القيامة الصغرى: حياة البرزخ

 الأخبار الواردة في مصير الروح بعد الموت وقبل النشور، فيها تعارض شديد، حاصل من أوهام الرواة، من جهة حال الميت بعد الفتنة، فبعضها يقول بأنه يبقى في قبره، ويوسع له فيه، ويفرش له خضرا، ويعرض عليه مقعده من الجنة أو النار، وبعضها يفيد أنه يؤمر أن ينام، ثم تؤخذ روحه فتوضع مع من يشاكلها من الأرواح، إن كان مؤمنا رفعت روحه إلى السماء مجددا ووضعت مع أرواح المؤمنين، وإن كانت كافرة أهبطت إلى جوف الأرض، أو ما يعبّر عنه بالأرض السفلى، وحشرت مع أرواح الكافرين.

والأسباب التي تجر إلى مثل هذا التعارض عديدة، فبعضهم ينسى جزءاً من الحديث، فيروي قطعة منه ويدع قطعة، ثم تجد أخر يروي القطعة التي نسيها الأول ويترك جزءاً من القطعة التي رواها الأول، ولربما لو كان أحد الرواة حفظ الخبر من أوله إلى أخره دون أن يسقط شيئا من الخبر لعرفنا ما يقع للميت في حياته البرزخية على وجهها الصحيح.

وأيضا من الأسباب التي تتسبب في تعارض الأخبار، أن بعض الرواة، ينقل الخبر بالمعنى الذي يظنه صحيحا، فيصيغ الخبر وفق ما فهمه هو، وقد يكون فهمه خاطئاً، فيصيغ الخبر بطريقة خاطئة، فهذا يصيغ الخبر وفق فهمه والأخر يصيغ الخبر وفق فهمه، وهكذا تتشكل لنا عدة روايات مختلفة متضاربة، تجعل من يأتي بعدهم في حيرة من أمره، لا يدري أيها الصحيح.

وقد روي في عذاب القبر أحاديث صحيحة ثابتة، فلا مناص من القول بأن الروح تحبس في القبر مع الجسد، ولا تنتقل إلى مكان أخر انتقالاً أبديا، لذلك سوف يتم تحقيق الأحاديث الواردة في حياة البرزخ، بناء على هذا الأصل.

عن البراء بن عازب، قال: خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم، في جنازة رجل من الأنصار، فانتهينا إلى القبر، ولما يلحد، فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجلسنا حوله، كأن على رؤوسنا الطير، وفي يده عود ينكت في الأرض، فرفع رأسه، فقال: استعيذوا بالله من عذاب القبر. مرتين أو ثلاثا، ثم قال: إن العبد المؤمن إذا كان في انقطاع من الدنيا وإقبال من الآخرة، نزل إليه ملائكة من السماء بيض الوجوه، كأن وجوههم الشمس، معهم كفن من أكفان الجنة، وحنوط من حنوط الجنة، حتى يجلسوا منه مد البصر، ثم يجيء ملك الموت، عليه السلام، حتى يجلس عند رأسه، فيقول: أيتها النفس الطيبة، اخرجي إلى مغفرة من الله ورضوان. قال: فتخرج تسيل كما تسيل القطرة من في السقاء، فيأخذها، فإذا أخذها لم يدعوها في يده طرفة عين حتى يأخذوها، فيجعلوها في ذلك الكفن، وفي ذلك الحنوط، ويخرج منها كأطيب نفحة مسك وجدت على وجه الأرض قال: فيصعدون بها، فلا يمرون، يعني بها، على ملإ من الملائكة، إلا قالوا: ما هذا الروح الطيب؟ فيقولون: فلان بن فلان، بأحسن أسمائه التي كانوا يسمونه بها في الدنيا، حتى ينتهوا بها إلى السماء الدنيا، فيستفتحون له، فيفتح لهم فيشيعه من كل سماء مقربوها إلى السماء التي تليها، حتى ينتهى به إلى السماء السابعة، فيقول الله عز وجل: اكتبوا كتاب عبدي في عليين، وأعيدوه إلى الأرض، فإني منها خلقتهم، وفيها أعيدهم، ومنها أخرجهم تارة أخرى. قال: فتعاد روحه في جسده، فيأتيه ملكان، فيجلسانه، فيقولان له: من ربك؟ فيقول: ربي الله، فيقولان له: ما دينك؟ فيقول: ديني الإسلام، فيقولان له: ما هذا الرجل الذي بعث فيكم؟ فيقول: هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيقولان له: وما علمك؟ فيقول: قرأت كتاب الله، فآمنت به وصدقت، فينادي مناد في السماء: أن صدق عبدي، فأفرشوه من الجنة، وألبسوه من الجنة، وافتحوا له بابا إلى الجنة. قال: فيأتيه من روحها، وطيبها، ويفسح له في قبره مد بصره. قال: ويأتيه رجل حسن الوجه، حسن الثياب، طيب الريح، فيقول: أبشر بالذي يسرك، هذا يومك الذي كنت توعد، فيقول له: من أنت؟ فوجهك الوجه يجيء بالخير، فيقول: أنا عملك الصالح، فيقول: رب أقم الساعة حتى أرجع إلى أهلي، ومالي. قال: وإن العبد الكافر إذا كان في انقطاع من الدنيا وإقبال من الآخرة، نزل إليه من السماء ملائكة سود الوجوه، معهم المسوح، فيجلسون منه مد البصر، ثم يجيء ملك الموت، حتى يجلس عند رأسه، فيقول: أيتها النفس الخبيثة، اخرجي إلى سخط من الله وغضب. قال: فتفرق في جسده، فينتزعها كما ينتزع السفود من الصوف المبلول، فيأخذها، فإذا أخذها لم يدعوها في يده طرفة عين حتى يجعلوها في تلك المسوح، ويخرج منها كأنتن ريح جيفة وجدت على وجه الأرض، فيصعدون بها، فلا يمرون بها على ملأ من الملائكة، إلا قالوا: ما هذا الروح الخبيث؟ فيقولون: فلان بن فلان بأقبح أسمائه التي كان يسمى بها في الدنيا، حتى ينتهى به إلى السماء الدنيا، فيستفتح له، فلا يفتح له، ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّىٰ يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ) [الأعراف] فيقول الله عز وجل: اكتبوا كتابه في سجين في الأرض السفلى، فتطرح روحه طرحا. ثم قرأ: (وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ) [الحج] فتعاد روحه في جسده، ويأتيه ملكان، فيجلسانه، فيقولان له: من ربك؟ فيقول: هاه هاه لا أدري، فيقولان له: ما دينك؟ فيقول: هاه هاه لا أدري، فيقولان له: ما هذا الرجل الذي بعث فيكم؟ فيقول: هاه هاه لا أدري، فينادي مناد من السماء أن كذب، فافرشوا له من النار، وافتحوا له بابا إلى النار، فيأتيه من حرها، وسمومها، ويضيق عليه قبره حتى تختلف فيه أضلاعه، ويأتيه رجل قبيح الوجه، قبيح الثياب، منتن الريح، فيقول: أبشر بالذي يسوءك، هذا يومك الذي كنت توعد، فيقول: من أنت؟ فوجهك الوجه يجيء بالشر، فيقول: أنا عملك الخبيث، فيقول: رب لا تقم الساعة.

رواه أحمد.

وفي رواية أخرى: ويأتيه آت قبيح الوجه، قبيح الثياب، منتن الريح فيقول: أبشر بهوان من الله، وعذاب مقيم، فيقول: وأنت، فبشرك الله بالشر من أنت؟ فيقول: أنا عملك الخبيث، كنت بطيئا عن طاعة الله، سريعا في معصية الله، فجزاك الله شرا، ثم يقيض له أعمى أصم أبكم في يده مرزبَّة، لو ضُرِب بها جبل كان ترابا، فيضربه ضربة حتى يصير ترابا، ثم يعيده الله كما كان، فيضربه ضربة أخرى، فيصيح صيحة يسمعه كل شيء إلا الثقلين، ثم يفتح له باب من النار ويمهد من فرش النار.

رواه أحمد.

 وقوله : "فيقول الله عز وجل: اكتبوا كتابه في سجين في الأرض السفلى" يتضح لي أنها من زيادات الرواة، كأن الراوي أراد أن يبين معنى سجين، فظن أنها جوف الأرض، فزاد من عنده قوله "الأرض السفلى" كبيان لمعنى سجين!

وهذا باطل، فقد قال الله تعالى في سورة المطففين: ( كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ كِتَابٌ مَّرْقُومٌ) وهذا موافق لما ورد في الحديث من أن الله تعالى قال: "أكتبوا كتاب عبدي في سجين" ولكن الخلاف بين الآية والحديث وقع بعد ذلك، فالآية فسّرت السجين بأنه كتاب يكتب فيه كُتُب أهل النار، بينما الحديث فسّر السجين بأنها "الأرض السفلى"!

وقد تأثر بهذا القول راوٍ أخر، كما في رواية النسائي التي سوف تأتي معنا، وزاد في الخبر من عنده، وصاغه بطريقة أخرى خاطئة أيضا.

ومتن حديث البراء لا مطعن فيه، كون ما ورد فيه له شواهد تقوية وتصححه من القرآن ومن الأحاديث الصحاح الأخرى، وإن لم ترد بالتفصيل الذي ورد في حديث البراء الذي رواه أحمد، ولكن الإشكال هو ما يزيده الراوي في الخبر، فنحن نحاول أن ننقي خبر البراء مما زيد فيه مما هو ليس من كلام رسول الله، وإنما هو من كلام أحد الرواة، زادوه اجتهادا منهم، وظنا منهم أنه حق، وهو ليس كذلك.

وعن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا قبر الميت، أو قال: أحدكم، أتاه ملكان أسودان أزرقان يقال لأحدهما المنكر والآخر النكير فيقولان: ما كنت تقول في هذا الرجل؟ فيقول: ما كان يقول هو عبد الله ورسوله أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله. فيقولان: قد كنا نعلم أنك تقول هذا. ثم يفسح له في قبره سبعون ذراعا في سبعين ذراعا ثم ينور له فيه، ثم يقال له: نم. فيقول أرجع إلى أهلي فأخبرهم. فيقولان: نم كنومة العروس الذي لا يوقظه إلا أحب أهله إليه حتى يبعثه الله من مضجعه ذلك. وإن كان منافقا قال: سمعت الناس يقولان شيئا فقلت مثله لا أدري. فيقولان: قد كنا نعلم أنك تقول ذلك. فيقال للأرض: التئمي عليه فتلتئم عليه حتى تختلف أضلاعه فلا يزال فيها معذبا حتى يبعثه الله من مضجعه".

رواه الترمذي.

والإشكال في هذا الخبر هو قوله: "ثم يقال له: نم. فيقول أرجع إلى أهلي فأخبرهم. فيقولان: نم كنومة العروس الذي لا يوقظه إلا أحب أهله إليه حتى يبعثه الله من مضجعه ذلك".

فكأن الميّت يحيى كحياته في الدنيا، وأن روحه ترد فعلا إلى جسده، وأنه يقوم بروحه وجسده وهو في القبر، فإذا فرغ من امتحانه، يموت مجدداً كما مات في الدنيا، وهذا القول مردود بنصّ القرآن العظيم.

فقد قال الله تعالى في سورة البقرة: (كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ۖ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ)

وقال تعالى في سورة غافر: (قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَىٰ خُرُوجٍ مِّن سَبِيلٍ)

فلم يذكر الله تبارك وتعالى للعباد سوى موتتين وحياتين، بينما لو أخذنا بما في هذا الحديث، لكان للعباد ثلاث موتات وثلاث حَيَوات، وهذا باطل.

والصواب: أن حياة البرزخ للعباد، تبدأ فور خروج الروح من جسد العبد عند موته، فكل ما يراه بعد ذلك، من ارتفاع إلى السماء ورجوع إلى القبر ثم تسجيتها على الأرض، ثم إقعادها، ثم فتنتها على يدي الملكين الكريمين، ثم إفساح القبر أو تضييقه حتى تختلف أضلاع الشخص، إنما هي أشبه بالمنامات، فهي مجرد شعور تشعر به الروح، وهي تعيش حياة البرزخ، ولكن هل يشعر به الجسد؟ 

والجواب: لا أحد يعلم الحقيقة، ولكن الحقيقة التي نعلمها، أن الجسد يبلى ولا يبقى منه سوى عجب الذنب، حتى لو لم يبقى منه كِسَر وفُتات، لذلك إن كان يشعر بشيء مما يقع على الروح، فهو شعور مؤقت، ينتهي بفناء الجسد، وقد يتَّصل الألم الجسدي بعجب الذنب.

ومما تجدر الإشارة إليه، أن اتصال الروح بالجسد في حياة البرزخ، اتصال غير كامل، وإلا لكان حيا كحياته في الدنيا، وهذا لا يكون، فاتصال الروح بجسدها في حياة البرزخ هو أشبه ما يكون باتصال الروح بجسدها أثناء النوم.

لذلك فقوله في حديث البراء: "فتعاد روحه إلى جسده" لا يعني به أنها تدخل في جسدها، وتحيا حياة كاملة، بل الصواب أنها تعاد إلى القبر الذي فيه جسده، أو إلى الموضع الذي فيه جسده، سواءً كان قبراً أو غير ذلك، وتضم إلى جسدها وتقرن به دون أن تدخل به.

فإن قيل: ماذا لو أن الميت ليس له قبر؟ ماذا لو مات في العراء وذُرِّي في الهواء؟ أو احترق وذُرِّي في الهواء؟

فالجواب: أن الروح تكون معلقة مع عجب الذنب، أينما يكون تكون، حتى لو كان مطموراً في التراب، ولو سلّمنا أن عظمة عجب الذنب تحطمت، فإن الروح تبقى معلقة مع الجزء الذي قدّر الله تعالى أن ينبت منه جسد الإنسان يوم القيامة.

لذلك فالروح تكون معلقة بعجب الذنب، أين ما يكون تكون، وتعيش حياتها البرزخية الخاصة بها، في نعيم أو جحيم، ويريها الله تعالى مقعدها من الجنة أو النار وهي في موضعها، سواء كانت مقبورة في قبر، أو مطمورة في التراب.

ولكن هل الإفساح أو التضييق في القبر حقيقي أم تخيّلي؟

والجواب: قد يكون هذا وقد يكون ذلك. فإن كان حقيقيا، فهو يقع على الروح، وربما يقع على الجسد دام أنه لم يبلى بعد.

وإن كنا لا نشعر بإفساح القبر أو تضييقه أو تنعم الجسد أو معاناته في عالمنا، فهذا لا يعني أنه لا يقع حقيقة، فعالمنا الدنيوي، محكوم بنظام معيّن، لا ينطبق على الوجود والموجودات في العالم الآخر.

وإن كان تخيّليا، فمعناه أنه يقع للروح دون الجسد، بحيث أن الروح تشعر بهذه المجريات، وتتحسسها، كما هو حال النائم، تجده ملتفاً في لحافه، وهو في نومه يتخيل أنه في صحراء مقفرة، أو في غابات مشتبكة، أو في مدينة عامرة، أو في قمقم ضيق.

فمثلا اختلاف أضلاع الكافر في قبره، قد تكون حقيقة لا ندركها بحواسّنا الدنيوية، وقد تكون مجرد تخيلات تظهر للروح، التي تظهر في ذلك الوقت بصورة جسدها الذي كانت تعيش فيه.

وعن أنس رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: العبد إذا وضع في قبره وتولي وذهب أصحابه، حتى إنه ليسمع قرع نعالهم، أتاه ملكان فأقعداه، فيقولان له: ما كنت تقول في هذا الرجل محمد صلى الله عليه وسلم؟ فيقول: أشهد أنه عبد الله ورسوله، فيقال: انظر إلى مقعدك في النار، أبدلك الله به مقعدا من الجنة. قال النبي صلى الله عليه وسلم: فيراهما جميعا، وأما الكافر، أو المنافق: فيقول: لا أدري، كنت أقول ما يقول الناس. فيقال: لا دريت ولا تليت، ثم يضرب بمطرقة من حديد ضربة بين أذنيه، فيصيح صيحة يسمعها من يليه إلا الثقلين.

رواه البخاري ومسلم.

وقال قتادة: وذكر لنا أنه يفسح له في قبره سبعون ذراعا، ويُملأ عليه خضرا إلى يوم يبعثون.

رواه مسلم.

ورواه البخاري عن قتادة، من دون قوله: "ويملأ عليه خضرا إلى يوم يبعثون".

وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إن أحدكم إذا مات، عرض عليه مقعده بالغداة والعشي، إن كان من أهل الجنة فمن أهل الجنة، وإن كان من أهل النار فمن أهل النار، فيقال: هذا مقعدك حتى يبعثك الله يوم القيامة.

رواه البخاري ومسلم.

وعن أبي هريرة، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا خرجت روح المؤمن تلقاها ملكان يصعدانها". قال حماد -وهو أحد رواة الحديث- : فذكر من طيب ريحها، وذكر المسك. قال: "ويقول أهل السماء: روح طيبة جاءت من قبل الأرض. صلى الله عليك وعلى جسد كنت تعمرينه. فينطلق به إلى ربه عز وجل. ثم يقول: انطلقوا به إلى آخر الأجل. قال: وإن الكافر إذا خرجت روحه". قال حماد: وذكر من نتنها، وذكر لعنا، "ويقول أهل السماء: روح خبيثة جاءت من قبل الأرض. قال: فيقال: انطلقوا به إلى آخر الأجل". قال أبو هريرة: فرد رسول الله صلى الله عليه وسلم ريطة، كانت عليه، على أنفه، هكذا.

رواه مسلم.

وعن أبي هريرة، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا حضر المؤمن أتته ملائكة الرحمة بحريرة بيضاء فيقولون: اخرجي راضية مرضيا عنك إلى روح الله، وريحان، ورب غير غضبان، فتخرج كأطيب ريح المسك، حتى أنه ليناوله بعضهم بعضا، حتى يأتون به باب السماء فيقولون: ما أطيب هذه الريح التي جاءتكم من الأرض، فيأتون به أرواح المؤمنين فلهم أشد فرحا به من أحدكم بغائبه يقدم عليه، فيسألونه: ماذا فعل فلان؟ ماذا فعل فلان؟ فيقولون: دعوه فإنه كان في غم الدنيا، فإذا قال: أما أتاكم؟ قالوا: ذهب به إلى أمه الهاوية، وإن الكافر إذا احتضر أتته ملائكة العذاب بمسح فيقولون: اخرجي ساخطة مسخوطا عليك إلى عذاب الله عز وجل، فتخرج كأنتن ريح جيفة، حتى يأتون به باب الأرض، فيقولون: ما أنتن هذه الريح حتى يأتون به أرواح الكفار".

رواه النسائي.

وقوله: "حتى يأتون به باب الأرض، فيقولون: ما أنتن هذه الروح، حتى يأتون به أرواح الكفار" قوله في نظر، فالذي يظهر من الأخبار الواردة في نعيم القبر وعذابه، أن الأرواح تحبس مع الأجساد، لذلك فهذه الجملة على الأرجح أنها من زيادات الرواة، وكأن أحد الرواة في هذا الخبر تأثر ببعض الرواة الذين يزعمون أن أرواح الكفار تحشر في باطن الأرض، أو ما يسميه بعضهم: الأرض السفلى. فزاد في الخبر من عنده للتبين، بحسب فهمه.

وهذا شبيه بالأخبار المرويّة في بئر برهوت، وأنها بئر تحشر فيها أرواح الكفار، فهذه أخبار مصنوعة، ملفقة موضوعة، وسوف يأتي الحديث عن بئر برهوت في موضعه إن شاء الله تعالى.

وأوراح المؤمنين إنما تجتمع مع بعضها كرامة لها وليؤانس بعضها بعضا، وأرواح الكفار لأي شيء تجمع! إلا أن نقول أنها تجمع كما تجتمع أرواح المؤمنين، ليلعن بعضها بعضا ويشتم بعضها بعضا، ويزدادون بذلك حسرة وندامة!

وعن أبي أيوب الأنصاري، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن نفس المؤمن إذا قبضت تلقاها من أهل الرحمة من عباد الله كما تلقون البشير في الدنيا، فيقولون: انظروا صاحبكم يستريح، فإنه قد كان في كرب شديد، ثم يسألونه ماذا فعل فلان؟ وما فعلت فلانة؟ هل تزوجت؟ فإذا سألوه عن الرجل قد مات قبله، فيقول: أيهات قد مات ذاك قبلي، فيقولون: إنا لله وإنا إليه راجعون، ذهبت به إلى أمه الهاوية، فبئست الأم وبئست المربية، قال: وإن أعمالكم تعرض على أقاربكم وعشائركم من أهل الآخرة، فإن كان خيراً فرحوا واستبشروا، وقالوا: اللهم هذا فضلك ورحمتك فأتمم نعمتك عليه، وأمته عليها ويعرض عليهم عمل المسيء، فيقولون: اللهم ألهمه عملاً صالحاً ترضى به عنه وتقربه إليك؟".

رواه الطبراني مرفوعا بسند ضعيف، ورواه عبدالله بن المبارك في الزهد موقوفا بسند صحيح.

واجتماع أرواح المؤمنين في مكان واحد، حق لا باطل فيه، ولكنه اجتماع مؤقت، وليس دائم، فلهم يوم يجتمعون فيه إلى معارفهم، فيتزاورون ويتحادثون، ويستقبلون أرواح الموتى من أهليهم إذا قدموا عليهم، ويسألونهم عما جرى بعدهم في الدنيا.

وهناك رأي أخر: حيث يرى بعض العلماء، أن الروح قد تكون في مكانين أو أكثر، فهي في قبرها وفي نفس الوقت مجموعة مع الأرواح الأخرى في مكان واحد، فإن كانت مؤمنة فهي فوق في السماوات في موضع أعده الله لها، وإن كانت كافرة، فهي محشورة في أسفل الأرض، وبين الروح وهي في قبرها وفي مكانها حيث مجتمع الأرواح اتصال من نوع ما، ربما يكون شبيه باتصال أشعة الشمس وضوء القمر، والله وحده أعلم بالصواب.

وأما أرواح الشهداء، فلها قصة أخرى أيضا:

فقد سأل مسروق عبد الله بن مسعود عن قوله تعالى في سورة آل عمران: (وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا ۚ بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ) فقال: إنا قد سألنا عن ذلك، فقال: أرواحهم في أجواف طير خضر، لها قناديل معلقة بالعرش، تسرح من الجنة حيث شاءت، ثم تأوي إلى تلك القناديل.

رواه مسلم.

وعند أحمد: نسمة المسلم، وهو فيما يظهر، وهم من الراوي، والصواب أن هذا خاصٌّ بالشهداء، دون غيرهم من المسلمين.

وعن عبدالله بن عباس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لما أصيب إخوانكم بأحد، جعل الله عز وجل أرواحهم في أجواف طير خضر ترد أنهار الجنة، تأكل من ثمارها، وتأوي إلى قناديل من ذهب في ظل العرش، فلما وجدوا طيب مشربهم ومأكلهم، وحسن مقيلهم قالوا: يا ليت إخواننا يعلمون بما صنع الله لنا، لئلا يزهدوا في الجهاد، ولا ينكلوا عن الحرب، فقال الله عز وجل: أنا أبلغهم عنكم  فأنزل الله عز وجل هؤلاء الآيات على رسوله: (وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا) .. الآية.

رواه أحمد وأبو داود.

فهذا حديث صحيح، عن مآل أرواح الشهداء، وهي تفيد أن أرواح الشهداء، ليست في قبورها، بل حواصل طير خضر، تسرح من الجنة حيث تشاء، وتأوي إلى قناديل معلقة بعرش الرحمن عز وجل.

وهذا الحديث، أحد الشواهد التي جعلتني أرفض قول من يقول بأن الروح قد تكون في مكانين في وقت واحد، فهذه أرواح الشهداء ليست في قبرها كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن باقي أرواح المؤمنين، ولا تفتن بواسطة منكر ونكير كما تفتن باقي أرواح المؤمنين، فلو كانت الروح توضع في مكانين في وقت واحد، لكانت روح الشهيد في قبرها وفي نفس الوقت في حواصل الطير الخضر، وهذا ما ينفيه الحديث أعلاه، فالحديث قال بأنها في حواصل طير خضر، وليست في مكانين!

وقد روي عن عبدالله بن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الشهداء على بارق، نهر بباب الجنة، في قبة خضراء، يخرج عليهم رزقهم من الجنة بكرة وعشيا".

رواه أحمد.

إلا أن سنده على أحسن الأحوال حسن.

فكأن الشهداء عند الله على درجتين: درجة تكون أرواحهم في حواصل طير خضر تسرح من الجنّة حيث شاءت وتأوي إلى قناديل معلقة بالعرش، ودرجة تكون أرواحهم على نهر بارق، على باب الجنّة، في قبة خضراء، يأتيهم رزقهم منها بكرة وعشيا.

أو أن حديث ابن عباس عن نهر بارق وقع وهما من الرواة، ثم تناقله الرواة بعد ذلك.

وأرواح الشهداء تجتمع مع باقي أرواح المؤمنين، في الموضع الذي أعده الله سبحانه وتعالى لاجتماع أرواح المؤمنين، فإذا تفرقوا، رجعت أرواح الشهداء إلى حواصلها، ورجعت أرواح البقية إلى قبورها.

فهذه هي قصة الروح منذ أن تخرج من الجسد وحتى تعاد إليه يوم القيامة للحساب.

وأما الجسد فهو الآخر له قصة أخرى، فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "إذا وضعت الجنازة، فاحتملها الرجال على أعناقهم، فإن كانت صالحة قالت: قدموني، وإن كانت غير صالحة قالت لأهلها: يا ويلها، أين يذهبون بها، يسمع صوتها كل شيء إلا الإنسان، ولو سمع الإنسان لصعق".

رواه البخاري.

فإن قيل: كيف ينطق الجسد وهو جثة لا روح فيها؟ فالجواب: أن الله هو من ينطقه وينطق كل شيء، أليس الله تعالى يوم القيامة، ينطق اللسان واليد والرجل والجلد بما فعل صاحبه! فكذلك الله ينطق الجسد وإن كان بلا روح.

والله وحده أعلم وأحكم.

وأنا إنما استنتج بناء على ما ورد في كتاب الله وسنة نبيه، وأجتهد في ذلك، فإن أصبت فمن الله وحده، وإن أخطأت فمن نفسني والشيطان، وأستغفر الله وأتوب إليه.