اختلفت الروايات في كيفيّة قبض الأرواح، والحقيقة أن جميع الروايات في هذا الباب ما بين حسنة وضعيفة الإسناد، ليس هناك خبر صحيح.
لذلك سوف نضطر إلى جمع الروايات، ثم النظر فيما يدل عليها المتواتر منها أو أصحها إسنادا.
فقد ورد عن زهير بن محمد قال: قيل: يا رسول الله، ملك الموت واحد، والزحفان يلتقيان من المشرق والمغرب وما بينهما من السقط والهلاك! فقال: "إن الله حوى الدنيا لملك الموت حتى جعلها كالطست بين يدي أحدكم، فهل يفوته منها شيء؟".
رواه ابن أبي حاتم.
وزهير بن محمد هذا من تابعي التابعين. فالخبر منقطع بينه وبين النبي.
وعن عبدالله بن عباس رضي الله عنهما، أنه سئل عن نفسين اتفق موتهما في طرفة عين، واحد في المشرق، وواحد في المغرب، كيف قدرة ملك الموت عليهما؟ قال: ما قدرة ملك الموت علي أهل المشارق والمغارب والظلمات والهواء والبحور إلا كرجل بين يديه مائدة يتناول من أيها ما يشاء.
وهو خبر موقوف، رواه ابن أبي حاتم.
وروى الطبري بسند ضعيف عن مجاهد مثله.
قلت: ففي هذه الأخبار، أن ملك الموت واحد، وأنه جعلت له الأرض كالطست أو كالمائدة، فهو يتناول منها كيف يشاء، فيقبض أرواح الألوف المؤلفة في وقت واحد وفي أماكن متباعدة، وكأن ملك الموت له آلاف الأيدي التي يوجهها في لحظة واحدة لقبض الأرواح!
لكن هذه الأخبار تتعارض مع أخبار أخرى.
فعن قتادة بن دعامة السدوسي في قوله تعالى: (تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا) قال: إن ملك الموت له رسل، فيرسل ويرفع ذلك إليه.
رواه الطبري.
وقتادة تابعي جليل.
وعن إبراهيم بن يزيد النخعي في قوله تعالى: (تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا) قال: تتوفاه الرسل، ثم يقبض منهم ملك الموت الأنفس.
رواه الطبري وابن أبي حاتم.
والنخعي تابعي جليل.
قلت: فدل هذين الخبرين، على أن الذي يتولى مباشرة قبض الأرواح، ليس ملكاً واحداً، بل ملائكة كثيرة، يدعى كل ملك منها: ملك الموت، ولهؤلاء الملائكة رئيس يشرف عليهم.
ويشهد لهذين الخبرين:
ما رواه الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، أن آدم لما جاءه ملك الموت قال: "أولم يبق من عمري أربعون سنة قال: أولم تعطها ابنك داود؟! قال: فجحد آدم فجحدت ذريته، ونسي آدم فنسيت ذريته، وخطئ آدم فخطئت ذريته".
حديث حسن.
فهذا الخبر يفيد، أن ملك الموت حضر بنفسه لقبض روح آدم، لأنه تناولها تناولاً وهو بائن من الأرض!
ويشهد للخبرين أيضاً حديث البراء بن عازب، وفيه أن ملك الموت يقبل حتى يقعد عند رأس الميت، فيأمر روحه بالخروج!
وهو حديث حسن.
والحديث الفيصل في هذا الباب والذي قطع الشك باليقين، هو ما رواه الشيخان، البخاري ومسلم، في صحيحيهما، عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "أُرسِل ملك الموت إلى موسى عليهما السلام، فلما جاءه صكه، فرجع إلى ربه فقال: أرسلتني إلى عبد لا يريد الموت! قال: ارجع إليه فقل له: يضع يده على متن ثور فله بما غطت يده بكل شعرة سنة. قال: أي رب ثم ماذا؟ قال: ثم الموت. قال: فالآن. قال: فسأل الله أن يدنيه من الأرض المقدسة رمية بحجر". قال أبو هريرة: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لو كنت ثم، لأريتكم قبره إلى جانب الطريق، تحت الكثيب الأحمر".
فهذا حديث صحيح، يبين وبجلاء، أن ملك الموت يحضر بنفسه لقبض الأرواح، لا أنه يتناولها تناولاً، كما رَوى زهير بن محمد، وكما رُوي عن ابن عباس ومجاهد.
وبهذا نعلم بطلان حديث زهير وابن عباس ومجاهد.
فإذا جمعنا خبر قتادة والنخغي مع ما روي عن البراء بن عازب، تبين لنا وبجلاء، أن ملك الموت اسم لنوع من الملائكة، وليس اسم لملك واحد.
حيث يحتوي هذا النوع من الملائكة على رئيس وقواد وأتباع، ويوصف هؤلاء القواد والأتباع بأنهم: أعوان لملك الموت الرئيس.
فملك الموت الرئيس يستقبل الأسماء التي قُضِي عليها الموت، من الله تعالى مباشرة، إما مكتوبة في ورقة مناولة، أو تلقينا، أو بأي طريقة شائها الله تعالى.
فيأخذه ملك الموت الرئيس، ويدعو قواده فيناول كل واحد منهم اسما من تلك الأسماء، وكل قائد من هؤلاء القواد معه تابعان اثنان.
وهم على قسمين: ملائكة رحمة، وملائكة عذاب، كما ورد وصفهم في الأحاديث النبوية.
فيأخذ القائد الاسم الموكل بقبض روحه، ويتجه مباشرة إلى صاحب ذلك الاسم حتى يخطف روحه، فلا يدعها أعوانه في يده طرفة عين، على الصفة التي ذكرها النبي صلى الله عليه وسلم، في حديث البراء بن عازب.
وهذا ما يفسر لنا كيف يتم قبض آلاف الأرواح من إنس وجن ودواب في وقت واحد وفي أماكن متفرقة.
وأما قوله تعالى في سورة السجدة: (قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ)
فهذه الآية لها معنيان:
أن المراد بملك الموت هنا هو ملك الموت الرئيس، فالأعوان يتوفون الأنفس بأمر ملك الموت الرئيس، فكأن ملك الموت الرئيس هو من توفاها، لأنهم يصدرون عن أمره.
وقد يكون المراد بملك الموت هنا هو القائد الذي أوكل إليه ملك الموت الرئيس قبض روح المتوفى، فالآية كأن فيها تخصيص في قوله تعالى: (الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ)
وأما قول إبراهيم النخعي أن ملك الموت الرئيس يقبض الأرواح منهم، فهو على الأرجح وهم منه، إنما يقبضونها بأمره وإدارته وإشرافه، ثم يصعدون بها إلى السماء مباشرة، كما جاء في حديث البراء بن عازب.
والله وحده أعلم وأحكم.