أدعى قصاص اليهود في كتبهم، أن نوحاً عليه السلام بعد الطوفان، انتقل من الموضع الذي استقرت فيه سفينته إلى العراق، حيث كان أوّل من أسّس مدينة بابل، وأن المدينة سمّيت بابل، لأن نوحاً أصبح ذات يوم وقد تبلبلت ألسنة المؤمنين، كل يتكلم بلغة لا يفهمها الأخر، بينما علّم الله نوحاً جميع اللغات، فكان نوح يترجم بينهم!
وهذه القصّة موضوعة، إنما أراد بها واضعها، أن يعلّل سبب تسمية بابل بهذا الاسم، فاختلق هذه القصة! وأوجد تعليلاً لا يقل سخفاً لتنوع اللهجات واللغات.
والحقيقة أن الأنبياء، لا يختارون إلا ما اختاره الله لهم، وبما أن الله تعالى أرسى السفينة على جبل الجودي - بنص القرآن الكريم - فما كان نوح عليه السلام، ليستبدل تلك الأرض التي اختارها الله له بأرض أخرى.
قال تعالى: ﴿وَقُل رَّبِّ أَنزِلْنِي مُنزَلًا مُّبَارَكًا وَأَنتَ خَيْرُ الْمُنزِلِينَ﴾ [المؤمنون]
فلما دعا نوح بتلك الدعوات التي أمره الله بها، أنزله بسفح جبل الجودي، دلّ هذا على أن ذلك الموضع، هو المنزل المبارك الذي اختاره الله لنوح، فكيف سوف يستبدل نوح تلك الأرض بغيرها!
فتبيّن بذلك، أن دعوى أن نوحاً انتقل إلى العراق وأسّس بها مدينة بابل، كذب محضّ، وهو من وضع القصاص.
فكيف نشأت اللغات إذاً؟
الجواب: أن اللغات تنشأ تدريجياً، بحيث أنه يظهر في الشعب من يخفف نطق حرف ينطقه أبناء شعبه ثقيلاً، أو يثقل نطق حرف ينطقه أبناء شعبه خفيفاً، هذا الحرف مع مرور الوقت يتحول إلى لفظ حرف أخر: مثل الذال والضاء أو الدال والطاء، أي حرفين متقاربين في المخرج يستبدل به، فيتغير في الكلمة حرف، ثم يتغير حرف أخر في جيل أخر، وهكذا كل زمن يتغير حرف حتى تستحيل الكلمة إلى كلمة أخرى، ومع تعدد تغير الكلمات تتغير الجمل والعبارات، فتنشأ لغة أخرى، وينشأ شعب يتكلم بلغة لا يتكلم بها الشعب الأم، ومع تعدد نشوء اللغات تنشأ شعوب لا يتكلم بعضها بلغة بعض.
فقوم نوح كثروا وتفرقوا، وكل طائفة أخذت تغير في نطق أحرف كلماتها، والسبب في ذلك، يعود إلى الطبيعة التي يعيش فيها البشر، وإلى نوع الغذاء الذي يتناولونه، مما يحدث تغييراً في أصواتهم، وطريقة نطقهم للحروف، ترقيقاً أو تفخيماً، وجيلاً بعد جيلاً إذ بنا نجد عدة شعوب بعضها لا يتكلم بلسان بعض، وهذه التغيرات لا تحدث في يوم وليلة ولا في أسبوع ولا في شهر ولا في سنة ولا في عشرات السنين بل تحدث في مئات السنين.
وبعد أن كثرت اللغات واحتكت الشعوب بعضها ببعض صار تغير ونشوء لغات جديدة أسهل منه من ذي قبل، لأن عوامل تغير اللغات ونشأتها ازداد باحتكاك الشعوب المختلفة في لغاتها ببعض، فيأخذون من الشعوب الأخرى تفخيم حرف أو تخفيفه، ويقتبسون من كلماتهم، وينطقون الكلمات التي استعاروها من الشعوب الأخرى بطريقتهم في نطق الأحرف، تخفيفا وتفخيما، فتتولد كلمة مشابهة لكلمة الشعب المجاور، مع بعض التغيرات، ومع مرور الزمن تتحول إلى كلمة أخرى، وهكذا.
وأما ما روي من أن الله سبحانه علَّم آدم أسماء جميع المخلوقات بجميع اللغات: العربية والفارسية والسريانية والعبرية والرومية، وغير ذلك من سائر اللغات، فكان آدم وولده يتكلمون بها، ثم إن ولده تفرقوا في الدنيا، وعلق كل منهم بلغة من تلك اللغات، فغلبت عليه واضمحل عنه ما سواها، لبعد عهدهم بها.
فهذه من أوضاع القصّاص، وتأليفاتهم، إذ لو سلَّمنا بصحة ذلك، وهو ليس بصحيح، فإن الله تعالى زمن نوح عليه السلام، أهلك جميع بني آدم، فلم يبقى سوى نوح والمؤمنون من قومه، وهم على لغة واحدة، فلا فائدة عندئذٍ من تعليم آدم عليه السلام جميع اللغات.
والصواب أن اللغات إنما نشأت بعد طوفان نوح عليه السلام، وليس قبله، على ما ذكرت آنفاً.
والله أعلم وأحكم.