عبث الرواة بالتاريخ الإسلامي

الرواة جمع راوٍ، وهو الذي يروي الأخبار التاريخية وما فيها من قصص وحكايات، ولذلك يسمى أيضاً: القاصّ، وجمعها: قُصَّاص، أو حكواتي، وجمعها: حكواتيَّه.

وقد كان للرواة دور بارز في العبث بتاريخ المسلمين، فيما يخص بدء الخلق ونشأة الكون وسير الأنبياء وعلامات الساعة والقيامة الصغرى والقيامة الكبرى، وهذا له عدّة أسباب:

أولها: كون الراوي بشر، فقد ينسى أو يهم أو يخطئ، في إيراد خبر من الأخبار، فيرويه كما يظن أنه قد سمعه، في حين أن ما سمعه لم يكن كما رواه، وهذا الصنف من الرواة معذور؛ لأنه لم يتعمد الكذب أو التزوير.

وثانيها: الأهواء الشخصيّة، فقد يكون للراوي هوا معيّن، ويكون الخبر على غير ما يريد، فيقوم بصياغته بطريقة تجعل الخبر متفقاً مع هواه، فينتشر بين طوائف من الناس على غير حقيقته، أو يقوم بتأليف أخبار مكذوبة وينحلها إلى أشخاص أو قبيلة أو مدينة أو دولة، ليرفع من شأنهم أو ليضع منه، وفق ما يهواه هذا الراوي ويشتهيه.

وثالثها: الأطماع الماديّة، فقد كان كثيرٌ من الرواة يتكسّب بالرواية، فينفذ مخزونه من الأخبار الحقيقيّة الصحيحة، فيضطر إلى تأليف أخبار مكذوبة ونسج قصص وهميّة وينحلها شخصيّاتٍ حقيقية، كي لا يقف المدّ المادّي عن الاستمرار في العطاء.

ولذلك فإن الناقد التاريخي الحصيف، لا يمكن أن يقبل أي خبر تاريخي إلّا بعد التثبت من صحته، وذلك من خلال مقارنته بغيره من الروايات، وعرضه على الحقائق التاريخية التي ثبتت بالأدلة اليقينية، وأن يهتم بسند الرواية التي نقلت له هذا الخبر، إضافة إلى التفطن إلى المدة الفاصلة بين راوي الخبر، وبين الخبر الذي يرويه، إذ لا يعقل أن تقبل رواية؛ سواء كانت هذه الرواية مكتوبة أو مسموعة، من شخص يفصل بينه وبين الحدث مئات السنين إن لم تكن ألوف السنين، دون أن يسند هذا الخبر إلى راو عاصر الحدث أو عاش في زمن قريب من الحدث، ثم نتساءل ونقول: من نقل له ذلك؟!

وبعيداً عن الكتب التي عرف عنها أنها كتب أسطورية، إلا أنه ومع الأسف أن أبرز كتب التاريخ الإسلامي فيها الكثير من الأخبار الموضوعة والأساطير المكذوبة، وذلك يرجع إلى غفلة أولئك المؤرخين، وتساهلهم في نقل الأخبار عن كل من هبّ ودبّ، دون تثبت أو تمحيص لتلك الروايات، حتى أصبحت الكتب التاريخية مجالاً رحباً للتندر والسخرية، وعدم ثقة القراء بما فيها من أخبار.

ونحن لا نلوم القراء حقيقة، بل نلوم من نقل تلك الأخبار، وخلط الحقائق التاريخية بالأخبار الموضوعة والأساطير المكذوبة، إذ كان يجب على أولئك المؤرخين أن لا ينقلوا خبراً إلا بعد التثبت منه.

وحتى نتفادى تلك الأكاذيب، يجب علينا أن نقتصر في تلقي معلوماتنا التاريخية الإسلامية، على القرآن العظيم، وما صحّ من الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة والتابعين.

لذلك فنحن في حاجة ماسّة جدّاً إلى غربلة كتب التاريخ الإسلامي، وتصفيتها من الأخبار الموضوعة والأساطير المكذوبة، حتى يقرأ المسلم تاريخه الإسلامي، نقيّاً من هذه الشوائب التي أفسدت علينا تاريخنا وتراثنا، وهذا ما حاولت أن أقوم به في هذا الكتاب.

مقدمة

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله.

قال تعالى في سورة آل عمران: (يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ ولا تَمُوتُنَّ إلّا وأنْتُمْ مُسْلِمُونَ).

وقال تعالى في سورة النساء: (يا أيُّها النّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِن نَفْسٍ واحِدَةٍ وخَلَقَ مِنها زَوْجَها وبَثَّ مِنهُما رِجالًا كَثِيرًا ونِساءً واتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَساءَلُونَ بِهِ والأرْحامَ إنَّ اللَّهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا).

وقال تعالى في سورة الأحزاب: (يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا، يُصْلِحْ لَكُمْ أعْمالَكُمْ ويَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ ومَن يُطِعِ اللَّهَ ورَسُولَهُ فَقَدْ فازَ فَوْزًا عَظِيمًا). 

أما بعد.

فإن هذا الكتاب فريد من نوعه، عزيز في فنّه، لا أظن صُنّف في بابه مثله، لا قبله ولا بعده، حيث انفرد بذكر أبواب وفصول لم يتطرق لها أحد من قبله، واحتوى على إشارات وتنبيهات لم يُشِر إليها ولم ينتبه لها من كَتَب في التاريخ والسِيَر، أو انتبهوا لها واعرضوا عنها اتباعا للأهواء، ورفضا للحقائق التي يرونها بأعينهم، تقليدا للمشايخ، أو خوفا من المُلامة وكساد السِلعة، حيث كان تصنيف الكتب سِلعة عند كثير من الكتاب، يبتغون بها المكاسب، وينالون بها الجاه والشرف، فلم يكونوا ليتطرقوا لما قد يكون سببا في كساد سلعتهم وسقوط جاههم وشرفهم، فإن الدنيا عند أكثر الناس عزيزة.

وقد كان بإمكاني، أن أورد لكم كل ما قيل في هذا التاريخ، بما في ذلك الأساطير التي ألّفها القصاص، والذين اعتادوا مزج الحقيقة بالأساطير، ليتحصلوا بذلك على منفعة من المنافع، سواء كانت مالا أو جاها، وأعطي لكتابي المزيد من التشويق والإثارة، إلا أنني آثرت ألا أكتب لك في هذا الكتاب سوى الحقيقة، حتى يتمكن القارئ أن يعيش تفاصيل الأحداث ويتصورها على حقيقتها التي كانت عليها.

والسبب الذي دفعني إلى ذلك، هو ما قام به القصاص والمؤرخون، من إفساد التاريخ الإسلامي، بتلك القصص الملفقة الموضوعة، التي حشو بها كتبهم، بل تمادى الحال إلى إيراد قصص تسيء إلى الأنبياء، وقد كان يكفي في بيان كذب تلك القصص، بطلان أسانيدها، ولكن ومع الأسف، ظل قصاص المسلمين ومؤرخوهم، يروون تلك القصص ويشيعونها بين الناس، وكأنها حقائق تاريخية، ليسوقوا بذلك لأنفسهم وكتبهم!

فرأيت أنه من الواجب، أن أقوم بتأليف كتابا يتفادى تلك الأخطاء، كتاب يروي قصة بدء الخلق ونشأة الكون وسير الأنبياء وعلامات الساعة وأهوال يوم القيامة وصفات المخلوقات الغيبية، نقيّة من الشوائب والأكاذيب التي زادها القصّاص، كي يقرأ القارئ التاريخ الإسلامي بهيئته الحقيقيّة.

لذلك فقد قمت بجمع الآيات والأحاديث التي وردت في تاريخ بدء الخلق ونشأة الكون وسير الأنبياء وعلامات الساعة واليوم الآخر والجنّة والنّار، ثم تنقية الأحاديث من كل حديث باطل، سواء كان سبب بطلانه علة في سنده أم علة في متنه، وقمت بتنقيتها من كل أسطورة مكذوبة، وبعض الأخبار يكون أصلها صحيح، ولكن القصاص يضيفون إليها شيئا من أساطيرهم، فأروي الخبر، وأُسقِط ما زاده أولئك القصّاص.

أما الأحاديث المرفوعة التي في أسانيدها ضعف، وما روي عن الصحابة والتابعين، مما لم يرفع إلى النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وأيضا ما رواه أهل الكتاب من اليهود والصابئة والنصارى، في كتبهم، فلم أأخُذ منها إلا ما وافق الحق فقط، وذلك بعرضها على القصص الواردة في القرآن وما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم من الأخبار، فإن رأيتُ الخبر الذي ورد عند الصحابة والتابعين وأهل الكتاب موافقا له، وكان فيه زيادة معلومة تقوم مقام المُبيِّن للخبر الثابت بالكتاب والأحاديث الصحيحة، قبلتها ورويتها، وأمّا ما عدا ذلك، فقد تركتها.

لذلك كل ما أعرضت عن ذكره من أخبار أو أنساب أو أسماء، هو مما ترجح عندي بطلانه، وأنه ليس إلا من وضع القصاص، الذي لا ينبغي روايته إلا للتنبيه على بطلانه، وربما أعرض عن ذكر بعض الأحاديث الصحاح، لأني قد ذكرت الخبر الذي تضمنته في رواية أخرى، إلا أنني أهملت ذكر بعض الغزوات التي وقعت في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، لأني لم أهتد إلى زمن وقوعها، ولأنه ليس في ذكرها كبير فائدة.

ومن عجيب ما رأيت وأنا أبحث في هذا التاريخ، أني وجدت القرآن العظيم، يصحح لنا التاريخ الإسلامي، فيما يخص بدء الخلق ونشأة الكون وسير الأنبياء، ويبين لنا ما زاده أهل الكتاب في كتبهم فيه، وما نقصوه، فهو ينفي ما زادوه ويكمل ما نقصوه، فجاء قصاص المسلمين ومؤرخوهم، فأعادوا هذا الغثاء إلى التاريخ الإسلامي!

كما أريد أن أنبه، إلى أن التاريخ كحلقات السلسلة، فقد تفقد بعض هذه الحلقات، فأحاول جاهدا أن أربط بين الحلقتين المنقطعتين، بناء على ما يغلب على ظني من سياق الأحداث.

إن أصبت في هذا الكتاب فالفضل لله وحده لا شريك له، وبتوفيقه لي وهدايته، وإن أخطأت في شيء منه، فمن نفسي والشيطان، واستغفر الله وأتوب إليه.

وأريد أن أنبه، إلى أن كتابي هذا، هو أصل كتابي: من البداية وحتى النهاية، فمن أراد قراءة تاريخ بدء الخلق ونشأة الكون وسير الأنبياء وعلامات الساعة وأهوال يوم القيامة بأسلوب أدبي ممتع، فليطالع كتابي المذكور.

والله اسأل الهداية والتوفيق.