بيان حقيقة الكتب التي تدعى التوراة والإنجيل

بما أن يحيى وزكريا أدركا عيسى عليه السلام، فهذا يدل دلالة قطعية، على أن توراة موسى كانت محفوظة إلى ذلك الوقت، بنصّها الذي أنزله الله تعالى، بل إن الأدلة الشرعية، تفيد بأن نصّ التوراة والإنجيل، كان محفوظاً إلى زمن النبي محمد صلى الله عليه وسلم. 

وهذا ما أشار إليه القرآن في قوله تعالى في سورة الأعراف: (ٱلَّذِینَ یَتَّبِعُونَ ٱلرَّسُولَ ٱلنَّبِیَّ ٱلْأُمِّیَّ ٱلَّذِی یَجِدُونَهُۥ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِی ٱلتَّوْرَىٰةِ وَٱلْإِنجِیلِ) وقوله تعالى في سورة الصف: (وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُم مُّصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُم بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَٰذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ) وهذا يعني، أن التوراة والإنجيل التي كانت بحوزة أحبار اليهود ورهبان النصارى، كانت متضمِّنَة البشارة بمبعث النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا يعني، أن التوراة والإنجيل، كانت محفوظة إلى زمن النبي صلى الله عليه وسلم عند أحبار اليهود ورهبان النصارى، ولذلك احتج الله تبارك وتعالى عليهم، بما ورد فيهما، من البِشَارة بمبعث النبي محمد صلى الله عليه وسلم. 

ولكن النسخ الأصليّة منها فقدت تماماً بعد زمن النبي محمد صلى الله عليه وسلم، بمعنى أن الله تعالى رفعها، وسلَّط عليها ما يتلفها ويمحوها. 

وذلك أن أهل البدع من اليهود والنصارى، استبدلوا التوراة والإنجيل بكتب يضعونها، يحرّفون فيها كلام الله تعالى وكلام أنبياءه: موسى وعيسى عليهما السلام، ظانين أن ما يقومون به عمل حسن، فأقبل تلامذتهم على نسخ تلك الكتب، وأعرضوا عن تجديد نسخ التوراة والإنجيل، ذلك أن علمائهم كانوا ينهونهم عن قراء التوراة والإنجيل، بزعمهم أن كتب الله المنزلة على أنبيائه لا يمكن فهمها إلا من خلال تفاسيرهم وشروحاتهم، حتى لم يتبقى منها سوى نسخ قلائل، وهذه النسخ، كانت محفوظة عند كبار أحبار اليهود، وكبار رهبان النصارى، إلى زمن النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وهي التي احتج الله تبارك وتعالى بما فيها على أحبار اليهود ورهبان النصارى، وبما أن هذه النسخ كانت قلائل، ولا أحد يهتم بنسخها، فقد اهترأت وتمزّقت، ولم يبقى سوى تلك الكتب التي ألفها أحبار اليهود ورهبان النصارى في تاريخ اليهود وسير أنبياء بني إسرائيل، مع ما اضافوه إلى تلك الكتب، من شرائع نقلوها عن التوراة والإنجيل، ممزوجة بشرائع أحدثوها من تلقاء أنفسهم، فلما فقدت التوراة والإنجيل، ظن علماء اليهود والنصارى مما لم يعلم بوجود تلك النسخ، أن هذه الكتب المحدثة، هي التوراة والإنجيل، وليست هي.

فأما الكتاب الذي يزعمون أنه التوراة، فقد ألف في أزمنة متفرّقة، حيث تشتمل أسفار الكتاب الذي يدعى اليوم بالتوراة، على سِتٍّ وأربعين سِفراً هي: سفر التكوين وسفر الخروج وسفر اللاويين وسفر العدد وسفر التثنية وسفر يشوع (يوشع) وسفر القضاة وسفر راعوث وسفر صموئيل الأول وسفر صموئيل الثاني وسفر الملوك الأول وسفر الملوك الثاني وسفر أخبار الأيام الأول وسفر أخبار الأيام الثاني وسفر عزرا وسفر نحميا وسفر طوبيا (طوبيت) وسفر أستير وسفر المكابيين الأول وسفر المكابيين الثاني وسفر أيوب وسفر المزامير وسفر الأمثال وسفر الجامعة وسفر نشيد الأنشاد وسفر الحكمة وسفر يشوع بن سيراخ وسفر إشعيا وسفر إرميا وسفر مراثي إرميا وسفر باروخ وسفر حزقيال وسفر دانيال وسفر هوشع (يوشع) وسفر يوئيل وسفر عاموس وسفر عوبديا وسفر يونان وسفر ميخا وسفر ناحوم وسفر حبقوق وسفر صفنيا وسفر حجي وسفر زكريا وسفر ملاخي.

فالأسفار الخمسة الأولى، كتبت بعد وفاة موسى عليه السلام، بدليل أنها ذكرت وفاة موسى عليه السلام، وهذا دليل كافٍ على أن هذه الأسفار، لا علاقة لها بتوراة موسى، وإنما هي كتاب تاريخي، إذ كيف يدوّن موسى واقعة موته؟! هذا لا يكون، إلا أن يكون كاتب هذه الأسفار، كان حيّاً بعد وفاة موسى.

وأما بقيَّة الأسفار، فكُتِبت في أزمنةٍ متفرِّقة، في كل زمن، يقوم رواة اليهود، بتدوين فترة زمنيَّة من تاريخهم، ويؤلفون بها سِفراً جديداً.

وكان أخر سِفرٍ تمّ تأليفه، هو سِفر أستير، وقد كتب في زمن الملك خشايارشا الأول، والذي قدر أنه تولى الحكم سنة خمس وثمانون وأربعمائة قبل ميلاد النبي عيسى عليه السلام، وتوفي حدود سنة خمس وستين وأربعمائة قبل الميلاد، كون أسفار الكتاب المقدس، انتهى تقييدها في زمن خشايارشا، ولم يمت بعد. 

وأما سِفر المكابيين الأول والثاني، فقد كتب بعد ذلك بزمن طويل، حيث شرع في ذكر بداية حكم الأسرة المكابية لليهود، وانتهى عند خبر هزيمة يهوذا المكابي، لجيوش الدولة الرومانية، التي بعثها ملك الرومان ديميتريوس الأول بن سَلوقَس، والذي قدَّر أنه حكم بين عامي خمس وثمانين ومائة قبل ميلاد عيسى عليه السلام، وإلى سنة خمسين ومائة قبل الميلاد.

وبما أن الملك الفارسي خشايارشا توفي سنة خمس وستين وأربعمائة قبل الميلاد، بينما سفر المكابيين الأول والثاني، يغطي المدة التاريخية التقريبية، من خمس وسبعين ومائة قبل ميلاد النبي عيسى عليه السلام، إلى سنة أربع وثلاثين ومائة قبل الميلاد، فهذا يعني أن هناك فجوة تاريخية كبيرة جداً، بين سفر أستير، وسفر المكابيين الأول والثاني، تقدر بثلاثمائة سنة وعشر سنوات، تعتبر فترة مجهولة في التاريخ اليهودي.

ويظهر أنه لم يأتي مؤرخ أخر، ليكمل تاريخ اليهود، بعد يهوذا المكابي، ويجعله سفراً من أسفار الكتاب الذي يدعى بالتوراة، إلا أن مؤرخ اليهود، يوسف بن غريون، قد أكمل هذا التاريخ إلى زمن بعثة النبي عيسى عليه السلام، وما بعده بيسير، ليقف التاريخ اليهودي هناك، لكن كتاباته لم تُعدّ سفراً من أسفار الكتاب الذي يدعونه التوراة. 

ثم إن طريقة تأليف هذا الكتاب، الذي يدعونه بالتوراة، شبيهة بدرجة كبيرة، بالطريقة التي تتم بها تأليف كتب التواريخ، حيث أن كتب التاريخ، تؤلف على ترتيب السنين، الأسبق فالأسبق.

وأما سيرة عيسى بن مريم عليهما السلام، والتي تقدم على أنها الأناجيل الخمسة: متى ومرقس ولوقا ويوحنا وبرنابا، فيظهر أنها دوّنت بعد وفاة عيسى بعقود طويلة، ونُسِبت إلى هؤلاء الخمسة من أصحاب عيسى زوراً وبهتاناً، ولا أدل على ذلك، من أن قصة ميلاد عيسى في جميع هذه الأسفار، مخالف تماماً لما ورد في القرآن الكريم.

وكتب الله تعالى المنزلة، ليست كتب تواريخ وسِيَر وأنساب، بل هي كُتُب مواعظ، ووعد ووعيد، وأوامر ونواهي، ولا تذكر من قصص الماضين، إلا ما فيه موعظة وعِبرة.

وهذه الكتب التي تُقدم على أنها التوراة والإنجيل، ليس كل ما فيها باطل وكذب، ولكن الأباطيل والأكاذيب فيها كثيرة جداً، لدرجة أنك تعاني وأنت تحاول أن تنتقي منها ما قد يكون صحيحا.

وأما الصابئة، فقد استبدلوا توراة موسى وإنجيل عيسى، بكتاب وضعه لهم كبارهم بالعراق، اسموه بالآراميَّة: الكِنْز رَبَّا، ومعناه بالعربيَّة: الكنز الرابي، أي: الكنز العظيم. وهذا الكتاب، يدّعي الصابئة أن الله تعالى أنزله على نبيِّه يحيى بن زكريّا عليهما السلام، وهذا قول باطل، لأن يحيى لم يُنزل عليه كتاب، بل كان يؤمر بالعمل بما في التوراة، ما لم ينزل شيء من الإنجيل، يخالف حكمه حكم التوراة فإنه مأمور في هذه الحالة، بأن يأخذ بما في الإنجيل، ويدع ما في التوراة. 

والدليل على أن الكنز رّبَّا ليس كتاباً سماوياً ولا أُنزل على يحيى، هو كثرة الأخطاء التاريخية فيه، بما يخصّ بدء الخلق ونشأة الكون، وزيادة على ذلك، فقد وردت فيه جملة، تفيد أن هذا الكتاب لم يُصنَّف إلا بعد انتقال الصابئة إلى العراق.

فقد ورد فيه ما نصّه: "يا آدم، لقد أرسلني إليك الحيّ العظيم، لتصعد حيث أبوك يقيم، أعول آدم وبكى، وناح وشكا، وقال للمخلص الذي أتى، يا أبتا، إن أتيت معك، فدنياي من سائسها؟ وزوجتي من يؤانسها؟ وأغراسي التي أنا غارسها من حارسها؟ من يمد إليهم يدا؟ ويكون لهم سندا؟ من يبذر البذور المباركات؟ من يحمل الماء من دجلة والفرات؟ من يعين التي تلِد؟ من يلاقي الذي يفد؟" اهـ

إن قوله: "من يحمل الماء من دجلة والفرات" يفيد أن كاتبه كان يعيش على شواطئ دجلة والفرات، بينما كان يحيى بن زكريا يعيش في القدس، وهذا ما نصّ عليه رواة اليهود والنصارى، والصابئة يوافقونهم على ذلك، حيث زعموا أنه كان يعمّد الناس في نهر الأردن، وقد كان بالقرب من بلاده من الأنهار العظيمة وهي: الأردن والعاصي، ما يغنيه بالإشارة إليهما عن أن يشير إلى نهري دجلة والفرات، اللذين قد يكون يحيى مات ولم يرهما، أو سوف يشير إلى نهري النيل والفرات، كونهما نهران مقدّسان في الإسلام.

والله أعلم وأحكم.