القيامة الكبرى

قال تعالى في سورة الأنعام: (هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لاَ يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِن قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا قُلِ انتَظِرُواْ إِنَّا مُنتَظِرُونَ)

عن مجاهد بن جبر قال: (إلا أن تأتيهم الملائكة) عند الموت حين توفاهم، (أو يأتي ربك) ذلك يوم القيامة، (أو يأتي بعض آيات ربك) طلوع الشمس من مغربها.

رواه الطبري.

وروى الطبري عن قتادة وعبدالملك بن جريج مثله.

قلت: في هذه الآية، دليل على أن الله تعالى، يأتي بذاته المقدسة، ليفصل بين عباده، ويحاسبهم، فمجيئة غير مجيء ملائكته، ومجيء أمره، بمجيء ملائكته، فتبيّن أن مجيء الله تعالى يكون بذاته المقدّسة.

وقال تعالى في سورة الأعراف: (قال اللهُ تعالى: وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ وَعَلَى الْأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيمَاهُمْ وَنَادَوْا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَاءَ أَصْحَابِ النَّارِ قَالُوا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ وَنَادَى أَصْحَابُ الْأَعْرَافِ رِجَالًا يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ قَالُوا مَا أَغْنَى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لَا يَنَالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ)

قوله: (وبينهما حجاب) أي: بين الجنة والنار، حجاب، وهو السور الذي يضرب بين الجنة والنار، باطنه من قبل الجنة الرحمة، وظاهره من قبل النار العذاب.

قوله: (وعلى الأعراف) الأعراف هو ظهرالسور، الذي يضرب بين الجنّة والنّار، كما يقال للشعر الذي على أعلى رقبة الجواد: العُرف.

وقوله: (رجال) هم رجال استوت حسناتهم وسيئاتهم، فلم يستحقوا دخول الجنة، ولم يستحقوا دخول النار، فوضعهم الله تعالى لكمال عدله على الأعراف.

وقوله: (رجالا يعرفونهم بسيماهم) أي: رجال من الكفّار، يعرفهم أهل الأعراف، بسيماهم، أي: بصورهم، فيوبخهم أهل الأعراف.

وقوله: (أهؤلاء الذين أقسمتم لا ينالهم الله برحمة) أي: بعد أن يسمع أهل النار توبيخ أهل الأعراف لهم، يقسمون أن لا ينال أهل الأعراف رحمة الله، فيكذبهم الله تعالى، ويأمر أهل الأعراف بدخول الجنة.

وقال تعالى في سورة هود: (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَىٰ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا ۚ أُولَٰئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَىٰ رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الْأَشْهَادُ هَٰؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَىٰ رَبِّهِمْ ۚ أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِين)

عن عبدالله بن عمر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الله يدني المؤمن فيضع عليه كنفه، ويستره فيقول: أتعرف ذنب كذا؟ أتعرف ذنب كذا؟ فيقول: نعم أي رب. حتى إذا قرره بذنوبه ورأى في نفسه أنه هلك قال: سترتها عليك في الدنيا، وأنا أغفرها لك اليوم، فيعطى كتاب حسناته، وأما الكافر والمنافقون، فيقول الأشهاد: هؤلاء الذين كذبوا على ربهم ألا لعنة الله على الظالمين".

رواه البخاري ومسلم.

وقال تعالى في سورة إبراهيم: (وَلاَ تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُؤُوسِهِمْ لاَ يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاء)

قوله: (مهطعين) أي: المهطع، هو الذي جحظ بعينه.

وقوله: (مقنعي رؤوسهم) الإقناع في لغة العرب له معنيان، الأول: أن يرفع رأسه إلى الأعلى. والثاني: أن ينكّس رأسه إلى الأسفل. والراجح هنا، أن المراد بذلك هو رفع رؤوسهم إلى الأعلى، ينتظرون نزول ربهم لفصل القضاء، وقد جحظت أعينهم، ويكون ذلك بعد أن يشفع النبي صلى الله عليه وسلم للناس الشفاعة الكبرى، ليأتي الله تعالى لفصل القضاء، فعندما يهبط، يخبرهم أن الله آتٍ، فهنا تسكن حركاتهم، ويقنعون رؤوسهم، وتجحظ أعينهم.

وقوله: (لا يرتد إليهم طرفهم) أي: لا يستطيعون أن يغمضوا أعينهم من شدة الخوف والترقّب.

وقوله: (وأفئدتهم هواء) أي: أصبحت كأنها فارغة من شدّة الخوف.

وقال تعالى في سورة الحجر: (فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ)

عن أبي برزة الأسلمي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن عمره فيم أفناه، وعن علمه فيم فعل، وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه، وعن جسمه فيم أبلاه".

رواه الترمذي.

وقال تعالى في سورة الإسراء: (وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا)

عن عبدالله بن عباس، في قوله تعالى: (ونخرج له يوم القيامة كتابا يلقاه منشورا) قال: هو عمله الذي عمل أحصي عليه، فأخرج له يوم القيامة ما كتب عليه من العمل، يلقاه منشورا.

رواه الطبري.

أي: يلقاه منشورا في كتاب.

وقال تعالى في سورة الإسراء: (قال اللهُ عَزَّ وجلَّ: وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولًا)

وقال تعالى في سورة الإسراء أيضا: (وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً)

قال قتادة: لا تقل: رأيت ولم تر، وسمعت ولم تسمع، وعلمت ولم تعلم؛ فإن الله تبارك وتعالى سائلك عن ذلك كله.

رواه الطبري.

وقال تعالى في سورة الإسراء أيضا: (وَمَن يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَاء مِن دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا مَّأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا ذَلِكَ جَزَاؤُهُم بِأَنَّهُمْ كَفَرُواْ بِآيَاتِنَا وَقَالُواْ أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ قَادِرٌ عَلَى أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلاً لاَّ رَيْبَ فِيهِ فَأَبَى الظَّالِمُونَ إِلاَّ كُفُورًا)

قوله: (ونحشرهم يوم القيامة) هذا حشر يكون يوم القيامة، وليس هو الحشر الذي يكون في أخر الدنيا قبل النفخ في الصور.

عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "يحشر الناس يوم القيامة ثلاثة أصناف، صنف مشاة، وصنف ركبان، وصنف على وجوههم"، قالوا يا رسول الله وكيف يمشون على وجوههم؟ قال: "إن الذي أمشاهم على أرجلهم قادر أن يمشيهم على وجوههم، أما إنهم يتقون بوجوههم كل حدب وشوك".

رواه أحمد.

وقوله: "كل حدب وشوك" الحدب، هو كل حجر معقوف، والشوك، هو كل بروز في الأرض مدبّب الرأس.

والشوك عادة يطلق على شوك الشجر، ولا أظن المقصود هنا في الحديث شوك الشجر، لأن الشجر ييبس ويتهلّل ويصبح تراباً، فربما كان المقصود بالشوك هنا، الأحجار الصغيرة المدبّبة الرأس، إلا أن يكون مراد النبي صلى الله عليه وسلم بقوله هذا، التشبيه فقط.

فهذا حشر يقع يوم القيامة، تسوقهم الملائكة، فمنهم من يكرمه الله فيحشر راكبا على ظهر بعير أو خيل أو بغل أو حمار، وهم السابقون وربما بعض أصحاب اليمين، وبعضهم يمشي على رجليه، وهم أصحاب اليمين، وربما بعض الكفّار، ممن لم يطغى في كفره، وكان في خُلُقِه دماثة، وبعضهم يهينهم الله تعالى فيجبرهم على المشي على وجوههم، وهم الطاغون في الكفر والعصيان.

وأرض المحشر هي الشام.

عن حكيم بن معاوية رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "هاهنا تحشرون. هاهنا تحشرون. هاهنا تحشرون. ثلاثا. ركبانا ومشاة، وعلى وجوهكم توفون يوم القيامة سبعين أمة أنتم آخر الأمم وأكرمها على الله تأتون يوم القيامة وعلى أفواهكم الفدام. أول ما يعرب عن أحدكم فخذه". 

قال أحمد: قال ابن أبي بكير: فأشار بيده إلى الشام فقال: "إلى هاهنا تحشرون".

رواه أحمد بسند حسن.

فقوله: "على أفواهكم الفدام". وقوله: "أول ما يعرب عن أحدكم فخذه". دليل قاطع، على أن هذا الحشر يكون يوم القيامة، بعد البعث.

قلت: والفدام، شي يوضع على الفم، يمنعه من الكلام.

وعن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يحشر الناس يوم القيامة حفاة عراة غرلا". قلت: يا رسول الله، النساء والرجال جميعا ينظر بعضهم إلى بعض! قال صلى الله عليه وسلم: "يا عائشة، الأمر أشد من أن ينظر بعضهم إلى بعض".

رواه مسلم والبخاري.

وقوله: (عميا وبكما وصما) اختلف في معنى ذلك على قولين: 

الأول: أن المراد بذلك أنهم عمي عن رؤية ما يسرهم، وبكم لا ينطقون بحجة، وصم لا يسمعون شيئا يسرهم.

والثاني: أن المراد بهذا بعدما يدخلون في النار، ويدعهم الله فيها يبصرون العذاب، ويصرخون من شدته ويستغيثون منه، ويسمعون ما يقال لهم من التقريع والتوبيخ، ما شاء أن يدعهم، ثم يعمي أبصارهم ويختم على أفواههم ويصم أذانهم، وهذا هو الراجح.

وقال تعالى في سورة الكهف: (وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الأَرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا لَّقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّن نَّجْعَلَ لَكُم مَّوْعِدًا وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا)

قوله: (بارزة) أي: مستوية بيضاء عفراء ليس فيها معلم لأحد.

وقوله: (فلم نغادر منهم أحدا) أي: لم يترك من الإنس والجن والدواب أحدا إلا أحياه الله تعالى للحساب.

وقوله: (ووضع الكتاب) أي: كتاب المقادير، يأتي الله بالكتاب، الذي يسمونه اللوح المحفوظ، ويعطى كل عامل من ذكر وأنثى كتابه الذي أحصي عليه، وإنما يعطى كل واحد كتابه بعد الفراغ من الحساب، حيث كتابه، وتوزن أعماله، فهم يقولون عندما يقرأون كتبهم: (يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا).

وقال تعالى في سورة مريم: (إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إِلاَّ آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا)

قوله: (وكلهم آتيه يوم القيامة فردا) أي: أن جميع خلقه سوف يرد عليه يوم تقوم الساعة وحيدا لا ناصر له من الله، ولا دافع عنه، فيقضي الله فيه ما هو قاض، ويصنع به ما هو صانع.

وقال تعالى في سورة طه: (كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاء مَا قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِن لَّدُنَّا ذِكْرًا مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْرًا خَالِدِينَ فِيهِ وَسَاء لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِمْلا يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ عَشْرًا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ يَوْمًا وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا لا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلا أَمْتًا يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَت الأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلا تَسْمَعُ إِلاَّ هَمْسًا يَوْمَئِذٍ لّا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلا يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا يَخَافُ ظُلْمًا وَلا هَضْمًا)

وقوله: (زرقا) أي: تبدلت ألوان وجوههم إلى الزرقة، أي: معتمة، يميل لونها إلى الزرقة، من شدّة الخوف.

وقال تعالى في سورة طه أيضاً: (وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِن بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى)

قوله: (نحشره يوم القيامة أعمى) أي: بعد دخوله النار، على ما تقدم بيانه.

وقال تعالى في سورة الأنبياء: (وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ)

قلت: توضع الموازين بعد الفراغ من الحساب، لتوزن أعمال العباد حسناتهم وسيئاتهم، والذي يظهر لي، أن وزن أعمال العباد، لكي يعلموا أن الله تعالى لم يظلمهم شيئا، وأن العبد يستحق درجته في الجنّة أو دركته في النار، والله أعلم.

وبما أن هذا الميزان توزن فيه الحسنات والسيئات، فهذا يعني، أنه ميزان له كفتان.

وعن أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من احتبس فرساً في سبيل الله، إيماناً بالله وتصديقا بوعده، فإن شبعه وريه وروثه وبوله في ميزانه يوم القيامة".

رواه البخاري.

قال تعالى في سورة الحج: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُم بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ)

قوله: (يوم ترونها) أي: ترون الساعة، كناية عن سماع صوت الصور وهو ينفخ فيه، وما يرى ما يصيب الناس فيه من الخوف والفزع.

وقد روى الطبري عن: عامر الشعبي، وعبدالملك بن جريج، وعلقمة بن قيس، أن ذلك قبل يوم القيامة، عند نفخ الصور نفخة الصعق.

وقد روى المحدّثون حديثا مرفوعا بأسانيد صحاح عن النبي صلى الله عليه وسلم، فيه أن هذه الآية إنما نزلت في أهوال يوم القيامة بعد البعث، وهذا الحديث فيه نظر، فإن يوم القيامة ليس فيه حامل لتضع حملها ولا مرضع لتذهل عن رضيعها.

والله وحده أعلم وأحكم.

وعن عبدالله بن عمر، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " ثمّ ينفخ في الصّور، فلا يسمعه أحد إلّا أصغى ليتا ورفع ليتا، قال: وأوّل من يسمعه رجل يلوط حوض إبله".

رواه مسلم.

فيظهر أن هذا الراعي، يسمع صوت الصور وهو يلوط حوض إبله، فيخاف ويفزع من الصوت كغيره من الناس، ويكون أوّل من يموت من الصعق.

وقال تعالى في سورة الشعراء: (يَوْمَ لا يَنفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ هَلْ يَنصُرُونَكُمْ أَوْ يَنتَصِرُونَ فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ قَالُوا وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ تَاللَّهِ إِن كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ إِذْ نُسَوِّيكُم بِرَبِّ الْعَالَمِينَ وَمَا أَضَلَّنَا إِلاَّ الْمُجْرِمُونَ فَمَا لَنَا مِن شَافِعِينَ وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ)

قوله: (وهم فيها يختصمون) أي: أن أهل النار عندما يدخلونها، يتكلمون، ويختصمون فيما بينهم، ويشتمون ما كانوا يعبدون من دون الله تعالى، من صنم أو حجر أو شجر أو دجّال من دجاجلة الإنس والجن، ومن دعاهم لعبادة هذه المعبودات.

وقال تعالى في سورة الروم: (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ وَلَمْ يَكُن لَّهُم مِّن شُرَكَائِهِمْ شُفَعَاء وَكَانُوا بِشُرَكَائِهِمْ كَافِرِينَ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاء الآخِرَةِ فَأُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ)

قوله: (وكانوا بشركائهم كافرين) أي: الملائكة والجن والأصنام والأحجار والأشجار، تكفر بمن كان يعبدها في الدنيا، وتتبرأ منه.

وقال تعالى في السجدة: (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ)

وهذه الآية، تدل على أن الله تعالى هو من يفصل بين عباده، وليس أحد من خلقه.

وقال تعالى في سوةرة لقمان: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لّا يَجْزِي وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَن وَالِدِهِ شَيْئًا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ)

قوله: (لا يجزي) أي: لا يُغني.

وقال تعالى في سورة فاطر: (وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَإِن تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى)

قوله: (ولا تزر وازرة وزر أخرى) أي: لا يتحمّل مذنب، ذنب غيره.

وقوله: (وإن تدع مثقلة) أي: إن دعا شخص مُثقلٌ بالذنوب، شخصاً أخر، ليحمل عنه شيئاً من ذنوبه، فلن يحمل شيئاً من ذلك.

وقوله: (ولو كان ذا قربى) أي: ولو كان هذا الشخص له قرابة نسب به، كالأب والأم والأخ والأخت والابن والابنة، فإنهم لن يحملوا عنه شيئاً من أوزاره.

وقال تعالى في سورة الصافات: (وَقَالُوا إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ أَوَآبَاؤُنَا الأَوَّلُونَ قُلْ نَعَمْ وَأَنتُمْ دَاخِرُونَ فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِذَا هُمْ يَنظُرُونَ وَقَالُوا يَا وَيْلَنَا هَذَا يَوْمُ الدِّينِ هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ وَقِفُوهُمْ إِنَّهُم مَّسْئُولُونَ مَا لَكُمْ لا تَنَاصَرُونَ بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ قَالُوا إِنَّكُمْ كُنتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ قَالُوا بَل لَّمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ وَمَا كَانَ لَنَا عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ بَلْ كُنتُمْ قَوْمًا طَاغِينَ فَحَقَّ عَلَيْنَا قَوْلُ رَبِّنَا إِنَّا لَذَائِقُونَ فَأَغْوَيْنَاكُمْ إِنَّا كُنَّا غَاوِينَ فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ إِنَّا كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ)

قوله: (زجرة) الزجرة هي الأمر.

وقوله: (وقالوا يا ويلنا) .. الآية. يخبرنا الله تعالى بما سوف يقوله الكفار عند بعثهم من الموت.

وقوله: (وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون) أي: العابد والمعبود، والداعية إلى الشرك والمدعو، يتساءلون ويختصمون، وفي هذه الآية دليل على أن التقليد ليس بعذر.

وقال تعالى في سورة الزمر: (إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِندَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ)

قوله: (تختصمون) أي: يدّعي بعضكم على بعض، ويكذّب بعضكم بعضا، والله هو من يفصل بينكم.

وقال تعالى في سورة الزمر أيضاً: (وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الأَرْضِ إِلاَّ مَن شَاء اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُم قِيَامٌ يَنظُرُونَ وَأَشْرَقَتِ الأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاء وَقُضِيَ بَيْنَهُم بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاؤُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَاء يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاؤُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثْنَا الأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاء فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُم بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)

قوله: (فصعق من في السماوات ومن في الأرض) أي: الملائكة وهم عمار السماوات السبع، والإنس والجن والدواب.

وقوله: (إلّا من شاء الله) أي: إلا من شاء الله تعالى أن لا يصعق، ولعل المراد هنا بذلك هم نساء الجنة وجواريها وغلمانها ودوابها، ومن شاء الله من ملائكته.

وعن عبد الله بن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يطوي الله عز وجل السماوات يوم القيامة، ثم يأخذهن بيده اليمنى، ثم يقول: أنا الملك، أين الجبارون؟ أين المتكبرون؟ ثم يطوي الأرضين بشماله، ثم يقول: أنا الملك أين الجبارون؟ أين المتكبرون؟".

رواه مسلم.

قلت: والذي يظهر لي، أن الله تعالى، يطوي السماوات ويقبض على الأرض، بعد أن يدخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار، ويرتفع الملائكة من الأرض، إلى حيث يشاء الله، ولكنهم لا يعودون إلى السماوات، لأنها تكون قد تشققت، وتمزّقت، فيطوي الله تعالى ما تبقى من السماء بيمينه، ويقبض على الأرض بشماله.

وعن عبد الله بن مسعود، قال: جاء حبر إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا محمد أو يا أبا القاسم إن الله تعالى يمسك السماوات يوم القيامة على إصبع، والأرضين على إصبع، والجبال والشجر على إصبع، والماء والثرى على إصبع، وسائر الخلق على إصبع، ثم يهزهن، فيقول: أنا الملك، أنا الملك، فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم تعجبا مما قال الحبر، تصديقا له، ثم قرأ: (وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ).

رواه مسلم.

قلت: والذي يظهر لي أن وضع الله تعالى لمخلوقاته على أصبعه، إنما يقع قبل أن تسوى الأرض وقبل أن يبعث الناس للحساب، ثم يعيدها الله كما كانت، ثم يبدأ سبحانه وتعالى بتسوية الأرض، لأنه بعد تسوية الأرض، لن يكون هناك أشجار ولا بحار، فالأشجار سوف تيبس وتتهلل، وتصير ترابا، والبحار سوف تتفجر ثم تسجر، فلا يبقى سوى اليابسة.

وقال تعالى في سورة غافر: (رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ لِيُنذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ يَوْمَ هُم بَارِزُونَ لا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطَاعُ)

وقال تعالى في سورة الزخرف: (هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ السَّاعَةَ أَن تَأْتِيَهُم بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ الأَخِلاَّء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ الْمُتَّقِينَ يَا عِبَادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنتُمْ تَحْزَنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ)

قوله: (الأخلاء بعضهم لبعض عدو إلا المتقين) أي: كل خليل سوء، كان يجتمع مع خليله على معصية الله، سوف يصير عدواً لخليله يوم القيامة، يتبرأ منه، ويجعله سبب هلاكه، إلا المتقين، فإنهم لا تزيدهم خلّتهم على الخير، إلا خلة وقربة يوم القيامة.

وقال تعالى في سورة الدخان: (إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقَاتُهُمْ أَجْمَعِينَ يَوْمَ لا يُغْنِي مَوْلًى عَن مَّوْلًى شَيْئًا وَلا هُمْ يُنصَرُونَ إِلاَّ مَن رَّحِمَ اللَّهُ إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ)

وقال تعالى في سورة الطور: (يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاء مَوْرًا وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْرًا)

قوله: (تمور) أي: تتحرك.

وقال تعالى في سورة الرحمن: (كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ يَسْأَلُهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَا الثَّقَلانِ فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَن تَنفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ فَانفُذُوا لا تَنفُذُونَ إِلاَّ بِسُلْطَانٍ فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِّن نَّارٍ وَنُحَاسٌ فَلا تَنتَصِرَانِ فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ فَإِذَا انشَقَّتِ السَّمَاء فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ فَيَوْمَئِذٍ لّا يُسْأَلُ عَن ذَنبِهِ إِنسٌ وَلا جَانٌّ فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ)

قوله: (فإذا انشقّت السماء) وذلك بعد بعث الأموات، وحشر الإنس والجن والدواب إلى أرض المحشر، تنشق السماء لتهبط ملائكتها وتحيط بأهل الأرض.

وقوله: (وردة) أي: حمراء.

وقوله: (كالدهان) والدهان هو الجلد الأحمر، أي: تصير السماء حمراء اللون، كالجلد الأحمر، وهذا يعني أن لونها يتغيّر يوم القيامة.

وقال تعالى في سورة الواقعة: (إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ خَافِضَةٌ رَّافِعَةٌ إِذَا رُجَّتِ الأَرْضُ رَجًّا وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا فَكَانَتْ هَبَاءً مُّنبَثًّا وَكُنتُمْ أَزْوَاجًا ثَلاثَةً فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ)

قوله: (إذا رجّت الأرض رجّا) أي: هُزّت بشدّة، حتى يتساوى ترابها.

وقوله: (بسّت الجبال بسّا) البسّ، بمعنى النسف.

وقوله: (هباء منبثّا) أي: غبارا متفرّقا.

وقال تعالى في سورة الحديد: (يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِم بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ لَّهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِن قِبَلِهِ الْعَذَابُ يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنتُمْ أَنفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنكُمْ فِدْيَةٌ وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ)

قوله: (يسعى نورهم بين أيديهم وبأيمانهم .. ) الآية أي: عندما يأمرهم الله تعالى بالانتقال من الأرض إلى الظلمة دون الجسر، فيعطى كل مسلم أو منافق نوراً، يبصرون بها طريقهم إلى الصراط، فأما المنافق فينطفئ نوره، فيرى مصابيح المسلمين، فيريدون اللحاق بهم ليستضيئوا بضوئهم، فيعجزون عن اللحاق بهم، كلما دنو من المسلمين ابتعد المسلمون أكثر، فيقول المنافقون للمسلمين: انظرونا – أي: انتظرونا – نقتبس من نوركم. فيقول المسلمون أو تقول لهم الملائكة: ارجعوا ورائكم فالتمسوا نورا، فيرجعون، ولكنهم يتيهون في الظلمة، حتى يتساقطوا في النار، وهذا من الله تعالى سخرية بهم، واستهزاء بهم، جزاء نفاقهم وكذبهم.

عن عبدالله بن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله يدعو الناس يوم القيامة بأمهاتهم، سترا منه على عباده، وأما عند الصراط فإن الله يعطي كل مؤمن نوراً وكل منافق نورا، فإذا استووا على الصراط سلب الله نور المنافقين والمنافقات، فقال المنافقون: (انْظُرُونا نَقْتَبِسْ مِن نُورِكُمْ) وقال المؤمنون: (رَبَّنا أتْمِمْ لَنا نُورَنا) فلا يذكر عند ذلك أحد أحد".

رواه الطبراني.

وروى ابن مردويه، عن عبدالله بن عباس أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا جمع اللّه الأوّلين والآخرين دعا اليهود فقيل لهم: من كنتم تعبدون؟ فيقولون: كنّا نعبد اللّه، فيقال لهم: كنتم تعبدون معه غيره؟ فيقولون: نعم، فيقال لهم: من كنتم تعبدون معه؟ فيقولون: عزيرا، فيوجّهون وجها. ثمّ يدعون النّصارى، فيقال لهم: من كنتم تعبدون؟ فيقولون: كنّا نعبد اللّه، فيقول لهم: هل كنتم تعبدون معه غيره؟ فيقولون: نعم، فيقال لهم: من كنتم تعبدون معه؟ فيقولون: المسيح، فيوجّهون وجها. ثمّ يدعى المسلمون، وهم على رابية من الأرض، فيقال لهم: من كنتم تعبدون؟ فيقولون: كنّا نعبد اللّه وحده، فيقال لهم: هل كنتم تعبدون معه غيره؟ فيغضبون، فيقولون: ما عبدنا غيره، فيعطى كلّ إنسان منهم نورا، ثمّ يوجّهون إلى الصّراط، فما كان من منافق طفئ نوره قبل أن يأتي الصّراط". ثمّ قرأ: (يَوْمَ يَقُولُ المُنافِقُونَ والمُنافِقاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونا نَقْتَبِسْ مِن نُورِكُمْ) الآية. وقرأ: (يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ والَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ) إلى آخر الآية.

وروى عبد بن حميد في مسنده، عن أبي فاختة قال: يجمع الله الخلائق يوم القيامة، ويرسل الله على الناس ظلمة، فيستغيثون ربهم، فيؤتي الله كل مؤمن يومئذ نورا، ويؤتي المنافقين نورا، فينطلقون جميعا متوجهين إلى الجنة معهم نورهم، فبينما هم كذلك إذ طفأ الله نور المنافقين، فيترددون في الظلمة، ويسبقهم المؤمنون بنورهم بين أيديهم، فينادونهم: (انْظُرُونا نَقْتَبِسْ مِن نُورِكُمْ)، (فَضُرِبَ بَيْنَهم بِسُورٍ لَهُ بابٌ باطِنُهُ) حيث ذهب المؤمنون (فِيهِ الرَّحْمَةُ) ومن قبله الجنة، ويناديهم المنافقون: (ألَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ) قالوا: (بَلى ولَكِنَّكم فَتَنْتُمْ أنْفُسَكم وتَرَبَّصْتُمْ وارْتَبْتُمْ) فيقول المنافقون بعضهم لبعض، وهم يتسكعون في الظلمة: تعالوا نلتمس إلى المؤمنين سبيلا، فيسقطون على هوة، فيقول بعضهم لبعض: إن هذا ينفق بكم إلى المؤمنين، فيتهافتون فيها فلا يزالون يهوون فيها حتى ينتهوا إلى قعر جهنم، فهنالك خدع المنافقون، كما قال الله: (وهُوَ خادِعُهُمْ).

وقوله: "فيستغيثون ربهم" وهم من الراوي، فإن الله تعالى هو من يأمرهم بالانتقال إلى الظلمة، وهو من يعطيهم النور الذي يبصرون به طريقهم إلى الصراط، والصراط لا يصعد عليه إلا مسلم، مطيع كان أو عاصيا، فيقع منهم العصاة، ممن لم يرد الله تعالى أن يعفو عنه، ويتجاوزه من أنجاه الله.

وقوله: (باطنه فيه الرحمة) أي: مما يلي أهل الجنة من السور منظره حسن يسرّ الناظرين.

وقوله: (وظاهره من قبله العذاب) أي: ظاهره الذي يستقبل أهل النار، منظره قبيح يسوء الناظرين.

وقال تعالى في سورة الحاقة: (فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ وَحُمِلَتِ الأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ وَانشَقَّتِ السَّمَاء فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنكُمْ خَافِيَةٌ فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَؤُوا كِتَابِيَهْ إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الأَيَّامِ الْخَالِيَةِ وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ خُذُوهُ فَغُلُّوهُ ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ إِنَّهُ كَانَ لا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ وَلا طَعَامٌ إِلاَّ مِنْ غِسْلِينٍ لا يَأْكُلُهُ إِلاَّ الْخَاطِؤُونَ)

قوله: (دكتا دكة واحدة) أي: جعلت شيئاً واحدا، حيث يحوّل الله تعالى الجبال إلى تراب، ويخلطه بتراب الأرض، ثم يسويّها جميعاً.

وقوله: (والملك على أرجائها) أي: على أرجاء الأرض، بعد أن تنشق السماوات وتهبط ملائكتها إلى الأرض، وتحيط بأهلها.

وقوله: (ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية) أي: يحمل عرش الله تعالى ثمانية، قيل: ثمانية أفراد من الملائكة، وقيل: ثمانية صفوف من الملائكة لا يعلم عددهم إلّا الله تعالى. يحملون العرش، لا يلامس الأرض، والله فوق عرشه، يفصل بين عباده.

فإن قيل: إن حجم العرش كبير، أكبر من الأرض بكثير، فكيف يوضع على مساحة صغيرة من الأرض؟

فالجواب: أن الله تعالى، يُدني من حجم العرش، حتى يكون حجمه، مناسباً لحجم الموضع الذي أعدّ له من الأرض.

وقوله: (لا تخفى منكم خافية) أي: لا يستطيع أحد أن يخفي من أعماله شيئا ولو أراد.

وقال تعالى في سورة المعارج: (سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ لِّلْكَافِرِينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ مِّنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلا إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا وَنَرَاهُ قَرِيبًا يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاء كَالْمُهْلِ وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ وَلا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْويهِ وَمَن فِي الأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ يُنجِيهِ)

قوله: (في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة) هذا هو مقدار يوم القيامة، من نفخة الصور الثانية إلى أن يدخل أهل الجنة الجنة، وأهل النار النار.

عن أبي هريرة، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما من رجل لا يؤدي زكاة ماله إلا جعل يوم القيامة صفائح من نار، يكوى بها جنبه وجبهته وظهره، في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، حتى يقضى بين الناس، ثم يرى سبيله، وإن كانت إبلا إلا بطح لها بقاع قرقر في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، تطؤه بأخفافها، حسبته قال: وتعضه بأفواهها، يرد أولها عن آخرها، حتى يقضى بين الناس، ثم يرى سبيله، وإن كانت غنما فكمثل ذلك، إلا أنها تنطحه بقرونها، وتطؤه بأظلافها".

رواه مسلم.

فهذا اليوم هي المدة التي تقع بين نفخة الصور الثانية، وبين أن ينزل الله تعالى لفصل القضاء بين عباده، حيث تهبط الملائكة إلى الأرض وتعرج إليه في هذه الفترة، بأمر الله لها بذلك، فيما يشاءه الله من أمر ونهي، وهذا هو الصحيح في معنى اليوم الذي مقداره خمسين ألف سنة.

وأما ما روي عن بعض أئمة الإسلام، أنهم تأولوا اليوم الذي طوله خمسين ألف سنة، بأنه نزول الملائكة من السماء السابعة إلى الأرض السابعة، فهذا قول باطل، خصوصاً وأنه لم يثبت أن هناك سبع أراضين بعضها فوق بعض، فهذه الىية، لا تشير إلى الزمن المقطوع بين السماء السابعة والأرض السابعة، ولا المسافة، ولا سرعة الملائكة.

وعن أبي سعيد الخدري قال: قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: ( يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ) ما أطول هذا اليوم؟! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "والذي نفسي بيده، إنه ليخف على المؤمن، حتى يكون أخف عليه من صلاة مكتوبة يصليها في الدنيا".

رواه أحمد والطبري.

وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: "يوم القيامة كقدر ما بين الظهر والعصر".

رواه الحاكم.

وفي رواية أخرى عند الحاكم عن أبي هريرة موقوفا: "يوم القيامة على المؤمنين كقدر ما بين الظهر والعصر".

قلت: والجمع بين هذه الأحاديث متيسِّر ولله الحمد، فإن يوم القيامة مع طوله، إلا أنه يخفّف على السابقين المقربين، حتى يكون أخف عليهم من صلاة مكتوبة يصلونها في الدنيا، بينما أصحاب اليمين، يخفف عليهم حتى يصير بقدر ما بين صلاة الظهر وصلاة العصر، بينما يشعر الكفّار بكل يوم يمضي من هذه الخمسين ألف سنة، والله أعلم وأحكم.

وأما اليوم الذي مقداره ألف سنة، فهو يوم الله تعالى، قال تعالى في سورة الحج: ( .. وَإِنَّ يَوْمًا عِندَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ) فيوم واحد من أيّام الله تعالى، يعادل ألف سنة من أيّامنا نحن الأرضيّة، في الحياة الدنيا، فالملائكة في هذا اليوم الذي مقداره ألف سنة، تنزل وتعرج إلى الله تعالى بخبر أهل الأرض وذلك في الحياة الدنيا، وبهذا نعلم، أن هذه الآية، لا تشير إلى الزمن المقطوع بين السماء الدنيا والأرض العليا، ولا تشير إلى المسافة بينهما، ولا إلى سرعة الملائكة.

وفي حديث أبي هريرة، دليل على أن من أهل الكبائر، يعاقب قبل أن ينزل الله تعالى إلى الأرض، لفصل القضاء بين عباده، وفي هذا إن شاء الله تعالى، تكفير لهم، حيث عجّل الله لهم العقوبة على هذه المعاصي، وطهرهم منها، قبل أن يفصل بينهم، ثم إذا فصل الله تعالى بين عباده، يرى سبيلهم إما إلى الجنّة وإما إلى النار، فإن من عصاة المسلمين، من تغلب عليه ذنوبه، حتى بعد إيقاع العقاب به في الدنيا ويوم القيامة قبل نزول الله تعالى للقضاء، فيأمر الله تعالى به إلى النار.

وقوله: (كالمهل) أي: كعكر الزيت، حمراء.

وقوله: (ولا يسأل حميم حميما) أي: لا يسأل الحميم يوم القيامة حميمه في الدنيا عن شأنه وأحواله، لما هو فيه من الشغل بنفسه.

وقوله: (ثم ينجيه) أي: ينجيه من النار بعد أن يفتدي بكل أهل الأرض.

وقال تعالى في سورة المزمّل: (يَوْمَ تَرْجُفُ الأَرْضُ وَالْجِبَالُ وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيبًا مَّهِيلا)

قوله: (كثيبا مهيلا) أي: يصيّرها الله تعالى كثبانا من الرمال، متهلهلة، ثم يسيّرها ثم ينسفها.

وقال تعالى في سورة القيامة: (لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَلَّن نَجْمَعَ عِظَامَهُ بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَن نُّسَوِّيَ بَنَانَهُ بَلْ يُرِيدُ الإِنسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ وَخَسَفَ الْقَمَرُ وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ يَقُولُ الإِنسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ كَلاَّ لا وَزَرَ إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ يُنَبَّأُ الإِنسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ بَلِ الإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ)

قوله: (بل الإنسان على نفسه بصيرة) أي: خبير عارف بما أوقع من الباطل والشر والمعصية، وإن حاول الاعتذار عن ذلك، ولكنه يدرك أنه مبطل شرير عاصٍ.

وقال تعالى في سورة المرسلات: (إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَوَاقِعٌ فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ وَإِذَا السَّمَاء فُرِجَتْ وَإِذَا الْجِبَالُ نُسِفَتْ وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ لِيَوْمِ الْفَصْلِ وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الْفَصْلِ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ)

قوله: (إذا الجبال نسفت) أي: حوّلها الله إلى تراب، ثم نسفها وبدّد غبارها على الأرض.

وقال تعالى في سورة النبأ: (إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتًا يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجًا وَفُتِحَتِ السَّمَاء فَكَانَتْ أَبْوَابًا وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا)

وقوله: (وكانت سرابا) أي: أن الله تعالى بعد أن ينسف الجبال، تصير كأنها سراب، كان ثم لم يكن. 

وقال تعالى في سورة النبأ أيضا: (رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الرَّحْمَنِ لا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَابًا يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا لّا يَتَكَلَّمُونَ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا ذَلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ فَمَن شَاء اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَآبًا إِنَّا أَنذَرْنَاكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا يَوْمَ يَنظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَابًا)

قوله: (وفتحت السماء فكانت أبوابا) أي: تشقق السماء، ليهبط منها الملائكة، فهذه الشقوق سمّاها الله تعالى أبوابا، لأن الملائكة تهبط منها إلى الأرض.

وقوله: (وسُيِّرت الجبال فكانت سرابا) أي: بعد أن يحولها الله تعالى إلى تراب، يسيّرها، ثم ينسفها نسفاً، ويبدد غبارها على الأرض، فكانت سرابا، إذا جاءها البعيد لم يجد شيئا.

وقوله: (يا ليتني كنت ترابا) أي: يتمنى لو كان ترابا.

عن أبي هريرة قال: يحشر الخلق كلّهم يوم القيامة البهائم والدّوابّ والطّير وكلّ شيء فيبلغ من عدل اللّه أن يأخذ للجمّاء من القرناء ثمّ يقول: كوني ترابا فذلك حين يقول الكافر: (يا ليتني كنت ترابا).

رواه الطبري.

وقال تعالى في سورة النازعات: (يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ أَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ يَقُولُونَ أَئِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحَافِرَةِ أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا نَّخِرَةً قَالُوا تِلْكَ إِذًا كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِذَا هُم بِالسَّاهِرَةِ)

قوله: (ترجف) أي: يكون لصوتها رجفة عظيمة.

وقوله: (الراجفة) هو الاسم الذي أطلقه الله تعالى على النفخة الأولى للصور.

وقوله: (الرادفة) هو الاسم الذي أطلقه الله تعالى على النفخة الثانية للصور.

وقوله: (واجفة) أي: تنبض بشدة من الخوف.

وقوله: (أبصارها خاشعة) أي: ذليلة.

قوله: (زجرة واحدة) أي: أمر واحد من الله تعالى.

وقوله: (فإذا هم بالساهرة) أي: فإذا هم أحياء على الأرض، والساهرة، هي: الأرض.

وقال تعالى في سورة النازعات أيضاً: (فَإِذَا جَاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الإِنسَانُ مَا سَعَى وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَن يَرَى فَأَمَّا مَن طَغَى وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى)

وقال تعالى في سورة عبس: (فَإِذَا جَاءَتِ الصَّاخَّةُ يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُّسْفِرَةٌ ضَاحِكَةٌ مُّسْتَبْشِرَةٌ وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ أُوْلَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ)

قوله: (الصاخّة) والصخّ هو الصوت الذي تصخّ له الأسماع، أي: يتلجلج في الأذن، والمراد به هنا الصوت الذي يصدر من الصور، عبَّر به هنا، عن القيامة، بمعنى أن يوم القيامة، هو اليوم الذي بسببه نًفخ في الصور، فأصدر صوتاً تصخّ له الآذان.

وقال تعالى في سورة التكوير: (إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ وَإِذَا النُّجُومُ انكَدَرَتْ وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ وَإِذَا الْمَوْؤُودَةُ سُئِلَتْ بِأَيِّ ذَنبٍ قُتِلَتْ وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ وَإِذَا السَّمَاء كُشِطَتْ وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّا أَحْضَرَتْ)

قوله: (انكدرت) أي: تساقطت.

وقوله: (سُيِّرت) أي: أن الله تعالى بعد أن يحول الجبال إلى تراب، يسيّرها، أي: يحركها من مكانها، لينسفها، ويبعثر غبارها في الأرض.

وقوله: (العشار) أي: هي الإبل اللقاح، التي جاء لهن عشرة أشهر، فلم يبقى سوى شهرين ليضعن فصالهن، فصار اسم العشار، يطلق على النوق اللواتي قرب انتاجهن.

وقوله: (وإذا الوحوش حشرت) أي: الدواب بجميع أصنافها، السباع والأنعام، والوحش هو كل ما يعيش لوحده منفردا بذاته أو منفردا بنوعه، يحييها الله تعالى يوم القيامة، ويأمر بحشرها للحساب والقصاص فيما بينها.

وقوله: (وإذا البحار سُجِّرت) أي: أغيظت. فعندما تفجّر البحار، وتسيح مياهها على الأرض، تسجر، أي تُغاظ في الأرض، فتصير الأرض كلها يابسة، لا بحار فيها.

وقد رواه الطبري عن الحسن وقتادة، وهو الصواب إن شاء الله في تأويل هذه الآية.

وأما ما روي من أن معنى (سُجّرت) أي: أوقدت نارا، فتلك أحاديث باطلة.

وقوله: (وإذا النفوس زوّجت) أي: قُرِنت كل نفس بما يماثلها من الأنفس.

وقوله: (وإذا الموءودة سئلت) والموءودة، هي الفتاة التي قتلت بلا ذنب، قتلها أبوها لأنها أنثى، لظنّه أن الأنثى عار على الرجل، بسبب أنها عندما تكبر سوف تتزوّج وتنكشف لرجل، أو تقع في الزنى برضاها أو رغما عنها، فيعتبر أبو الأنثى ذلك ضِعة له وخزيا، لذلك يسعى إلى التخلص منها وقتلها.

قال تعالى في سورة النحل: (وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِن سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلاَ سَاء مَا يَحْكُمُونَ).

وقال تعالى: (وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُم بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلا ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ أَوَمَن يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ)

وقال تعالى في سورة الانفطار: (إِذَا السَّمَاء انفَطَرَتْ وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انتَثَرَتْ وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ)

قوله: (انفطرت) بمعنى انشقّت.

وقوله: (انتثرت) أي: تساقطت.

وقوله: (إذا البحار فجّرت) أي: أن البحار تتفجّر وتسيح على وجه الأرض، ويظهر لي أن ذلك بسبب أن الله تعالى يريد أن يساوي قاع البحار باليابسة، فعندما يرفع قاع البحار، تندفع المياه بقوة إلى الأعلى، وهذا هو انفجارها، وتسيح على وجه الأرض.

وأما ما روي من أن البحار تفجّر بالنيران، فهذا قول باطل، والأحاديث الواردة في ذلك باطلة.

وقال تعالى في سورة الإنشقاق: (إِذَا السَّمَاء انشَقَّتْ وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ وَإِذَا الأَرْضُ مُدَّتْ وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلاقِيهِ فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا وَيَنقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاء ظَهْرِهِ فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا وَيَصْلَى سَعِيرًا إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُورًا إِنَّهُ ظَنَّ أَن لَّن يَحُورَ بَلَى إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ بَصِيرًا)

قوله: (وإذا الأرض مدت) أي: بسطت.

عن عبدالله بن عمرو قال: إذا كان يوم القيامة مدّت الأرض مدّ الأديم وحشر اللّه الخلائق الإنس والجنّ والدّوابّ والوحوش فإذا كان ذلك اليوم جعل اللّه القصاص بين الدّوابّ حتّى تقتصّ الشّاة الجمّاء من القرناء بنطحتها فإذا فرغ اللّه من القصاص بين الدّوابّ قال لها: كوني ترابا فيراها الكافر فيقول: (يا ليتني كنت ترابا).

رواه الحاكم.

وقوله: (وألقت ما فيها وتخلّت) أي: ألقت ما فيها من الإنس والجن والدواب، وتخلّت عنهم، بعد أن كانت تظمهم في بطنها.

وقال تعالى في سورة الفجر: (كَلاَّ إِذَا دُكَّتِ الأَرْضُ دَكًّا دَكًّا وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الإِنسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى)

قوله: (دكت الأرض) أي: تمت تسوية سطحها.

عن سهل بن سعد، قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "يحشر الناس يوم القيامة على أرض بيضاء عفراء، كقرصة نقي". قال سهل أو غيره: "ليس فيها معلم لأحد".

وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يجمع الله الناس الأولين والآخرين في صعيد واحد، يسمعهم الداعي وينفذهم البصر، وتدنو الشمس، فيبلغ الناس من الغم والكرب ما لا يطيقون ولا يحتملون".

رواه البخاري.

وقوله: (وجاء ربك) أي: أن الله تعالى يجيء بذاته المقدسة، حتى يستوي على عرشه، لفصل القضاء بين عباده.

فإن قيل: إن الله تعالى أكبر الأشياء، فكيف يهبط إلى الأرض، وهي صغيرة جداً بالنسبة له؟

فالجواب: هذه مسألة لها جوابان: الأول: إن كان الله تعالى ينزل كلَّه، فإنه يتهيء في حجم يناسب موضعه الذي أعده لنزوله على الأرض. والثاني: وإن كان ينزل بعضه، فإن هذا الجزء الذي هبط، يكون في حجم يناسب موضعه الذي أعده لنزوله على الأرض.

وقوله: (والملك صفا صفا) أي: صفوف بعضهم خلف بعض، محيطين بأهل الأرض، كما سوف يأتي معنا في حديث الشفاعة الكبرى.

وقوله: (وجيء يومئذ بجهنم) أي: سحبت حتى توضع تحت الأرض والصراط.

وعن عبدالله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يؤتى بجهنم يومئذ لها سبعون ألف زمام، مع كل زمام سبعون ألف ملك يجرونها".

رواه مسلم.

وقال تعالى في سورة الزلزلة: (إِذَا زُلْزِلَتِ الأَرْضُ زِلْزَالَهَا وَأَخْرَجَتِ الأَرْضُ أَثْقَالَهَا وَقَالَ الإِنسَانُ مَا لَهَا يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِّيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ)

وقال تعالى في سورة القارعة: (الْقَارِعَةُ مَا الْقَارِعَةُ وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنفُوشِ فَأَمَّا مَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ نَارٌ حَامِيَةٌ)

قوله: (كالعهن المنفوش) والعهن هو القطن، أي تصير الجبال كالقطن المنفوش، لأن الله تعالى يحولها إلى تراب، ثم يسيّرها، ثم ينسفها نفسا، وتصير كالسراب، الذي يراه الرائي من بعيد، فإذ جاءه لم يجده شيئا.

وقال تعالى في سورة التكاثر: (كَلاَّ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ)

قوله: (لترون الجحيم) أي: عندما يأمر الله أن يؤتى بها، تسحب عندما يهبط من السماء.

عن أبي هريرة قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم أو ليلة، فإذا هو بأبي بكر وعمر، فقال: ما أخرجكما من بيوتكما هذه الساعة؟ قالا: الجوع، يا رسول الله! قال: وأنا، والذي نفسي بيده! لأخرجني الذي أخرجكما، قوموا. فقاموا معه، فأتى رجلا من الأنصار، فإذا هو ليس في بيته، فلما رأته المرأة قالت: مرحبا وأهلا! فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: أين فلان؟ قالت: ذهب يستعذب لنا من الماء، إذ جاء الأنصاري فنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبيه، ثم قال: الحمد لله، ما أحد اليوم أكرم أضيافا مني! قال: فانطلق فجاءهم بعذق فيه بسر وتمر ورطب، فقال: كلوا من هذه، وأخذ المدية، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: إياك والحلوب. فذبح لهم، فأكلوا من الشاة، ومن ذلك العذق، وشربوا، فلما أن شبعوا ورووا، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بكر وعمر: والذي نفسي بيده، لتسألن عن هذا النعيم يوم القيامة، أخرجكم من بيوتكم الجوع، ثم لم ترجعوا حتى أصابكم هذا النعيم.

رواه مسلم.

وفي رواية أخرى: هذا والذي نفسي بيده من النعيم الذي تسألون عنه يوم القيامة، ظل بارد، ورطب طيب، وماء بارد.

رواه الترمذي.

عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما بين النفختين أربعون قال: أربعون يوما؟ قال: أبيت، قال: أربعون شهرا؟ قال: أبيت، قال: أربعون سنة؟ قال: أبيت، قال: ثم ينزل الله من السماء ماء فينبتون كما ينبت البقل، ليس من الإنسان شيء إلا يبلى، إلا عظما واحدا وهو عجب الذنب، ومنه يركب الخلق يوم القيامة..

رواه البخاري ومسلم.

وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تقوم الساعة حتى تطلع الشمس من مغربها، فإذا طلعت فرآها الناس آمنوا أجمعون، فذلك حين: (لاَ يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِن قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا قُلِ انتَظِرُواْ إِنَّا مُنتَظِرُونَ) [الأنعام] ولتقومن الساعة وقد نشر الرجلان ثوبهما بينهما فلا يتبايعانه، ولا يطويانه، ولتقومن الساعة وقد انصرف الرجل بلبن لقحته فلا يطعمه، ولتقومن الساعة وهو يليط حوضه فلا يسقي فيه، ولتقومن الساعة وقد رفع أحدكم أكلته إلى فيه فلا يطعمها.

وعن ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، أن يهوديا سأل النبي صلى الله عليه وسلم: أين يكون الناس يوم تبدل الأرض غير الأرض والسموات؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هم في الظلمة دون الجسر قال: فمن أول الناس إجازة؟ قال: فقراء المهاجرين قال اليهودي: فما تحفتهم حين يدخلون الجنة؟ قال: زيادة كبد النون، قال: فما غذاؤهم على إثرها؟ قال: ينحر لهم ثور الجنة الذي كان يأكل من أطرافها قال: فما شرابهم عليه؟ قال: من عين فيها تسمى سلسبيلا قال: صدقت.

رواه مسلم.

وعن المقداد بن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: تدنى الشمس يوم القيامة من الخلق، حتى تكون منهم كمقدار ميل. قال: فيكون الناس على قدر أعمالهم في العرق؛ فمنهم من يكون إلى كعبيه، ومنهم من يكون إلى ركبتيه، ومنهم من يكون إلى حقويه، ومنهم من يلجمه العرق إلجاما. قال: وأشار رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده إلى فيه.

عن ‌أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "يعرق الناس يوم القيامة حتى يذهب عرقهم في الأرض سبعين ذراعا، ويلجمهم حتى يبلغ آذانهم".

رواه البخاري.

وورد في بعض النسخ: سبعين عاما، وهو خطأ وتصحيف من الناسخ.

وعن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تخيروني من بين الأنبياء، فإن الناس يصعقون يوم القيامة، فأكون أول من يفيق، فإذا أنا بموسى آخذ بقائمة من قوائم العرش، فلا أدري أفاق قبلي أم جزي بصعقة الطور".

رواه البخاري.

قلت: وفي رواية عند البخاري، أن هذه الصعقة، هي صعقة النفخة الأولى في الصور، وهذا باطل، ووهم من الراوي، فلو أن هذه الصعقة التي عناها النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث هي صعقة النفخة الأولى في الصور، لما شكّ النبي صلى الله عليه وسلم في أن موسى أفاق قبله، أَمَا وقد شكّ، فهذا دليل على أن الناس يصعقون بعد البعث من الموت، وهذه الصعقة، إنما هي صعقة غِشيٍّ، حيث يصعق الناس عندما ينزل الله تبارك وتعالى ويتجلّى لعباده، يوم القيامة في صورة يختارها لنفسه، يصعقون لجلال الله تعالى، كما صعق موسى يوم تجلى الله للجبل، فلا يدري النبي صلى الله عليه وسلم هل صعق موسى مع الناس وأفاق قبلهم، أم أنه لم يصعق لأنه صعق من قبل من جلال الله تعالى يوم تجلى للجبل.

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: أتي رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم بلحم، فرفع إليه الذراع، وكانت تعجبه فنهس منها نهسة ثم قال: أنا سيد الناس يوم القيامة، وهل تدرون مم ذلك؟ يجمع الله الناس الأولين والآخرين في صعيد واحد يسمعهم الداعي وينفذهم البصر، وتدنو الشمس، فيبلغ الناس من الغم والكرب ما لا يطيقون ولا يحتملون، فيقول الناس: ألا ترون ما قد بلغكم؟ ألا تنظرون من يشفع لكم إلى ربكم؟ فيقول بعض الناس لبعض: عليكم بآدم. فيأتون آدم عليه السلام فيقولون له: أنت أبو البشر، خلقك الله بيده، ونفخ فيك من روحه، وأمر الملائكة فسجدوا لك، اشفع لنا إلى ربك، ألا ترى إلى ما نحن فيه؟ ألا ترى إلى ما قد بلغنا؟ فيقول آدم: إن ربي قد غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، وإنه قد نهاني عن الشجرة فعصيته، نفسي نفسي نفسي اذهبوا إلى غيري اذهبوا إلى نوح. فيأتون نوحا فيقولون: يا نوح إنك أنت أول الرسل إلى أهل الأرض، وقد سماك الله عبدا شكورا، اشفع لنا إلى ربك، ألا ترى إلى ما نحن فيه؟ فيقول: إن ربي عز وجل قد غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، وإنه قد كانت لي دعوة دعوتها على قومي، نفسي نفسي نفسي، اذهبوا إلى غيري اذهبوا إلى إبراهيم. فيأتون إبراهيم فيقولون: يا إبراهيم أنت نبي الله وخليله من أهل الأرض، اشفع لنا إلى ربك، ألا ترى إلى ما نحن فيه؟ فيقول لهم: إن ربي قد غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، وإني قد كنت كذبت ثلاث كذبات فذكرهن أبوحيان في الحديث نفسي نفسي نفسي، اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى موسى. فيأتون موسى فيقولون: يا موسى أنت رسول الله، فضلك الله برسالته وبكلامه على الناس، اشفع لنا إلى ربك، ألا ترى إلى ما نحن فيه؟ فيقول: إن ربي قد غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، وإني قد قتلت نفسا لم أومر بقتلها، نفسي نفسي نفسي، اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى عيسى. فيأتون عيسى فيقولون: يا عيسى أنت رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، وكلمت الناس في المهد صبيا، اشفع لنا إلى ربك ألا ترى إلى ما نحن فيه فيقول عيسى إن ربي قد غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله ولم يذكر ذنبا نفسي نفسي نفسي، اذهبوا إلى غيري اذهبوا إلى محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم. فيأتون محمدا، فيقولون: يا محمد أنت رسول الله وخاتم الأنبياء، وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر، اشفع لنا إلى ربك، ألا ترى إلى ما نحن فيه؟ فأنطلق فآتي تحت العرش فأقع ساجدا لربي عز وجل، ثم يفتح الله علي من محامده وحسن الثناء عليه شيئا لم يفتحه على أحد قبلي، ثم يقال: يا محمد ارفع رأسك، سل تعطه، واشفع تشفع. فأرفع رأسي فأقول: أمتي يا رب، أمتي يا رب. فيقال: يا محمد أدخل من أمتك من لا حساب عليهم من الباب الأيمن من أبواب الجنة، وهم شركاء الناس فيما سوى ذلك من الأبواب. ثم قال والذي نفسي بيده إن ما بين المصراعين من مصاريع الجنة كما بين مكة وحمير، أو كما بين مكة وبصرى.

رواه البخاري ومسلم.

وعن أنس بن مالك، أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: يجمع الله المؤمنين يوم القيامة كذلك، فيقولون: لو استشفعنا إلى ربنا حتى يريحنا من مكاننا هذا. فيأتون آدم، فيقولون: يا آدم أما ترى الناس؟ خلقك الله بيده، وأسجد لك ملائكته، وعلمك أسماء كل شيء، اشفع لنا إلى ربك، حتى يريحنا من مكاننا هذا. فيقول: لست هناكم ويذكر لهم خطيئته التي أصاب ولكن ائتوا نوحا فإنه أول رسول بعثه الله إلى أهل الأرض. فيأتون نوحا، فيقول: لست هناك ويذكر خطيئته التي أصاب ولكن ائتوا إبراهيم خليل الرحمن. فيأتون إبراهيم، فيقول: لست هناكم ويذكر لهم خطاياه التي أصابها ولكن ائتوا موسى عبدا آتاه الله التوراة، وكلمه تكليما. فيأتون موسى، فيقول: لست هناكم ويذكر لهم خطيئته التي أصاب ولكن ائتوا عيسى عبد الله ورسوله وكلمته وروحه. فيأتون عيسى، فيقول: لست هناكم، ولكن ائتوا محمدا صلى الله عليه وعلى آله وسلم عبدا غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر. فيأتونني فأنطلق فأستأذن على ربي، فيؤذن لي عليه، فإذا رأيت ربي وقعت له ساجدا، فيدعني ما شاء الله أن يدعني، ثم يقال لي: ارفع محمد، قل يسمع، وسل تعطه، واشفع تشفع. فأحمد ربي بمحامد علمنيها، ثم أشفع فيحد لي حدا فأدخلهم الجنة، ثم أرجع فإذا رأيت ربي وقعت ساجدا، فيدعني ما شاء الله أن يدعني، ثم يقال: ارفع محمد، وقل يسمع، وسل تعطه، واشفع تشفع. فأحمد ربي بمحامد علمنيها، ثم أشفع فيحد لي حدا فأدخلهم الجنة، ثم أرجع فإذا رأيت ربي وقعت ساجدا، فيدعني ما شاء الله أن يدعني، ثم يقال: ارفع محمد، قل يستمع، وسل تعطه، واشفع تشفع. فأحمد ربي بمحامد علمنيها، ثم أشفع فيحد لي حدا فأدخلهم الجنة، ثم أرجع فأقول: يا رب ما بقي في النار إلا من حبسه القرآن ووجب عليه الخلود.

فقال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: يخرج من النار من قال لا إله إلا الله، وكان في قلبه من الخير ما يزن شعيرة، ثم يخرج من النار من قال لا إله إلا الله وكان في قلبه من الخير ما يزن برة، ثم يخرج من النار من قال لا إله إلا الله وكان في قلبه ما يزن من الخير ذرة.

رواه البخاري ومسلم.

وعن معبد بن هلال العنزي قال: اجتمعنا ناس من أهل البصرة، فذهبنا إلى أنس بن مالك، وذهبنا معنا بثابت البناني إليه يسأله لنا عن حديث الشفاعة، فإذا هو في قصره، فوافقناه يصلي الضحى فاستأذنا فأذن لنا وهو قاعد على فراشه. فقلنا لثابت: لا تسأله عن شيء أول من حديث الشفاعة. فقال: يا أبا حمزة هؤلاء إخوانك من أهل البصرة جاءوك يسألونك عن حديث الشفاعة. فقال: حدثنا محمد صلى الله عليه وعلى آله قال: «إذا كان يوم القيامة ماج الناس في بعض، فيأتون آدم فيقولون: اشفع لنا إلى ربك. فيقول: لست لها، ولكن عليكم بإبراهيم فإنه خليل الرحمن. فيأتون إبراهيم، فيقول: لست لها، ولكن عليكم بموسى فإنه كليم الله. فيأتون موسى، فيقول: لست لها، ولكن عليكم بعيسى فإنه روح الله وكلمته. فيأتون عيسى، فيقول: لست لها ولكن عليكم بمحمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم. فيأتوني فأقول: أنا لها، فأستأذن على ربي فيؤذن لي، ويلهمني محامد أحمده بها لا تحضرني الآن فأحمده بتلك المحامد وأخر له ساجدا، فيقال: يا محمد ارفع رأسك وقل يسمع لك، وسل تعط، واشفع تشفع. فأقول: يا رب أمتي أمتي. فيقال: انطلق فأخرج منها من كان في قلبه مثقال شعيرة من إيمان. فأنطلق فأفعل ثم أعود فأحمده بتلك المحامد ثم أخر له ساجدا، فيقال: يا محمد ارفع رأسك وقل يسمع لك وسل تعط، واشفع تشفع. فأقول: يا رب أمتي أمتي. فيقال: انطلق فأخرج منها من كان في قلبه مثقال ذرة أو خردلة من إيمان. فأنطلق فأفعل، ثم أعود فأحمده بتلك المحامد ثم أخر له ساجدا، فيقال: يا محمد ارفع رأسك، وقل يسمع لك، وسل تعط، واشفع تشفع. فأقول: يا رب أمتي أمتي. فيقول: انطلق فأخرج من كان في قلبه أدنى أدنى مثقال حبة خردل من إيمان فأخرجه من النار من النار من النار. فأنطلق فأفعل. فلما خرجنا من عند أنس، قلت لبعض أصحابنا: لو مررنا بالحسن وهو متوار في منزل أبي خليفة فحدثنا بما حدثنا أنس بن مالك. فأتيناه فسلمنا عليه، فأذن لنا فقلنا له: يا أبا سعيد جئناك من عند أخيك أنس بن مالك، فلم نر مثل ما حدثنا في الشفاعة. فقال: هيه. فحدثناه بالحديث فانتهى إلى هذا الموضع، فقال: هيه. فقلنا: لم يزد لنا على هذا. فقال: لقد حدثني وهو جميع منذ عشرين سنة، فلا أدرى أنسي أم كره أن تتكلوا. فقلنا: يا أبا سعيد فحدثناه. فضحك وقال: خلق الإنسان عجولا، ما ذكرته إلا وأنا أريد أحدثكم، حدثني كما حدثكم به، قال: «ثم أعود الرابعة فأحمده بتلك المحامد ثم أخر له ساجدا، فيقال: يا محمد ارفع رأسك وقل يسمع وسل تعط واشفع تشفع. فأقول: يا رب ائذن لي فيمن قال لا إله إلا الله. فيقول: وعزتي وجلالي وكبريائي وعظمتي لأخرجن منها من قال: لا إله إلا الله.

رواه البخاري ومسلم.

فإن قيل: إن الحضرة الإلهية المعظّمة، بما فيها من ملائكة ودار وفحص وعرش وماء، كبيرة جداً، بحيث أن حجم النبي صلى الله عليه وسلم الطبيعي، الذي هو عليه وهو على الأرض، لا يساوي شيئاً أمام حجم الحضرة الإلهية المعظّمة، فحجمه الشريف إلى حجم الحضرة أدنى من ذرة غبار في بحر عظيم، وظاهر الأخبار أن حجم النبي متناسب مع أحجام الملائكة هناك.

والجواب على ذلك: أن الأخبار قد لا تعني أن النبي صلى الله عليه وسلم، يصعد بحجمه الطبيعي، بل قد يعظم خلقه ويزيد بأمر الله تعالى، فكل ما صعد إلى الأعلى، كل ما زاد حجمه، فلا يصل إلى الحضرة الإلهية المعظمة، حتى يكون حجمه مناسبا لحجم الملائكة هناك، ومناسباً لمقامه أمام الله تعالى.

وعن أبي هريرة وأبي مالك، عن ربعي عن حذيفة قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: يجمع الله تبارك وتعالى الناس فيقوم المؤمنون حتى تزلف لهم الجنة، فيأتون آدم فيقولون: يا أبانا استفتح لنا الجنة. فيقول: وهل أخرجكم من الجنة إلا خطيئة أبيكم آدم؟ لست بصاحب ذلك، اذهبوا إلى ابني إبراهيم خليل الله. قال: فيقول إبراهيم: لست بصاحب ذلك إنما كنت خليلا من وراء وراء، اعمدوا إلى موسى صلى الله عليه وسلم الذي كلمه الله تكليما. فيأتون موسى صلى الله عليه وسلم، فيقول: لست بصاحب ذلك، اذهبوا إلى عيسى كلمة الله وروحه فيقول عيسى صلى الله عليه وسلم: لست بصاحب ذلك. فيأتون محمدا صلى الله عليه وعلى آله وسلم فيقوم فيؤذن له، وترسل الأمانة والرحم فتقومان جنبتي الصراط يمينا وشمالا، فيمر أولكم كالبرق». قال: قلت: بأبي أنت وأمي أي شيء كمر البرق؟ قال: «ألم تروا إلى البرق كيف يمر ويرجع في طرفة عين؟ ثم كمر الريح، ثم كمر الطير، وشد الرجال، تجري بهم أعمالهم، ونبيكم قائم على الصراط يقول: رب سلم سلم. حتى تعجز أعمال العباد، حتى يجيء الرجل فلا يستطيع السير إلا زحفا، قال وفي حافتي الصراط كلاليب معلقة مأمورة بأخذ من أمرت به، فمخدوش ناج، ومكدوس في النار» والذي نفس أبي هريرة بيده إن قعر جهنم لسبعون خريفا.

رواه مسلم.

وهذا الأخبار الواردة في الشفاعة، سقط منها كلمات، وهما من الراوي، لأن الراوي ذكر في أول الخبر، أن النبي عرج إلى السماء ليشفع للعباد عند الله ليأتي لفصل القضاء، لكنه لا يذكر أن النبي شفع في ذلك، وهذا ما ذكر في الأخبار التالية: 

فعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: إذا كان يوم القيامة مدت الأرض مد الأديم، وزيد في سعتها كذا وكذا، وجمع الخلائق بصعيد واحد، جنهم وإنسهم، فإذا كان ذلك اليوم قيضت هذه السماء الدنيا عن أهلها على وجه الأرض، ولأهل السماء وحدهم أكثر من أهل الأرض جنهم وإنسهم بضعف فإذا نثروا على وجه الأرض فزعوا منهم، فيقولون: أفيكم ربنا: فيفزعون من قولهم ويقولون: سبحان ربنا ليس فينا، وهو آت، ثم تقاض السماء الثانية، ولأهل السماء الثانية وحدهم أكثر من أهل السماء الدنيا ومن جميع أهل الأرض بضعف جنهم وإنسهم، فإذا نثروا على وجه الأرض فزع إليهم أهل الأرض، فيقولون: أفيكم ربنا؟ فيفزعون من قولهم ويقولون: سبحان ربنا، ليس فينا، وهو آت، ثم تقاض السموات سماء سماء، كلما قيضت سماء عن أهلها كانت أكثر من أهل السموات التي تحتها ومن جميع أهل الأرض بضعف، فإذا نثروا على وجه الأرض، فزع إليهم أهل الأرض، فيقولون لهم مثل ذلك، ويرجعون إليهم مثل ذلك، حتى تقاض السماء السابعة، فلأهل السماء السابعة أكثر من أهل ست سموات، ومن جميع أهل الأرض بضعف، فيجيء الله فيهم والأمم جثي صفوف، وينادي مناد: ستعلمون اليوم من أصحاب الكرم، ليقم الحمادون لله على كل حال؛ قال: فيقومون فيسرحون إلى الجنة، ثم ينادي الثانية: ستعلمون اليوم من أصحاب الكرم، أين الذين كانت تتجافى جنوبهم عن المضاجع، يدعون ربهم خوفا وطمعا، ومما رزقناهم ينفقون؟ فيسرحون إلى الجنة؛ ثم ينادي الثانية: ستعلمون اليوم من أصحاب الكرم: أين الذين لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، يخافون يوما تتقلب فيه القلوب والأبصار فيقومون فيسرحون إلى الجنة؛ فإذا أخذ من هؤلاء ثلاثة خرج عنق من النار، فأشرف على الخلائق، له عينان تبصران، ولسان فصيح، فيقول: إني وكلت منكم بثلاثة: بكل جبار عنيد، فيلقطهم من الصفوف لقط الطير حب السمسم، فيحبس بهم في جهنم، ثم يخرج ثانية فيقول: إني وكلت منكم بمن آذى الله ورسوله فيلقطهم لقط الطير حب السمسم، فيحبس بهم في جهنم، ثم يخرج ثالثة، قال عوف: قال أبو المنهال: حسبت أنه يقول: وكلت بأصحاب التصاوير، فيلتقطهم من الصفوف لقط الطير حب السمسم، فيحبس بهم في جهنم، فإذا أخذ من هؤلاء ثلاثة، ومن هؤلاء ثلاثة، نشرت الصحف، ووضعت الموازين، ودعي الخلائق للحساب.

رواه الطبري.

وعن الأجلح، قال: سمعت الضحاك بن مزاحم يقول: إذا كان يوم القيامة، أمر الله السماء الدنيا بأهلها، ونزل من فيها من الملائكة، وأحاطوا بالأرض ومن عليها، ثم الثانية، ثم الثالثة، ثم الرابعة، ثم الخامسة، ثم السادسة، ثم السابعة، فصفوا صفا دون صف، ثم ينزل الملك الأعلى على مجنبته اليسرى جهنم، فإذا رآها أهل الأرض ندوا، فلا يأتون قطرا من أقطار الأرض إلا وجدوا سبعة صفوف من الملائكة، فيرجعون إلى المكان الذي كانوا فيه فذلك قول الله: (إني أخاف عليكم يوم التناد يوم تولون مدبرين ما لكم من الله من عاصم)، وذلك قوله: (وجاء ربك والملك صفا صفا وجيء يومئذ بجهنم) وقوله: (يا معشر الجن والإنس إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السماوات والأرض فانفذوا لا تنفذون إلا بسلطان) وذلك قول الله: (وانشقت السماء فهي يومئذ واهية والملك على أرجائها).

رواه الطبري.

وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: توقفون موقفا واحدا يوم القيامة مقدار سبعين عاما، لا ينظر إليكم ولا يقضى بينكم، قد حصر عليكم، فتبكون حتى ينقطع الدمع، ثم تدمعون دما وتبكون حتى يبلغ ذلك منكم الأذقان، أو يلجمكم فتضجون، ثم تقولون من يشفع لنا إلى ربنا، فيقضي بيننا، فيقولون من أحق بذلك من أبيكم، جعل الله تربته وخلقه بيده، ونفخ فيه من روحه، وكلمه قبلا فيؤتى آدم فيطلب ذلك إليه فيأبى، ثم يستقرون الأنبياء نبيا نبيا، كلما جاءوا نبيا أبى قال رسول الله: حتى يأتوني، فإذا جاءوني خرجت حتى آتي الفحص، قال أبو هريرة: يا رسول الله، ما الفحص؟ قال: قدام العرش، فأخر ساجدا، فلا أزال ساجدا حتى يبعث الله إلي ملكا، فيأخذ بعضدي، فيرفعني ثم يقول الله لي: محمد، وهو أعلم، فأقول: نعم، فيقول: ما شأنك؟ فأقول: يا رب وعدتني الشفاعة، شفعني في خلقك فاقض بينهم، فيقول: قد شفعتك، أنا آتيكم فأقضي بينكم. قال رسول الله: فأنصرف حتى أقف مع الناس، فبينا نحن وقوف، سمعنا حسا من السماء شديدا، فهالنا، فنزل أهل السماء الدنيا بمثلي من في الأرض من الجن والإنس، حتى إذا دنوا من الأرض، أشرقت الأرض، بنورهم، وأخذوا مصافهم، وقلنا لهم: أفيكم ربنا؟ قالوا: لا وهو آت، ثم ينزل أهل السماء الثانية بمثلي من نزل من الملائكة، وبمثلي من فيها من الجن والإنس، حتى إذا دنوا من الأرض أشرقت الأرض بنورهم، وأخذوا مصافهم، وقلنا لهم: أفيكم ربنا؟ قالوا: لا وهو آت. ثم نزل أهل السموات على قدر ذلك من الضعف حتى نزل الجبار في ظلل من الغمام والملائكة، ولهم زجل من تسبيحهم، يقولون: سبحان ذي الملك والملكوت، سبحان رب العرش ذي الجبروت، سبحان الحي الذي لا يموت سبحان الذي يميت الخلائق ولا يموت، سبوح قدوس رب الملائكة والروح، قدوس قدوس، سبحان ربنا الأعلى سبحان ذي الجبروت والملكوت والكبرياء والسلطان والعظمة سبحانه أبدا أبدا، يحمل عرشه يومئذ ثمانية، وهم اليوم أربعة، أقدامهم على تخوم الأرض السفلى، والسموات إلى حجزهم، والعرش على مناكبهم، فوضع الله عرشه حيث شاء من الأرض، ثم ينادي بنداء يسمع الخلائق فيقول يا معشر الجن والإنس، إني قد أنصت منذ يوم خلقتكم إلى يومكم هذا، أسمع كلامكم، وأبصر أعمالكم، فأنصتوا إلي، فإنما هي صحفكم وأعمالكم تقرأ عليكم فمن وجد خيرا فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه، ثم يأمر الله جهنم فتخرج منها عنقا ساطعا مظلما، ثم يقول الله: (ألم أعهد إليكم يابني آدم أن لا تعبدوا الشيطان إنه لكم عدو مبين) إلى قوله: (هذه جهنم التي كنتم توعدون)، (وامتازوا اليوم أيها المجرمون) فيتميز الناس ويجثون، وهي التي يقول الله: (وترى كل أمة جاثية كل أمة تدعى إلى كتابها اليوم... ) الآية، فيقضي الله بين خلقه الجن والإنس والبهائم، فإنه ليقيد يومئذ للجماء من ذات القرون، حتى إذا لم يبق تبعة عند واحدة لأخرى قال الله: كونوا ترابا، فعند ذلك يقول الكافر يا ليتني كنت ترابا، ثم يقضي الله سبحانه بين الجن والإنس.

رواه الطبري.

وقوله: سبعين عاما. وهم من الراوي، وصوابه: خمسين ألف سنة، كما ورد في الأحاديث الصحاح.

وقوله: "وهم اليوم أربعة، أقدامهم على تخوم الأرض السفلى، والسموات إلى حجزهم، والعرش على مناكبهم" هذه من إضافات القصاص وزياداتهم.

فإن قيل: كيف يوضع العرش على الأرض وحجمه اليوم أعظم من حجم السماوات والأرض بكثير؟

فالجواب: أن الله تعالى قد يدني من حجم العرش حتى يكون في حجم يتناسب مع حجم البقة التي أعدّت ليوضع فيها، ويكون الله تعالى في هيئة مناسبة لحجم عرشه، كي يستوي عليه.

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: حدثني رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أن الله تبارك وتعالى إذا كان يوم القيامة ينزل إلى العباد ليقضي بينهم، وكل أمة جاثية، فأول من يدعو به رجل جمع القرآن، ورجل يقتتل في سبيل الله، ورجل كثير المال، فيقول الله للقارئ: ألم أعلمك ما أنزلت على رسولي؟ قال: بلى يا رب، قال: فماذا عملت فيما علمت؟ قال: كنت أقوم به آناء الليل وآناء النهار، فيقول الله له: كذبت، وتقول له الملائكة: كذبت، ويقول الله: بل أردت أن يقال: إن فلانا قارئ فقد قيل ذاك. ويؤتى بصاحب المال فيقول الله له: ألم أوسع عليك حتى لم أدعك تحتاج إلى أحد؟ قال: بلى يا رب، قال: فماذا عملت فيما آتيتك؟ قال: كنت أصل الرحم وأتصدق، فيقول الله له: كذبت، وتقول له الملائكة: كذبت، ويقول الله تعالى: بل أردت أن يقال: فلان جواد، فقد قيل ذاك. ويؤتى بالذي قتل في سبيل الله، فيقول الله له فيماذا قتلت؟ فيقول: أمرت بالجهاد في سبيلك فقاتلت حتى قتلت، فيقول الله تعالى له: كذبت، وتقول له الملائكة: كذبت، ويقول الله: بل أردت أن يقال: فلان جريء، فقد قيل ذاك. ثم ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم على ركبتي، فقال: يا أبا هريرة، أولئك الثلاثة أول خلق الله تسعر بهم النار يوم القيامة".

رواه الترمذي.

وقوله: "جاثية" أي: جاثية على ركبها، والجاثي، هو الذي ثنى رجليه حتى لصقت ساقاه بفخذيه.

وعن آدم بن علي قال: سمعت عبدالله بن عمر رضي الله عنهما يقول: إن الناس يصيرون يوم القيامة جُثا كل أمة تتبع نبيها يقولون: يا فلان اشفع يا فلان اشفع. حتى تنتهي الشفاعة إلى النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم فذلك يوم يبعثه الله المقام المحمود.

رواه البخاري.

وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: سبعة يظلهم الله تعالى في ظله يوم لا ظل إلا ظله: إمام عدل، وشاب نشأ في عبادة الله، ورجل قلبه معلق في المساجد، ورجلان تحابا في الله، اجتمعا عليه وتفرقا عليه، ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال: إني أخاف الله، ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه، ورجل ذكر الله خاليا، ففاضت عيناه.

رواه البخاري ومسلم.

وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: أنا سيد ولد آدم يوم القيامة، وأول من ينشق عنه القبر، وأول شافع وأول مشفع.

رواه مسلم.

وعن جبير بن مطعم رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لي خمسة أسماء: أنا محمد، وأحمد، وأنا الماحي الذي يمحو الله بي الكفر، وأنا الحاشر الذي يحشر الناس على قدمي، وأنا العاقب".

رواه البخاري ومسلم.

وقوله: "يحشر الناس على قدمي" أي: يحشر الناس خلف النبي صلى الله عليه وسلم، فهو يسير وهم جميعهم خلفه، فإذا أحياه الله تعالى، سار نحو الشام، أرض المحشر، فيسير الناس خلفه، ولا يمر بأناس إلا ساروا خلفه، وهكذا.

وعن ‌عبدالله بن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إنكم محشورون حفاة عراة غرلا، ثم قرأ: (كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ) وأول من يكسى يوم القيامة إبراهيم، وإن أناسا من أصحابي يؤخذ بهم ذات الشمال فأقول: أصحابي أصحابي. فيقول: إنهم لم يزالوا مرتدين على أعقابهم منذ فارقتهم. فأقول كما قال العبد الصالح: (وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَّا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنتَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ ۖ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) [المائدة].

وعن عدي بن حاتم الطائي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما منكم أحد إلا سيكلمه ربه ليس بينه وبينه ترجمان، ولا حجاب يحجبه، فينظر أيمن منه فلا يرى إلا ما قدم من عمله، وينظر أشأم منه فلا يرى إلا ما قدم، وينظر بين يديه فلا يرى إلا النار تلقاء وجهه، فاتقوا النار ولو بشق تمرة، ولو بكلمة طيبة".

رواه البخاري.

وفي رواية أخرى عند البخاري: "ثم ليقفن أحدكم بين يدي الله ليس بينه وبينه حجاب ولا ترجمان يترجم له، ثم ليقولن له: ألم أوتك مالا؟ فليقولن: بلى، ثم ليقولن ألم أرسل إليك رسولا؟ فليقولن: بلى، فينظر عن يمينه فلا يرى إلا النار، ثم ينظر عن شماله فلا يرى إلا النار، فليتقين أحدكم النار ولو بشق تمرة، فإن لم يجد فبكلمة طيبة".

وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نحن الآخرون الأولون يوم القيامة، ونحن أول من يدخل الجنة، بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا، وأوتيناه من بعدهم، فاختلفوا، فهدانا الله لما اختلفوا فيه من الحق، فهذا يومهم الذي اختلفوا فيه، هدانا الله له، قال: يوم الجمعة، فاليوم لنا، وغدا لليهود، وبعد غد للنصارى".

رواه مسلم. قوله: "نحن الأخرون الأولون يوم القيامة". أي: نحن أخر الأمم في الدنيا، وأول الأمم محاسبة في الأخرة.

وعن عبدالله بن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "نحن آخر الأمم، وأول من يحاسب، يقال: أين الأمة الأمية ونبيها؟ فنحن الآخرون الأولون".

رواه ابن ماجه.

وعن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يدعى نوح يوم القيامة، فيقول: لبيك وسعديك يا رب، فيقول: هل بلغت؟ فيقول: نعم، فيقال لأمته: هل بلغكم؟ فيقولون: ما أتانا من نذير، فيقول: من يشهد لك؟ فيقول: محمد وأمته، فتشهدون أنه قد بلغ: {ويكون الرسول عليكم شهيدا} فذلك قوله جل ذكره: {وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة] والوسط: العدل".

رواه البخاري.

وعن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يجيء النبي يوم القيامة ومعه الرجل ، والنبي ومعه الرجلان ، والنبي ومعه الثلاثة ، وأكثر من ذلك ، فيقال له : هل بلغت قومك ؟ فيقول : نعم ، فيدعى قومه ، فيقال لهم : هل بلغكم هذا ؟ فيقولون : لا ، فيقال له : من يشهد لك ؟ فيقول : محمد وأمته ، فيدعى محمد وأمته فيقال لهم : هل بلغ هذا قومه ؟ فيقولون : نعم ، فيقال : وما علمكم بذلك ؟ فيقولون : جاءنا نبينا ، فأخبرنا أن الرسل قد بلغوا فصدقناه ، فذلك قوله : وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا".

رواه أحمد.

‌وعن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ليس أحد يحاسب يوم القيامة إلا هلك، فقلت: يا رسول الله، أليس قد قال الله تعالى: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا} [الإنشقاق] فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنما ذلك العرض، وليس أحد يناقش الحساب يوم القيامة إلا عذب".

رواه البخاري.

حدثنا ‌أنس بن مالك رضي الله عنه أن نبي الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: "يجاء بالكافر يوم القيامة فيقال له: أرأيت لو كان لك ملء الأرض ذهبا أكنت تفتدي به؟ فيقول: نعم، فيقال له: قد كنت سئلت ما هو أيسر من ذلك".

رواه البخاري.

وعن عبدالله بن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله يدني المؤمن، فيضع عليه كنفه ويستره، فيقول: أتعرف ذنب كذا؟ أتعرف ذنب كذا؟ فيقول: نعم أي رب، حتى إذا قرره بذنوبه، ورأى في نفسه أنه هلك، قال: سترتها عليك في الدنيا، وأنا أغفرها لك اليوم، فيعطى كتاب حسناته، وأما الكافر والمنافقون، فيقول الأشهاد: {هَٰؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَىٰ رَبِّهِمْ ۚ أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} [هود]".

رواه البخاري.

عن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أول ما يقضى بين الناس يوم القيامة في الدماء".

رواه مسلم.

وعن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "أول ما يحاسب به العبد الصلاة ، وأول ما يقضى بين الناس في الدماء".

رواه النسائي.

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : "إن أول ما يحاسب به العبد يوم القيامة من عمله صلاته فإن صلحت فقد أفلح وأنجح وإن فسدت فقد خاب وخسر ، فإن انتقص من فريضته شيء قال الرب عز وجل : انظروا هل لعبدي من تطوع فيكمل بها ما انتقص من الفريضة ؟ ثم يكون سائر عمله على ذلك".

رواه الترمذي.

وفي رواية عند أبي داود قال: إن أول ما يحاسب الناس به يوم القيامة من أعمالهم الصلاة، قال: يقول ربنا جل وعز لملائكته وهو أعلم : انظروا في صلاة عبدي أتمها أم نقصها ؟ فإن كانت تامة كتبت له تامة ، وإن كان انتقص منها شيئا ، قال : انظروا هل لعبدي من تطوع ؟ فإن كان له تطوع ، قال : أتموا لعبدي فريضته من تطوعه ، ثم تؤخذ الأعمال على ذاكم".

وعن عبدالله بن أنيس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يحشر الله العباد أو قال يحشر الله الناس قال وأومى بيده إلى الشام عراة غرلا بهما قال قلت ما بهما قال ليس معهم شيء فينادي بصوت يسمعه من بعد كما يسمعه من قرب أنا الملك أنا الديان لا ينبغي لأحد من أهل الجنة أن يدخل الجنة وأحد من أهل النار يطالبه بمظلمة ولاينبغي لأحد من أهل النار أن يدخل النار وأحد من أهل الجنة يطالبه بمظلمة قالوا وكيف وإنا نأتي عراة غرلا بهما قال بالحسنات والسيئات".

رواه أحمد.

عن أبي هريرة قال: قالوا: يا رسول الله! هل نرى ربنا يوم القيامة؟ "قال: هل تضارون في رؤية الشمس في الظهيرة، ليست في سحابة؟ " قالوا: لا. قال "فهل تضارون في رؤية القمر ليلة البدر، ليس في سحابة؟ " قالوا: لا. قال "فوالذي نفسي بيده! لا تضارون في رؤية ربكم إلا كما تضارون في رؤية أحدهما. قال فيلقى العبد فيقول: أي فل! ألم أكرمك، وأسودك، وأزوجك، وأسخر لك الخيل والإبل، وأذرك ترأس وتربع؟ فيقول: بلى. قال فيقول: أفظننت أنك ملاقي؟ فيقول: لا. فيقول: فإني أنساك كما نسيتني. ثم يلقى الثاني فيقول: أي فل! ألم أكرمك، وأسودك، وأزوجك، وأسخر لك الخيل والإبل، وأذرك ترأس وتربع؟ فيقول: بلى. أي رب! فيقول: أفظننت أنك ملاقي؟ فيقول: لا. فيقول: فإني أنساك كما نسيتني. ثم يلقى الثالث فيقول له مثل ذلك. فيقول: يا رب! آمنت بك وبكتابك وبرسلك وصليت وصمت وتصدقت. ويثني بخير ما استطاع. فيقول: ههنا إذا. قال ثم يقال له: الآن نبعث شاهدنا عليك. ويتفكر في نفسه: من ذا الذي يشهد علي؟ فيختم على فيه. ويقال لفخذه ولحمه وعظامه: انطقي. فتنطق فخذه ولحمه وعظامه بعمله. وذلك ليعذر من نفسه. وذلك المنافق. وذلك الذي يسخط الله عليه".

رواه مسلم.

عن أنس بن مالك قال: كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فضحك فقال "هل تدرون مما أضحك؟ " قال قلنا: الله ورسوله أعلم. قال "من مخاطبة العبد ربه. يقول: يا رب! ألم تجرني من الظلم؟ قال يقول: بلى. قال فيقول: فإني لا أجيز على نفسي إلا شاهدا مني. قال فيقول: كفى بنفسك اليوم عليك شهيدا. وبالكرام الكاتبين شهودا. قال فيختم على فيه. فيقال لأركانه: انطقي. قال فتنطق بأعماله. قال ثم يخلى بينه وبين الكلام. قال فيقول: بعدا لكن وسحقا. فعنكن كنت أناضل".

رواه مسلم.

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من كانت عنده مظلمة لأخيه فليتحلله منها، فإنه ليس ثم دينار ولا درهم، من قبل أن يؤخذ لأخيه من حسناته، فإن لم يكن له حسنات أخذ من سيئات أخيه فطرحت عليه".

رواه البخاري.

عن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "أتدرون ما المفلس؟" قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع. فقال: "إن المفلس من أمتي، يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة، ويأتي قد شتم هذا، وقذف هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا. فيعطى هذا من حسناته وهذا من حسناته. فإن فنيت حسناته، قبل أن يقضى ما عليه، أخذ من خطاياهم فطرحت عليه. ثم طرح في النار".

رواه مسلم.

عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الدواوين ثلاثة: فديوان لا يغفر الله منه شيئا، وديوان لا يعبأ الله به شيئا، وديوان لا يترك الله منه شيئا، فأما الديوان الذي لا يغفر الله منه شيئا فالإشراك بالله، وأما الديوان الذي لا يعبأ الله به شيئا، فظلم العبد نفسه فيما بينه وبين ربه، من صوم يوم تركه أو صلاة تركها، فإن الله يغفر ذلك إن شاء ويتجاوز. وأما الديوان الذي لا يترك الله منه شيئا فمظالم العباد بينهم: القصاص لا محالة".

رواه أحمد.

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن أول الناس يقضى يوم القيامة عليه: رجل استشهد، فأتي به، فعرفه نعمه، فعرفها، قال: فما عملت فيها؟ قال: قاتلت فيك حتى استشهدت، فقال: كذبت، ولكنك قاتلت لأن يقال: جريء، فقد قيل، ثم أمر به، فسحب على وجهه، حتى ألقي في النار. ورجل تعلم العلم وعلمه، وقرأ القرآن، فأتي به، فعرفه نعمه، فعرفها، قال: فما عملت فيها؟ قال: تعلمت العلم وعلمته، وقرأت فيك القرآن، قال: كذبت، ولكنك تعلمت العلم ليقال عالم، وقرأت القرآن ليقال: هو قارئ، فقد قيل، ثم أمر به، فسحب على وجهه، حتى ألقي في النار. ورجل وسع الله عليه، وأعطاه من أصناف المال كله، فأتي به، فعرفه نعمه، فعرفها، قال: فما عملت فيها؟ قال: ما تركت من سبيل تحب أن ينفق فيها إلا أنفقت فيها لك، قال: كذبت ولكنك فعلت ليقال: هو جواد، فقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه، ثم ألقي في النار".

رواه مسلم.

وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما يزال الرجل يسأل الناس، حتى يأتي يوم القيامة وليس في وجهه مزعة لحم".

رواه البخاري ومسلم.

عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله تعالى يقول يوم القيامة: يا ابن آدم، مرضت فلم تعدني. قال: يا رب، كيف أعودك وأنت رب العالمين؟ قال: أما علمت أن عبدي فلانا مرض فلم تعده، أما علمت أنك لو عدته لوجدتني عنده؟ يا ابن آدم، استطعمتك فلم تطعمني. قال: يا رب كيف أطعمك وأنت رب العالمين؟ قال: أما علمت أنه استطعمك عبدي فلان فلم تطعمه؟ أما علمت أنك لو أطعمته لوجدت ذلك عندي؟ يا ابن آدم، استسقيتك فلم تسقني. قال: يا رب كيف أسقيك وأنت رب العالمين؟ قال: استسقاك عبدي فلان فلم تسقه، أما علمت أنك لو سقيته وجدت ذلك عندي؟".

رواه مسلم.

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "والذي نفسي بيده لا يَكْلَم أحد في سبيل الله -والله أعلم بمن يَكْلَم في سبيله- إلا جاء يوم القيامة واللون لون الدم، والريح ريح المسك".

رواه البخاري ومسلم.

قوله: "يَكْلَم" أي: يُجْرَح.

عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لكم سيما ليست لأحد من الأمم تردون عليَّ غرا محجلين؛ من أثر الوضوء".

رواه مسلم.

وعن أبي قتادة، أنه سمعه يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ أنه قام فيهم فذكر لهم أن الجهاد في سبيل الله والإيمان بالله أفضل الأعمال. فقام رجل فقال: يا رسول الله! أرأيت إن قتلت في سبيل الله تكفر عني خطاياي؟ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: نعم، إن قتلت في سبيل الله، وأنت صابر محتسب، مقبل غير مدبر. ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كيف قلت؟ قال: أرأيت إن قتلت في سبيل الله أتكفر عني خطاياي؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نعم، وأنت صابر محتسب، مقبل غير مدبر، إلا الدين، فإن جبريل عليه السلام، قال لي ذلك.

رواه مسلم.

وعن عبدالله بن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا جمع الله الأولين والآخرين يوم القيامة، رفع لكل غادر لواء يوم القيامة، فقيل: هذه غدرة فلان بن فلان".

رواه البخاري ومسلم.

وعن عبدالله بن عباس رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من تحلم بحلم لم يره كلف أن يعقد بين شعيرتين، ولن يفعل".

رواه البخاري.

وعن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله سيخلص رجلا من أمتي على رءوس الخلائق يوم القيامة فينشر عليه تسعة وتسعين سجلا كل سجل مثل مد البصر، ثم يقول: أتنكر من هذا شيئا؟ أظلمك كتبتي الحافظون؟ فيقول: لا يا رب، فيقول: أفلك عذر؟ فيقول: لا يا رب، فيقول: بلى إن لك عندنا حسنة، فإنه لا ظلم عليك اليوم، فتخرج بطاقة فيها: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، فيقول: احضر وزنك، فيقول: يا رب ما هذه البطاقة مع هذه السجلات، فقال: إنك لا تظلم، قال: فتوضع السجلات في كفة والبطاقة في كفة، فطاشت السجلات وثقلت البطاقة، فلا يثقل مع اسم الله شيء".

رواه الترمذي.

قلت: وهذا ليس في حق كل أحد، بل الراجح، أنه لقوم عظم إخلاص التوحيد في قلوبهم، فكافئهم الله تعالى على ذلك بهذه البطاقة، حيث جعلها أثقل من جميع سيئاتهم، لدرجة أن سيئاتهم طاشت من الميزان، بمعنى، أن الله تعالى غفر له جميع ذنوبه مكافئة له.

وعن عبدالله بن عباس قال: قال رسول اله صلى الله عليه وسلم: "عرضت علي الأمم، فأخذ النبي يمر معه الأمة، والنبي يمر معه النفر، والنبي يمر معه العشرة، والنبي يمر معه الخمسة، والنبي يمر وحده، فنظرت فإذا سواد كثير، قلت: يا جبريل، هؤلاء أمتي؟ قال: لا، ولكن انظر إلى الأفق، فنظرت فإذا سواد كثير، قال: هؤلاء أمتك، وهؤلاء سبعون ألفا قُدَّامهم لا حساب عليهم ولا عذاب، قلت: ولم؟ قال: كانوا لا يكتوون، ولا يسترقون، ولا يتطيرون، وعلى ربهم يتوكلون، فقام إليه عكاشة بن محصن، فقال: ادع الله أن يجعلني منهم، قال: اللهم اجعله منهم، ثم قام إليه رجل آخر قال: ادع الله أن يجعلني منهم، قال: سبقك بها عكاشة.

رواه البخاري.

وعن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "كلمتان حبيبتان إلى الرحمن، خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم".

رواه البخاري ومسلم.

وعن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "ما من شىء أثقل في الميزان من حسن الخلق".

رواه أحمد وأبو داود والترمذي.

عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إنه ليأتي الرجل العظيم السمين يوم القيامة لا يزن عند الله جناح بعوضة، وقال: اقرؤوا: (فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا)".

رواه البخاري ومسلم.

وعن ابن مسعود رضي الله عنه أنه كان يجتني سواكا من الأراك، وكان دقيق الساقين، فجعلت الريح تكفؤه، فضحك القوم منه! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مم تضحكون؟! قالوا: يا نبي الله، من دقة ساقيه! فقال: والذي نفسي بيده لهما أثقل في الميزان من أحد".

رواه البخاري ومسلم.

قلت: وفي هذا الحديث أن العبد يوزن مع حسناته.

وعن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا خلص المؤمنون من النار حبسوا بقنطرة بين الجنة والنار، فيتقاصون مظالم كانت بينهم في الدنيا، حتى إذا نقوا وهذبوا أذن لهم بدخول الجنة، فوالذي نفس محمد بيده، لأحدهم بمسكنه في الجنة أدل بمنزله كان في الدنيا".

رواه البخاري.

قلت: وهذا الحديث، يدل على أن ما يقع بين المسلمين من مظالم، يؤخر إلى أن يبلغ المسلمون القنطرة، ولكنهم لا يعودون إلى النار، وإنما يقتص لهم بالحسنات، وفيه دليل على أن بعد الجسر موضع بين الجسر والجنة يدعى: القنطرة.

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أول من يدعى يوم القيامة آدم، فتراءى ذريته، فيقال: هذا أبوكم آدم، فيقول: لبيك وسعديك، فيقول: أخرج بعث جهنم من ذريتك، فيقول: يا رب، كم أخرج؟ فيقول: أخرج من كل مائة تسعة وتسعين". فقالوا: يا رسول الله، إذا أخذ منا من كل مائة تسعة وتسعون، فماذا يبقى منا؟ قال: "إن أمتي في الأمم كالشعرة البيضاء في الثور الأسود".

رواه البخاري.

أي: أول من يدعى من الأنبياء، بعد الفراغ من الحساب، وقبل أن يأمر الله تعالى بأن يتبع كل من كان يعبد شيئا ما كان يعبده.

وعن أسامة بن زيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قمت على باب الجنة، فكان عامة من دخلها المساكين، وأصحاب الجد محبوسون، غير أن أصحاب النار قد أمر بهم إلى النار، وقمت على باب النار فإذا عامة من دخلها النساء".

رواه البخاري.

قوله: "الجدّ". أي: المال.

وقوله: "محبوسون" أي: محبوسون في القنطرة، لا يدخلون إلا بعد أن يمكث الفقراء في الجنة خمسمائة عام، وذاك نصف يوم من أيام الله تعالى.

وقوله: "فإذا عامة من دخلها النساء" أي: أنهن أكثر من الرجال، كما أن كثيراً من المسلمات، سوف يدخلن النار، بسبب إكثارهن من اللعن، وبسبب كفرانهن لأزواجهن، وجحدهن ما قدموا لهن من معروف، من الإنفاق عليهن، ورعايتهن، ولكن المسملات لا يخلدن في لانار، بل يعاقبن بقدر ذنوبهن، ثم يدخلن الجنَّة.

قلت: وهذه إنما هي رؤيا رآها النبي صلى الله عليه وسلم، لما سوف يقع يوم القيامة بالناس.

عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يدخل فقراء المسلمين الجنة قبل أغنيائهم بنصف يوم، وهو خمس مائة عام".

رواه الترمذي وأحمد.

وعن أبي سعيد الخدري قال: جلست في عصابة من ضعفاء المهاجرين، وإن بعضهم ليستتر ببعض من العُري، وقارئ يقرأ علينا، إذ جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فقام علينا، فلما قام رسول الله صلى الله عليه وسلم، سكت القارئ، فسلَّم ثم قال: «ما كنتم تصنعون؟» قلنا: كنا نستمع إلى كتاب الله قال فقال: «الحمد لله الذي جعل من أمتي من أمرت أن أصبر نفسي معهم» . قال فجلس وسطنا ليعدل بنفسه فينا، ثم قال بيده هكذا، فتحلقوا، وبرزت وجوههم له، فقال: «أبشروا يا معشر صعاليك المهاجرين بالنور التام يوم القيامة تدخلون الجنة قبل أغنياء الناس بنصف يوم وذاك خمسمائة سنة» . 

رواه أبو داود.

قلت: وذلك إكراماً لهم، وتعويضا لهم عما أصابهم من الفقر في الدنيا، فكان جزائهم، أن أدخلوا الجنّة قبل الأغنياء بخمسمائة سنة، والأغنياء محبوسون في القنطرة.

وقد روي عن عبدالله بن عمرو بن العاص أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن فقراء المهاجرين يسبقون الأغنياء يوم القيامة إلى الجنة بأربعين خريفا".

رواه مسلم.

قلت: وهذا وهم من عبدالله رضي الله عنه، فإن أبا هريرة وأبا سعيد اتفقا على أنهما سمعاه من النبي صلى الله عليه وسلم: "خمسمائة عام". فهذان، شاهدان عدلان.

وعن أبي ذر الغفاري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إني لأعلم آخر أهل الجنة دخولا الجنة. وآخر أهل النار خروجا منها. رجل يؤتى به يوم القيامة. فيقال: اعرضوا عليه صغار ذنوبه وارفعوا عنه كبارها. فتعرض عليه صغار ذنوبه. فيقال: عملت يوم كذا وكذا، كذا وكذا. وعملت يوم كذا وكذا، كذا وكذا. فيقول: نعم. لا يستطيع أن ينكر. وهو مشفق من كبار ذنوبه أن تعرض عليه. فيقال له: فإن لك مكان كل سيئة حسنة. فيقول: رب! قد عملت أشياء لا أراها ههنا". فلقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ضحك حتى بدت نواجذه.

رواه مسلم.

قلت: وهذا الحديث في أخر أهل النار خروجا منها، وأخر أهل الجنة دخولا إليها، بعد أن ينقى من ذنوبه معاصيه، تعرض عليه أعماله السيئة، ليرى منّة الله عليه، وكيف أن كلمة التوحيد كانت سببا في إخراجه من النار، بعد أن طهره الله منها.

وعن عبدالله بن مسعود رضي الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "آخر من يدخل الجنة رجل، فهو يمشي مرة، ويكبو مرة، وتسفعه النار مرة، فإذا ما جاوزها التفت إليها، فقال: تبارك الذي نجاني منك، لقد أعطاني الله شيئاً ما أعطاه أحداً من الأولين والآخرين، فترفع له شجرة، فيقول: يا رب، أدنني من هذه الشجرة فلأستظل بظلها، وأشرب من مائها، فيقول الله عز وجل: يا ابن آدم لعلي إن أعطيتكها سألتني غيرها؟ فيقول: لا، يا رب ويعاهده أن لا يسأله غيرها، قال: وربه عز وجل يعذره، لأنه يرى ما لا صبر له عليه، فيدنيه منها، فيستظل بظلها، ويشرب من مائها، ثم ترفع له شجرة هي أحسن من الأولى، فيقول: أي رب، أدنني من الشجرة لأشرب من مائها وأستظل بظلها، لا أسألك غيرها فيقول: يا ابن آدم، ألم تعاهدني أن لا تسألني غيرها؟ فيقول: لعلي إن أدنيتك منها تسألني غيرها؟ فيعاهده أن لا يسأله غيرها، وربه تعالى يعذره، لأنه يرى ما لا صبر له عليه، فيدنيه منها، فيستظل بظلها، ويشرب من مائها، ثم ترفع له شجرة عند باب الجنة، وهي أحسن من الأوليين، فيقول: أي رب أدنني من هذه لأستظل بظلها، وأشرب من مائها، لا أسألك غيرها، فيقول: يا ابن آدم، ألم تعاهدني أن لا تسألني غيرها؟ قال: بلى، يا رب لا أسألك غيرها – وربه عز وجل يعذره، لأنه يرى ما لا صبر له عليه، فيدنيه منها، فإذا أدناه منها سمع أصوات أهل الجنة فيقول: أي رب أدخلنيها، فيقول: يا ابن آدم، ما يصريني منك، أيرضيك أن أعطيك الدنيا ومثلها معها؟ قال: يا رب، أتستهزئ مني وأنت رب العالمين؟ فضحك ابن مسعود، فقال: ألا تسألوني مم أضحك؟ فقالوا: مم تضحك؟ قال: هكذا ضحك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالوا: مم تضحك يا رسول الله؟ فقال: من ضحك رب العالمين، حين قال: أتستهزئ مني وأنت رب العالمين؟ فيقول: إني لا أستهزئ منك، ولكني على ما أشاء قادر".

رواه مسلم. 

وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن أدنى أهل الجنة منزلة: رجل صرف الله وجهه عن النار قِبل الجنة، ومثل له شجرة ذات ظل، فقال: أي رب، قدمني إلى هذه الشجرة لأكون في ظلها" .. وساق الحديث بنحو حديث ابن مسعود، ولم يذكر: فيقول: يا ابن آدم، ما يصريني منك؟ .. إلى آخر الحديث. وزاد فيه: "ويذكره الله، سل كذا وكذا، فإذا انقطعت به الأماني، قال الله: هو لك وعشرة أمثاله، قال: ثم يدخل بيته، فتدخل عليه زوجتاه من الحور العين، فيقولان: الحمد لله الذي أحياك لنا، وأحيانا لك، قال: فيقول: ما أعطي أحد مثل ما أعطيت". 

رواه مسلم.