطير، فينفخ فيه فيتحوّل إلى طيرٍ حقيقي، ويبرئ الأبكم والأبرص، بدون علاج، إنما يمسح عليهم فيبرؤون، ويحيى الموتى، حياة حقيقيّة، وينبئهم بما سوف يأكلون، وما يدّخرون في بيوتهم.
وليس هذا من السحر أو الكهانة في شيء، ذلك أن السحر لا يحيل الأشياء عن حقيقتها إلى حقيقة أخرى، إنما السحر تخييلات تحدثها الجنّ في أبصار الناس، ثم تعود تلك الأشياء إلى حقيقتها إذا زال تأثير الجنّ، كما أن السحرة والكهنة لا يستطيعون أن يبرؤوا أحداً إلّا بالأسباب التي وضعها الله تعالى في الأرض، من أدوية، فالساحر والكاهن يعتمدون على الجن في معرفة دواء علّة الشخص، وأما عيسى فهو إنما يبرء المرضى بمجرد المسح على مواضع العلة منهم، فينشطون كأن لم يكن بهم بأس، ويبعث الموتى حقيقة، بحيث يرد الله تعالى إليهم أرواحهم فيقومون أحياءً حقيقة، وهذا ما لا يقدر عليه الساحر والكاهن، حيث أنهم إنما يصوّرون شياطين الجن في صور الموتى، فيظن الناس أن الميّت بعث من قبره.
فإن قال قائل كيف أفرّق بين آيات الأنبياء التي يهبها لهم ليثبتوا بذلك صدق نبوءتهم، وبين دجل السحرة والكهان؟
والجواب: يمكن معرفة ذلك من خلال أمرين:
الأول: أن الأنبياء مقيمون لأمر الله تعالى، دعاة للخير، مغاليق للشر، كل أعمالهم في الخير. والساحر والكاهن بخلاف ذلك، فهم أول من يَدَع أمر الله، باستخفافهم بأداء ما افترض الله عليهم، وركوبهم ما حرّم عليهم، وتجد أعمالهم فيها شرٌّ كثير، مما يلحق الناس منهم من ظلم وعدوان.
والثاني: أن سحرهم إنما هو أوهام وتخيلات، وهذا خلاف ما أوتي موسى وعيسى، حيث أن ما يفعلونه، يحيل الأشياء من حقيقتها إلى حقائق أخرى، ولهذا التقفت عصا موسى عصيّ السحرة، وهذا مستحيل في قانون السحر، وكذلك عيسى كان يخلق للناس كهيئة الطير فينفخ فيه فيكون طيراً حقيقةً لا وهماً وتخييلاً. وكذلك في ادعائهم علم الغيب، فالنبي مستحيل أن يقول سوف يقع في المستقبل أمر ثم لا يقع، بينما الكاهن يقول أشياء كثيرة ولا تقع، بل نادراً ما يقع ما يقول.
وكذلك يمكن معرفة الفارق بين الكرامات التي تقع للولي الصالح، وبين شعوذة السحرة والكهّان.
فأولاً الكرامة لا تقع للولي بمحض إرادته ومشيئته، بل تقع بغير إرادة منه أو مشيئة، وتقع له عند الضرورة إكراماً له، ولذلك سمّيت كرامة، لأنها كرامة من الله لهذا الرجل الصالح، عندما يقع في مأزق، أو يحتار في أمر. وأما إذا ادّعى رجل أنه ولي صالح، واستشهد على ذلك بأنه صاحب كرامات، وأنها تقع متى أراد ومتى شاء، فهذا دجّال ساحر كاهن.
وثانياً: تمسُّك الولي بكتاب الله المنزل وسنن الأنبياء، لا تجده يخالفها، ويجتهد في اقتفائها والعمل بها، فإن وجدت خلاف ذلك، فاعلم أنه دجال، وليس بوليٍّ صالح.
وقوله: (قَالَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللَّهِ) أي: من ينصرني لأبلغ دين الله، الذي من عمل به وصل إلى الله.
وقوله: (قَالَ الْحَوَارِيُّونَ) لقّبهم الله بالحواريّين، لنقائهم، وكل شيء نقي فهو حواريّ، ويقال للأبيض، لأنه نقي: حواري، لذلك يسمى التراب الأبيض، والدقيق الأبيض، حواري، ويطلق على الصاحب حواري، لأنه نقيٌ لصاحبه.
وقوله: (وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ) أي: أرادوا أن يقتلوا عيسى ليطفئوا نور الله تعالى، إلا أن الله تعالى مكر بهم، ورفعه إليه، وهيئَ لهذا الدين من ينصره رغماً عنهم.
وقوله: (إِنِّي مُتَوَفِّيكَ) الوفاة هنا ليست بمعنى الموت، بل بمعنى الاستيفاء، أي: أن عيسى استوفى مدّته الأولى في الدنيا، وهو راجع بإذن الله ليستوفي مدته الأخرى.
وقوله: (وَرَافِعُكَ إِلَيَّ) أي: رفعه إلى السماء الثانية، فكيون أقرب لله منه وهو على الدنيا.
وقوله: (وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ) أي: مطهرك من أن يمسوك بسوء.
وقوله: (وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ) أي: ناصر دعوتهم ومظهرها، وإن أصابهم في الدنيا من الضرّ ما أصابهم، فإن هذا زيادة في أجورهم عند الله تعالى.
وهذا يعني أن أصحاب عيسى عليه السلام، خرجوا إلى الدعوة إلى الله تعالى، وأنه أتبعهم خلق كثير، وكانوا على الدين الحق زماناً، وكانت لهم القوة والمنعة، خِلافاً لما ورد في تواريخ النصارى، من أنهم كانوا ضعفة ومغلوبين على أمرهم، وخلافاً لمن يدعي بان الرماد بذلك، ما ظهر من النصرانية على يدي الملك الروماني قسطنطين، فذاك لم يكن على ملة عيسى عليه السلام، بل كان على خلافها، بل عيسى بريء منه، ومن مِلَّته التي كان عليها، فعيسى لم يكن يدعو لنفسه، بل كان يدعو لله الواحد الأحد. وليس كل من ادعى أنه تابع للأنبياء، يكون صادقاً في دعواه، ما لم يكن متّبعاً لهدي الأنبياء. فتبيّن بذلك، أن أصحاب عيسى، استمروا في الدعوة إلى الله، وكثر أتباعهم، وقويت شوكتهم زماناً، ثم تكالب عليهم أهل البدع والضلال من المنتسبين للنصرانية، وسعوا في إفساد العقيدة الصحيحة، حتى غلبت البدع على الناس، وارتكس أكثرهم إلى الوثنية باسم النصرانية ملّة عيسى عليه السلام، فما بعث الله تعالى نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم، إلا ولم يبقى على النصرانية الصحيحة سوى النزاع في القبائل والقرى.
وقال تعالى في سورة النساء: (فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِم بِآيَاتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الأَنبِيَاء بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِن شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُواْ فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا بَل رَّفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا وَإِن مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا)
قوله: (وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا) أي: رموها بالفاحشة، مع ما رأوا من الآيات في براءتها وصدقها.
وقوله: ( وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِن شُبِّهَ لَهُمْ) أي: أنهم لم يقتلوا المسيح ولم يصلبوه، ولكن قبضوا على رجل يشبهه فظنوه هو، فقتلوه وصلبوه.
وقوله: (وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُواْ فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ) أي: شكّوا أن يكون هذا الذي قبضوا عليه ليس بعيسى، ولكنهم رجحوا ظنهم بأنه هو، ولم يكن هو، وقتلوه وصلبوه.
وقوله: (وَإِن مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ) أي: من اليهود والصابئة والنصارى، من سوف يؤمن به إذا هبط في أخر الزمان، وقبل موته، أي: أن عيسى سوف يموت، وسوف يدفن.
وقال تعالى في سورة المائدة: (وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِم بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الإِنجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ)
وقال تعالى في سورة المائدة: (إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدتُّكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُواْ بِي وَبِرَسُولِي قَالُواْ آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَن يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِّنَ السَّمَاء قَالَ اتَّقُواْ اللَّهَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ قَالُواْ نُرِيدُ أَن نَّأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَن قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِّنَ السَّمَاء تَكُونُ لَنَا عِيداً لِّأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِّنكَ وَارْزُقْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَن يَكْفُرْ بَعْدُ مِنكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لاَّ أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِّنَ الْعَالَمِينَ وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِن دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُواْ اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَّا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ)
قوله: (مَائِدَةً مِّنَ السَّمَاء) أي: سفرة فيها طعام، تكون آية لنا، لنزداد بها إيماناً بك وبدعوتك.
وقال تعالى في سورة الزخرف: (وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ وَقَالُوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلاَّ جَدَلا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ إِنْ هُوَ إِلاَّ عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلا لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَوْ نَشَاء لَجَعَلْنَا مِنكُم مَّلائِكَةً فِي الأَرْضِ يَخْلُفُونَ وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِّلسَّاعَةِ فَلا تَمْتَرُنَّ بِهَا وَاتَّبِعُونِ هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ وَلا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطَانُ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ وَلَمَّا جَاءَ عِيسَى بِالْبَيِّنَاتِ قَالَ قَدْ جِئْتُكُم بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُم بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ فَاخْتَلَفَ الأَحْزَابُ مِن بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ)
قوله: (وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِّلسَّاعَةِ) أي: إشارة إلى قرب قيام الساعة، عندما يهبط في أخر الزمان لقتل المسيح الدجّال.
وقال تعالى في سورة الحديد: (مَّ قَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِم بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ الإِنجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلاَّ ابْتِغَاء رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ)
قوله: (مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ) أي: ما فرضناها عليهم، فمعنى الكتابة هنا، أي: الفرض.
وقوله: (إِلاَّ ابْتِغَاء رِضْوَانِ اللَّهِ) أي: إنما أرادوا ببدعتهم هذه ابتغاء رضوان الله.
وقوله: (فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا) أي: أكثرهم اتخذها سبيلاً للرياء والسمعة. فمن ترهبن لله أعطاه الله أجراً، ومن ترهبن للرياء والسمعة، فهو من الفاسقين.
وقال تعالى في سورة الصف: (وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُم مُّصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُم بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ)
قوله: (وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ) وهذه البشارة موجودة في سيرة عيسى عليه السلام، ولكن تلميحاً لا تصريحاً، وهذا يدل على ما سبق، أن السيرة المعروفة اليوم بالإنجيل، ليس هي الإنجيل الذي أنزله الله تعالى على عيسى، لأنه لا يوجد تصريح باسم النبي محمد في هذه السيرة.
وقال تعالى في سورة الصف: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللَّهِ فَآمَنَت طَّائِفَةٌ مِّن بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَت طَّائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ)
وبرفع عيسى عليه السلام انقطعت النبوّة من بني إسرائيل، وصار تلاميذه يعرفون بالمسيحيين وبالنصارى، فقيل لهم المسيحيون، نسبة إلى المسيح، وقيل لهم النصارى، لأنه لما شعر عيسى أن اليهود كفروا به، دعا الناس إلى نصرة الله ونصرة دينه، فلم يجبه أحد، فقال أصحابه: نحن أنصار الله، أمنا بالله، واشهد بأنا مسلمون. فقيل لهم: النصارى.
فخرج تلاميذ عيسى عليه السلام يدعون إلى دين الإسلام، وإلى العمل بما جاء في الإنجيل، الذي أنزله الله عز وجل على عيسى عليه السلام، فاتَّبعهم خلق كثير، وكانوا على التوحيد زماناً، حتى ظهر فيهم علماء الضلالة ودعاة الزندقة باسم الإسلام، وباسم المسيح عيسى عليه السلام.
ولكون خلق عيسى عليه السلام تم من غير أب، وإنما بالكلمة، حيث قال الله تعالى: كنّ فكان عيسى، لذلك كان أكثر اختلافهم في ماهية عيسى وطبيعته، إذ نظروا إليه على أنه غير بشر، أو على الأقل ليس بشراً مكتمل الآدميّة، وبما أنه أو جزء منه غير بشري زعموا أن عيسى إله، أو أنه ابن الإله، بينما قالت طائفة أن الإله تجزأ إلى ثلاثة أجزاء، هو الأب وهو عندهم الله تعالى، وابن الإله، وهو عندهم عيسى عليه السلام، والروح القدس، وهو جبرائيل عليه السلام، تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً، وكل هذا من وحي الشيطان وتحريضه.
وقد انتشرت هذه المذاهب الكفريّة بين النصارى في وقت مبكر، وذلك من طريق علماء الضلالة، ودعاة الزندقة، وبتزيين من الشيطان وتحسين منه لهذه البدعة، حتى أن هؤلاء الدجاجلة حرفوا بعض نصوص الإنجيل ليؤكدوا على أن عيسى إله أو ابن إله، مستغلين ثقة الناس بهم، ومستغلين للوضع العلمي السائد في ذلك الوقت، إذ كان أكثر الناس في تلك الأزمنة أمّيين، لا يحسنون القراءة والكتابة، ولا يعرفون من تعاليم دينهم إلّا ما أملاه عليهم علمائهم الذين يثقون فيهم، ويقلدونهم إياه.
إلا أنهم أخيراً استقروا على القول بأن الله تعالى وتقدس وتنزه عن كذبهم، تجزأ إلى ثلاثة أجزاء، تمثلت في الأب والابن والروح القدس، وذلك أن أحد ملوك الروم ويدعى: قسطنطين، دان بالنصرانية، وآمن بهذا المذهب، وأجبر النصارى عليه، واستباح دماء من خالفه، فدخل النصارى في هذا المذهب راغبين وراهبين، مع بقاء كثير من النصارى على الإسلام دين عيسى عليه السلام، والذين أخذوا يدعون الناس إلى الحق، وإلى دين الإسلام، وإلى الإنجيل الصحيح الذي لم يبدل ولم يغيّر، ولكن أكثر الناس إما غير مبالين ولا يهتمون بالأمر أصلا، فهم مشغولون بما هو عندهم أهم من هذه المسائل، من السعي خلف أرزاقهم، وجمع الأموال، ورضي بما وجد عليه علماء أهل بلده، أو نظر إلى الأكثرية وأتبعهم، بحجة أنه لا يعقل أن يكون الأكثرية على باطل، والأقليّة على الحق، وبعضهم علم الحق ولكنه أعرض عنه، لأن في اتباعه للحق غضاضة عليه في مكانته أو في معيشته، فآثر ركوب الموجة حتى لا يخسر دنياه.
وقد بقيت النصرانية في تعاليمها العتيقة، وصبغتها الإسلامية الصحيحة، إلى قريب مبعث النبي محمد صلى الله عليه وسلم، ولكنها كانت قد أوشكت على الزوال، إذ لم يكن يعتنقها في الحقيقة سوى النزاع في القبائل والقرى.
وأما يحيى عليه السلام فقد توفي مقتولاً، وقد قتل في الزمن الذي رُفِع فيه عيسى إلى السماء، قال يوسيفوس مؤرخ اليهود والمتوفى سنة مائة للميلاد، في تاريخه في ترجمة أنطيغوس اليهودي، حاكم القدس، من قبل الرومان: "وكان مسرفاً في النسوة والمعاصي، وهو الذي أخذ امرأة فيلبس أخيه وهو حيّ، وله منها ولدان، واسم المرأة هيروديا، فلما أنكر علماء اليهود وأئمتهم عليه ذلك، قتل منهم جماعة كثيرة، وقتل يوحنا بن زكريا، الحَبر الأعظم، والكاهن الأكبر، لما أنكر عليه أخذ امرأة أخيه" اهـ
وأما والده زكريّا عليه السلام، فيُعْتَقد أيضاً أنه مات مقتولاً، ولكن لا أحد يعلم بالتحديد متى قتل، ولكن الراجح أنه قتل قبل ابنه يحيى بسنوات عديدة، ذلك أن زكريا عليه السلام، سأل الله تعالى أن يهب له وريثاً يرث عنه العِلم، ليبلّغه الناس من بعده، فلو قتل زكريا ويحيى في زمن واحد، لما كان يحيى وريثاً لزكريا، مع العلم أن زكريا، لم يذكر له خبر في زمن نبوءة يحيى وعيسى عليهما السلام، مما يدلّ على أنه مات قبل ذلك.
ورواة اليهود والنصارى، يزعمون أن زكريّا النبيّ، ليس هو زكريا والد يحيى، بل رجل يدعى: زكريّا بن عدّو، وهذا قطعاً من أوهامهم وتخليطهم، والذي يظهر، أن زكريا بن عدّو هذا كان حبراً من أحبار اليهود، فظنّه اليهود زكريّا النبي، وتابعهم على هذا النصارى.
ورواة النصارى، يزعمون أن النبي زكريا المقتول، هو زكريّا بن عدوّ، وأنه قتل بين المسجد والمذبح الذي أعدوه لذبح قرابينهم، إما ذاهباً للمسجد أو خارجاً منه.
وبما أنه تبيّن بطلان قولهم، في أن زكريّا النبي، هو زكريّا بن عدّو، فبالتالي، يترجّح أن زكريّا المقتول، هو زكريّا والد يحيى.
وقد ذكر يوسيفوس اليهودي، في تاريخه، أنه سبق الملك أنطيغوس اليهودي، عِدّة ملوك من أسلافه، كانوا كلهم طغاة، وفاسدين، فيظهر، أن الفساد الديني والأخلاقي قد انتشر في عصر هؤلاء الملوك، فأخذ زكريا عليه السلام، يعظ الناس وينهاهم عن السوء، فغضب بعض أهل الشر والفساد من زكريا لذلك، لذلك سعو لقتله، والراجح أنهم لن يقدموا على قتله ما لم يكن لديهم أمرٌ من ملك اليهود، فلما تمكنوا من استصدار الأمر بذلك، بحثوا عنه ليقتلوه، فوجدوه بين المسجد والمذبح، الذي يذبحون فيه قرابينهم، إما ذاهب إلى المسجد أو خارج منه، فقتلوه.
سيرة عزير عليه السلام
قال تعالى في سورة البقرة: (أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّىَ يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَل لَّبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِّلنَّاسِ وَانظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)
قوله: (خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَ) أي: مهدمة، لم يبقى سوى أساساتها.
وقوله: ( لَمْ يَتَسَنَّهْ) أي: أي: لم يتغيّر.
وقوله: (وَانظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا) أي: أن الله تعالى جمع العظام أمامه وكساها لحماً ثم أعاد الجسد إلى الحياة.
ولكن ما المراد بالإحياء هنا، الرجل أم الحِمار؟
والجواب: الراجح أن المراد بذلك هو الحِمار، أي: أن الحمار هلك وأكل الدود لحمه، وتفككت عظامه، فلما بعث الله الرجل، أراه كيف يحيي الحمار من جديد.
والدليل على ذلك، أن الرجل أُقيم بعد أن بعثه الله من الموت، فسأله الله بواسطة ملائكته: كم لبثت؟ فقال: يوماً أو بعض يوم. أي: أنه لم يشعر بالوقت، ولم يلحظ في نفسه ما يدل على طول مكثه، فأراه الله تعالى طعامه لم يتغيّر، ثم أراه الحمار قد هلك، وأحياه أمامه.
ومثل هذه الحادثة لا تقع إلّا لنبي، ولم يذكر الله تعالى من هو هذا النبي، ومن هم قومه، إلّا أن الشواهد التاريخية، المذكورة في كتب اليهود، تدل على أن المراد بذلك، هو عزير عليه السلام.
فرواة اليهود يذكرون في تاريخهم، أن عزيراً كان هو المسؤول عن إعادة إعمار مدينة القدس بعد دمارها على يد بخت ناصر ملك بابل، وإجلائه لليهود إلى العراق، فلما قضى الفرس على دولة البابليين، أذنوا لليهود بالعودة إلى القدس، وأمدّ ملك فارس عزيراً بالمال ليعيد بناء مدينة القدس.
ومما سبق، يتّضح أن رواة اليهود قد عبثوا في تفاصيل الخبر، بسبب ما يقع للرواة من أوهام، والذي يظهر لي وأراه صواباً: أن عزيراً عليه السلام، كان من ضمن من نجى من الغارة البابلية على مملكة اليهود، ولم يتم أسره مع من أسر إلى بابل، فيظهر أن عزيراً استقرّ فيما بعد بأهله في موضع خارج القدس، فخرج على حماره ومعه زاده ليتفرّج على أطلال المدينة، وهناك تعجب كيف يحيي الله هذه المدينة، بعد أن تمّ تدميرها كل هذا الدمار، فلما نزل للراحة ولتناول طعامه، أماته الله، فمرَّت دولة البابليين، وانهارت على أيدي الفرس، وأذن الفرس لليهود بالعودة إلى بلادهم الأولى، فرجع كثير منهم، ولم يبقى على قيد الحياة ممن أدرك السبي، إلّا النزر اليسير، فعاد اليهود وأعادوا بناء مدينتهم القدس، وعزير في موضعه لا أحد ينتبه له، حتى عادت القدس مثل ما كانت عليه أو أحسن من ذلك، وهنا بعث الله تعالى عزيراً ليريه كيف أحيا تلك القرية.
والسؤال هنا: هو كيف عرف اليهود أنه عزير الذي كان حيَّاً قبل مائة عام؟
والجواب: لا شك أن ممن رجع إلى القدس من العراق، من عاش أيام السبي، وكان يعرف عزيراً، وقد يكون من قرابته أو أصدقائه، وهو من شهد له بأنه عزير.
والله وحده أعلم بالصواب.
ومما يدل على أن هذا النبي هو عزير عليه السلام، ما حكاه الطبري عن عبدالله بن عباس ومولاه عكرمة والضحاك بن مزاحم وقتادة بن دعامة والربيع بن أنس، أنه عزير. وهذا أصحّ الأقوال.
وقال تعالى في سورة التوبة: (وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ)
وهذا من تعظيمهم لعزير.
وذلك أن التوراة فقدت، لما لحق نسخها من الإحراق، وما لحق أحبار اليهود من القتل، حتى لم يتبقى منها شيء، سوى الآيات القلائل التي يحفظها بعض علمائهم، ولم يكن فيهم من كان يحفظ التوراة جميعاً عن ظهر قلب، فأملاها عليهم عزير من حفظه كاملة، لذلك عظم في نفوسهم، وكانوا يصفونه في تاريخهم، بكاتب شريعة الربّ الكامل.
وبسبب موته مائة عام، وحفظه للتوراة وإملاءه لها من صدره، وقد فقدت، غلا فيه بعض اليهود، فزعموا أنه ابن الله، تعالى الله عن قولهم علوا كبيرا، ما اتخذ صاحبة ولا ولد.
ولأن عزيراً كانت له مكانة سامية عند اليهود، ولأنه أدرك عودة اليهود إلى القدس، فقد نسبوا إليه أنه هو من أعاد القدس، ولأن ملك فارس هو من دعم اليهود معنويّاً واقتصاديّاً، لإعادة إعمار القدس، فقد جعلوا عزيراً، هو من تولّى ذلك كله، وهذا ليس بصحيح.
وعزير اسم عربيّ، مشتق من التعزير. وله في اللغة معانٍ عِدّة، فهو يأتي على معنى التعظيم والتوقير، ويأتي على معنى المنع، ويأتي على معانٍ أخرى.
سيرة يونس عليه السلام
قال تعالى في سورة يونس: (فَلَوْلاَ كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُواْ كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ)
قوله: (إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ) ولا يذكر أهل الكتاب شيئاً عن نسب يونس أكثر من أنه ابن متّى، ولم يذكروا إلى أيّ أسباط بني إسرائيل ينتسب، وأما النسب المذكور ليونس بن متّى في كتب التاريخ الإسلامي، فهو من وضع قصّاص المسلمين وأكاذيبهم.
ورواة اليهود والنصارى، يسمونه يونان بن متّاي، على عادتهم في تحريف أسماء الأنبياء.
بينما يونس اسم عربيّ، مشتق من الأُنْس.
ومتّى اسم عربيٌّ أيضاً، مشتق من المَتّ، وهو الاتصال، تقول العرب: متّ له بنسب أو رحِم، أي: اتّصل له بنسب أو قرابة.
ويذكر رواة اليهود والنصارى، أن يونس من قرية نينوى، والتي بنيت مدينة الموصل على انقاضها، وبما أن الدولة السومرية والآشورية والبابلية، قامت بعد زمن نبي الله سليمان، وبما أن يونس من بني إسرائيل، فهذا دليل على أن بني إسرائيل، هم أوّل من بنى مدينة نينوى، وأنها كانت في أيديهم حتى انتزعها منهم الآشوريون واتخذوها عاصمة لهم، فاندمج أهلها من بني إسرائيل مع الأمم الأخرى التي خالطتهم في مدينتهم، وربما هاجر كثيرون منهم خارج نينوى ليسكنوا في مدن أخرى، طلباً للمتّسع والمعاش.
وتدل هذه الآية الكريمة، أن الله تعالى قد هيئ لهم العذاب، فلما شعروا به، ضجّوا بالدعاء لله تعالى، فرفعه الله عنهم، وهذا ما لم يقع في من سبقهم من الأمم، إذا هيئ الله لهم العذاب، لم ينفعهم شيء حتى يقع بهم.
وقال تعالى في سورة الأنبياء: (وَذَا النُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَن لّا إِلَهَ إِلاَّ أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنجِي الْمُؤْمِنِينَ)
وقوله (وَذَا النُّونِ) أي: صاحب الحوت، وذو تأتي بمعنى صاحب، والنون هو الحوت.
وقوله: (مُغَاضِبًا) أي: غاضباً من قومه، لمّا أبو الاستماع إليه، والانقياد له، فخرج من قريته دون إذنٍ من الله تعالى.
وقوله: (فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ) أي: ظنذ أن لن نُضيِّق عليه، فالقدرة هنا بمعنى التضييق، أي: ظنّ أن الله تعالى لن يعاقبه بسبب خروجه من القرية بغير إذنٍ منه سبحانه وتعالى.
وقوله: (فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ) أي: في ظلمات بطن الحوت والبحر.
وقال تعالى في سورة الصافات: (وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنْ الْمُدْحَضِينَ فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ فَلَوْلا أَنَّهُ كَانَ مِنْ الْمُسَبِّحِينَ لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاء وَهُوَ سَقِيمٌ وَأَنبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِّن يَقْطِينٍ وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ فَآمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ)
قوله: (الْمُرْسَلِينَ) أي: أنه كان نبيّاً رسولا.
وقوله: ( إِذْ أَبَقَ) أي: خرج بدون إذنٍ من الله تعالى، فهو كالعبد الآبق من سيده.
وقوله: (الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ) الفلك هو السفينة، والمشحون، أي: المشحون بالبشر والبضائع.
وقوله: ( فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنْ الْمُدْحَضِينَ) أي: أنهم صنعوا قرعة يقترعون بينهم، من يُلقى في البحر، فوقعت القرعة عليه، فألقوه في البحر، والمدحض، هو: المغلوب.
عن قتادة بن دعامة قال: فاحتبست السفينة، فعلم القوم أنما احتبست من حدث أحدثوه، فتساهموا، فقُرِعَ يونس، فرمى بنفسه، فالتقمه الحوت.
رواه الطبري.
وقوله: (وَهُوَ مُلِيمٌ) أي: المُلَام، وهو وصف يطلق على المذنب، الذي يستحق اللوم على ذنبه.
وقوله: (فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاء) أي: ألقاه بساحل البحر. فالنبذ هو الإلقاء، والعراء هو الفضاء.
وقوله: (وَأَنبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِّن يَقْطِينٍ) أي: بجواره، ليأكل منها.
وقوله: (أَوْ يَزِيدُونَ) أي: أنهم يزيدون على المائة ألف، والعرب يقتصرون في ذكر الأعداد على .. ، والواو حرف عطف، ولا يقتضي الترتيب والبعديّة، فقد يكون المعطوف سابقٌ للمعطوف عليه، أو وقع معه، أو وقع بعده، والمعطوف هنا وقع قبل وبعد التقام الحوت، كون الله أرسله إليهم قبل أن يلتقمه الحوت، وبعد أن لفظه الحوت.
سير اليسع عليه السلام
قال تعالى في سورة الأنعام: (وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلاًّ فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ)
وقال تعالى في سورة ص: (وَاذْكُرْ إِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِّنْ الأَخْيَارِ)
ولم يذكر الله في كتابه ولا نبيه في أحاديثه شيئاً عن حياة اليسع.
بينما يذكر رواة اليهود: أن اليسع كان تلميذاً من تلامذة إلياس عليه السلام، فلما مات إلياس، بعثه الله نبياً، وخلف اليسع معلّمه إلياس، في دعوة قومه إلى عبادة الله الواحد الأحد، وإرشادهم وتعليمهم تعاليم الإسلام، التي بعث الله تبارك وتعالى بها موسى عليه السلام، وأنزل بها التوراة، والقضاء بينهم، فكان اليسع، يسير في بني إسرائيل سيرة إلياس، فيدعوا ضالهم، ويرشد تائههم، ويعلم متعلمهم، ويقضي بينهم، حتى توفّاه الله تعالى.
ولا يذكر رواة اليهود شيئاً عن نسب اليسع، ولا من أي أسباط بني إسرائيل هو، والنسب المذكور لاليسع في كتب التاريخ الإسلامي، من وضع قصّاص المسلمين وأكاذيبهم.
واليسع، مشتق من السعي، كأنه مخفَّف من يسوع، أو هو مشتق من السِعَة، أي: الذي يسع الأشياء.
سيرة إلياس عليه السلام
قال تعالى في سورة الصافات: (وَإِنَّ إِلْيَاسَ لَمِنْ الْمُرْسَلِينَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَلا تَتَّقُونَ أَتَدْعُونَ بَعْلا وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبَائِكُمُ الأَوَّلِينَ فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ إِلاَّ عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخِرِينَ سَلامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ)
قوله: (لَمِنْ الْمُرْسَلِينَ) أي: أنه كان نبيّاً رسولا.
وقوله: (بَعْلا) البعل صنم كان يعبد بالشام، ومعنى البعل: السيّد والملك، ولذلك تقول الزوجة لزوجها: بعل. أي: سيّد، ومالك.
وذلك أن كثيراً من بني إسرائيل عبدوا البعل، فبعث الله تعالى إليهم نبيّه إلياس، ليدعوهم لعبادة الله الواحد الأحد، وينهاهم عن عبادة الأوثان، ويصبر على دعوتهم وأذاهم له، فتبعه منهم من أراد الله تعالى به خيرا، وأعرض عن الحق من علم الله أنه لا خير فيه، وبقي على ذلك حتى وافاه أجله، غير مبدل ولا مغير .
وقوله: (فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ) أي: محضرون للعذاب.
وقوله: (وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخِرِينَ) أي: أبقينا عليه ذكراً حسناً في الأجيال التالية، جيلاً بعد جيل.
وقوله: (إِلْ يَاسِينَ) والأصل أن تكتب: إلياسين. ولكن الناسخ كتبها هكذا فاستمر النسّاخ في كتابتها على هذا الرسم، وإلياسين، المراد به: إلياس، والياء والنون زائدة، كما سمّى الله تعالى سيناء: سينين، في قوله تعالى: (وَطُورِ سِينِينَ) وإنما يريد: طور سيناء.
وفي كتب اليهود، أن إلياس من بني إسرائيل، وهم يسمونه: إيْلِيَّا، وهذا من تخليطهم وتحريفهم لأسماء الأنبياء، ويظهر أن وقوعهم في هذا الوهم، هو بسبب تقارب لفظ اسم إلياس بإيلياء، وشهرة إيلياء، فيقال: بأن إيلياء من الأسماء الرومانيّة، والتي كانت مستخدمة في ذلك الوقت بكثرة، بحيث لا يمكن نسيان لفظ الاسم، بخلاف إلياس، حيث من النادر أن يعرف شخص بهذا الاسم، ومن هنا وهم الراوي، فظن أن اسم النبي: إيلياء، والصواب ما نصّ عليه القرآن.
ويزعمون أنه من مدينة تشبه، وهي مدينة تقع في شمال شرق مدينة الموصل، وتبعد عنها قرابة مائة وأربعين ميلاً. وأنه انتقل ليستوطن في أرض جلعاد، وهو موضع يقع بين نهر اليرموك شمالا، ونهر الزرقاء جنوبا، ونهر الأردن غربا.
ولا يمكن الوثوق بما قاله رواة اليهود حول الموطن الأوّل لإلياس، ولا بانتقاله إلى أرض جلعاد، ولكن إن صحّ هذا، فهذا يعني أن ملك سليمان عليه السلام شمل أجزاء من بلاد إرمينيا، كون مدينة تشبه تقع في بلادهم، وأن جزءاً من بني إسرائيل، انتقل إلى العيش في بلدة تشبه.
ويمكن تفسير انتقال إلياس من بلده تشبه إلى أرض جلعاد، بأن بني إسرائيل في تلك المدينة تعرّضوا لضغوط من الشعوب المتاخمة لهم، بعد ضعف دولة بني إسرائيل، بموت الملك سليمان، ومما زاد الأمر سوءاً بالنسبة لبني إسرائيل المقيمين في مدينة تشبه، هو بعد مدينتهم عن قلب بلاد بني إسرائيل، والتي كانت تتمركز في ذلك الوقت في الجزء الغربي من الشام.
ولا يذكر رواة اليهود شيئاً عن نسب إلياس، ولا من أيّ أسباط بني إسرائيل هو، والنسب المذكور لإلياس في كتب التاريخ الإسلامي، من وضع قصاص المسلمين وأكاذيبهم.
وإلياس اسم عربيّ، مشتق من الإلياس، وهي القوة، لذلك سمّي الأسد والجمل: الأليس. وربما يكون مشتقاً من الإلياس، وهو: الإقامة، لذلك سمّي الرجل الذي لا يبرح بيته أليس. وربما يكون مشتقاً من اللوس وهو الذوق، وهذا الاسم قد سُمّي به إلياس بن مضر بن نزار بن معدّ بن عدنان.
ويزعم بعض المؤرخين، أن إلياس هي الصيغة اليونانية لاسم إيلياء، يذهب في ذلك، إلى أن اليونانيين، إذا أرادوا تعظيم شخص، الحقوا السين في أخر اسمه عند نطقه، وهذا باطل، لأن اليونانيين، لا يكتفون بإلحاق السين في أخر الاسم، بل يضيفون إليه حرف الواو، وربما زادوا أيضاً حرف الياء للضرورة، فيقولون في هرقل: هراقليوس، فلو كان ما زعموه صحيحاً، لكان يجب أن يقال في إيلياء: إيليوس. أو: إيلياوس. وقد أثبتّ سابقاً، أن إلياس، من الأسماء العربية، التي تسمى بها العرب قديماً، وأن اشتقاقه عربيٌّ محض.
وزعم رواة اليهود، أن إلياس، رفع إلى السماء، وأنه سوف يعود في أخر الزمان، وهذا وهم منهم، حيث خلطوا بينه، وبين خبر عيسى المسيح عليه السلام، وإذا كان من كتب تاريخ اليهود، دوّن ذلك، بعد حياة النبي عيسى عليه السلام، فكل ما قام به كاتب التاريخ اليهودي، هو أن أخذ ما يرويه مسلمو النصارى، من رفع عيسى عليه السلام، وعودته في أخر الزمان، ونحلها إلياس عليه السلام، ليكون هذا الفضل، لنبيٍّ معترف به من قبل اليهود.
هل إلياس هو إدريس؟
من الأخطاء التي وقع فيها بعض المسلمين، اعتقادهم أن إلياس هو إدريس، عليهما السلام، وهذا خلط وتحريف فاحش.
والذي دفعهم إلى هذا الخلط والتحريف، هو ما ذكره الله تبارك وتعالى عن إدريس عليه السلام، في قوله تعالى: ﴿وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا﴾ [مريم]
فلما رأى بعض المسلمين أن اليهود يزعمون أن إلياس رفع إلى السماء بروحه وجسده، فهو حي في السماء، رجّحوا أن معنى قوله تعالى عن إدريس: (وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا) أي: أنه رُفِع بروحه وجسده، واستظهروا من خلال ذلك: أن إدريس هو إلياس!
وروى المفسرون عن عبدالله بن مسعود أنه قال بأن إلياس هو إدريس، وأنه كان يقرأ قوله تعالى: ﴿سَلَامٌ عَلَىٰ إِلْ يَاسِينَ﴾ [الصافات] (سلام على إدراسين) وهذا لم يثبت عن عبدالله بن مسعود، وأكثر روايات المفسرين أباطيل، قال البخاري في صحيحه: "يذكر عن ابن مسعود وابن عباس أن إلياس هو إدريس" اهـ وهذا دليل صارخ على أن ما نسب إليهما ليس بثابت، بل وليس له سند يعرف، حتى ينظر فيه، ويتحقق من صحته.
وقد ذكر إدريس في القرآن مرتين، وذكر إلياس في القرآن مرتين، فدلّ هذا على أنهما شخصان مختلفان.
فثبت بذلك أنه لا علاقة بين إلياس وإدريس.